لمحات من بعض الزيارات الملكية لمدينة بريدة
د. عبدالعزيز بن سليمان المقبل
الملك عبدالعزيز
كان الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - لا يزور القصيم يوماً، بل يمكث فيه شهراً كاملاً، وليس ذلك الا دليل المحبة والتقدير لهذا البلد العزيز، فهم اهل عز ودين وحمية»، هذا ما حدث به صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز امام الملأ في قصر الضيافة ببريدة في 12/4/1427ه( وهو ادرى بأحوال أبيه وأحفظ لتاريخه، وسار أبناؤه من الملوك على خطاه فتكررت زياراتهم لهذه المنطقة وعلى رأسها قاعدتها وعاصمتها مدينة بريدة، وهذه اشارات سريعة حسب ما تسمح به المساحة هنا وإلا فإن الكلام طويل.
لقد كان الملك رحمه الله كثير التردد على مدينة بريدة ابان توحيد البلاد وبعده، ولا تحصى زياراته لهذه المدينة، لما يجد عند اهلها من التأييد المادي والمعنوي، والمؤازة بالنفس والنفيس، وكان الملك كما يحدثنا الرواة يزور مدينة بريدة كل سنة، وأذكر هنا نماذج من زياراته المتأخرة فقط.
ففي سنة 1346ه قدم الملك عبدالعزيز الى مدينة بريدة بموكب عظيم ونزل قصر الحكم فيها، وكان هذا ابان الخلاف مع الإخوان، فأراد اهالي بريدة ان يظهروا تأييدهم له ووقوفهم معه في احلك الساعات وأشد الظروف وان كانوا قد تعودوا على زياراته التي لا تعد ولا تحصى، فتهيأوا لاستقباله وأغلقوا دكاكينهم وعطلوا اسواقهم وجميع اعمالهم وخرجوا من بعد صلاة الفجر الى «جردة بريدة» ينتظرونه، وصفوا صفوقا ورتبوا انفسهم لا يتركون اماكنهم الا ان تقام صلاة فريضة فيؤدونها ويرجعون مسرعين الي مواضعهم، قال الشيخ ابراهيم بن عبيد: «ولقد شاهدت ذلك الاستقبال في حال صغر سني فما رأيت استقبالاً اعظم ولا أبهى ولا أهيب منه» وما زالوا على حالهم حتى قدم الملك بريدة غروب الشمس من ذلك اليوم، فرحب الأهالي به غاية الترحيب وقدموا له كل غال ونفيس.
ومن انشراح صدر الملك وسروره بما رآه فقد دار في تلك الليلة على اربعة عشر بيتا من بيوت اهالي بريدة، يتناول عندهم الضيافة العربية ويأخذ ويعطي معهم فيما يهم الدولة والرعية.
وفي سنة 1357ه قدم الملك عبدالعزيز الى مدينة بريدة ومعه ثلاثون من انجاله، ونزل حي التغيرة، وكان معه خمسة آلاف خيمة، ومن الجنود ثلاثون الفا، وأكثر من الفي سيارة، وأقام اياما في بريدة ثم اتجه الى حائل.
وفي سنة 1360ه عزم الملك عبدالعزيز على زيارة مدينة بريدة، فأصلحت الطرق الترابية، وقدم الملك يصحبه انجاله ومعه ولي عهده سعود، ونزل حي التغيرة وكان قد اعد له ما يليق بمقامه، وكانت زيارته هذه بالمراسم العسكرية ولأول مرة، وأضيء الموقع بالكهرباء، وكان استقبال الأهالي له عظيما وحافلاً.
ويحكي الشيخ ابراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن قصة له في هذه الزيارة مع الملك عبدالعزيز، فمما ذكر انه ذهب مع وفد من طلبة العلم الى الملك للسلام عليه وبعد ان اديرت القهوة تكلم الملك معهم ومما قال: «يا اخواني سبحان من يغير ولا يتغير، وان الدنيا مآلها الى الفناء والزوال، ويكفينا عبرة سكان هذه البقاع الخاوية (ويشير بيده الى جهة الغرب يريد بلدة الشماس القديمة التي اندثرت واحتوتها مدينة بريدة) يا اخواني كأنه لم يسكن. اخواني: ان العز في طاعة الله تعالى، اما الدنيا فإنها تمضي على ما كانت حلاوة ومرارة، نحن لا نخشى من الناس وإنما نخشى من انفسنا، ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهذه الدنيا وان حذرنا منها فكلنا لا ننتهي عن الركون اليها كما قيل: «الدنيا دواهي وكل عنها ناهي وهو غير متناهي».
قال الشيخ: فأحببت ان اشجعه على القيام بأمر الله وإن كان لم يقصر رفع الله منازله في جنات النعيم وجزاه عن الإسلام وأهله خيراً فقلت له: ان امام هذه الدعوة محمد بن عبدالوهاب قال لجدكم محمد بن سعود: ان قمتم بهذا الأمر فلا يقاومكم احد الا ان كانت هذه العنز تقاوم هذا الجبل، فأعجبه ذلك وتأثر قائلاً: نخشى عدم القيام بهذا الأمر غير اننا نسأل الله المعونة.
وتميزت زيارة الملك سنة 1366ه لمدينة بريدة بأنها كانت زيارة مشهودة ومشهورة، ذلك ان الملك امر ان يؤسس للقصيم مطار جديد في مدينة بريدة، فكان موقعه في «الودي» مكان جامع الراجحي حالياً وما حوله، ونصب مخيم ضخم في حي التغيرة بلغت مساحته تسعمائة الف متر مربع تقريباً، فلما ان كان صباح 17 ربيع الثاني من تلك السنة خرج اهالي بريدة بأعداد غفيرة وجموع كبيرة الى المطار انتظاراً لوصول الملك، وفي تمام الساعة الثانية والربع صباحاً بالتوقيت العربي هبطت طائرة الملك وسبع طائرات اخرى، وبصحبة الملك انجاله وحرسه الخاص.
ولما ان كان هذا اول قدوم للملك بالطائرة فقد كان حدثاً مؤرخاً ومشهوراً، وقدر من حضر في تلك اللحظة بالآلاف، وهتف الناس به ينشدون ومنه قولهم:
قدم الذيب مسوين المطار
مرحبا بالإمام ابن الإمام
والقى الأستاذ صالح بن سليمان العمري قصيدة رائعة ترحيباً بالملك ومنها قوله:
بشراك يا ملك الاسلام بشراكا
وخادم الحرمين المجد مسعاكا
فللقصيم وبالإخلاص تعرفه
شوق عظيم الى لقيا محياك
كأنما شوقه والساكنين به
شوق المتيم يعقوب لرؤياكا
هذا قليل من الشعب الوفي لمن
يحمي حمى الدين والأوطان شرواكا
ثم قام اهالي بريدة في ليلة اليوم التالي باستعراض بديع امام الملك بقيادة أمير القصيم عبدالله بن فيصل بن فرحان، وهم يهزجون الأناشيد ويضربون الدفوف، وفي صبيحة اليوم التالي تمنطق كل واحد منهم بسيف او بندقية وصفوا صفين امام قصر الحكم في بريدة ثم مشوا من ذلك الموضع ونزلوا «الخبيب» بطول اربعة كيلو، وهم يضربون الدفوف فكان لهم جلبة عظيمة ومنظر مهيب، واستمر الاستعراض ست ساعات واطلق الرصاص في الهواء، وكان الملك حاضراً هذا الاستعراض البهيج، وأعيد الاستعراض في اليوم التالي مرة اخرى، وقد قدر عدد الذين اشتركوا في الاستعراض بستين الفاً.
وأعجب الملك بما رآه وسره هذا المنظر البديع الذي ظهر منه حماسة الأهلي وتأييدهم للملك وفرحتهم به.
ثم ذهب الملك الى حائل وأقام فيه يومين ثم رجع الى بريدة فاستقبله الأهالي في المطار وازدحموا للسلام عليه وهو يبتسم عجباً من محبتهم له، ثم اقام في بريدة الى 17 جمادي الأولي، فرحل في صبيحة ذلك اليوم وهو يوم الثلاثاء مستقلاً طائرته الخاصة، فكانت اقامته في بريدة قرابة شهر كامل.
ومن الطريف ان كبار اهل بريدة قالوا للملك: إنا نخشى عليك من هذه الطائرات فنرى الا تركبها، وذلك لمحبتهم له وخوفهم عليه، فرد عليهم الملك: انا متوكل على الله!.
الملك سعود
لقد زار الملك سعود مدينة بريدة ثلاث مرات، كانت المرة الأولى بعد ان تولى الملك بثلاثة اشهر، ففي 1/6/1373ه جاء الخبر بنية الملك سعود لزيارة مدينة بريدة، فنشط الأهالي للاستعداد لاستقبال الملك بما يليق به، فزينت المدينة بأقواس النصر والأعلام والأنوار وأغلقت المحال التجارية وعطلت اغلب الأعمال، فلما كان صباح يوم الأحد 11/6 خرج الأهالي وطلاب المدارس وصفوا صفين يرحبون بالملك، قال والدي: كنا صغاراً لما خرجنا لاستقباله فحضر الخياطون ووزعت علينا الثياب البيض والغتر البيضاء والسراويل، وكانت الأناشيد تصدح بمكبرات الصوت من فوق اقواس النصر، وبعد ان انتهينا من اسقباله اطعمونا ووزعوا على كل واحد منا ثلاثون ريالاً فضة.
وكان موضع الاستقبال مكان الورش في الشارع التجاري الحالي، ويقدر عدد من حضر بمائة الف، ثم اقيم حفل القيت فيه الكلمات الترحيبية والقصائد والأناشيد فرحة بالمقدم الميمون، وعلى الرغم من طول رحلة الملك والجهد الذي بدا عليه الا انه بقي وقتا طويلاً مع الأهالي استبشارا بما رأى واغتباطا بهذا الاستقبال، وبعد الغداء انتقل الملك الى داخل بريدة وكانت صفوف الطلاب على طول الطريق تهتف مرحبة به وتلقي القصائد وتهزج بالأناشيد، ودار الملك على بيوت المشايخ والعلماء تكريماً لهم.
وكان اقيم للملك مخيم كبير قرب حي الشماس، والاحتفالات مستمرة في اماكن متعددة طوال ثلاثة ايام، ثم انطلق في زيارات لمدن القصيم الأخرى يعود بعدها في كل ليلة الى مقره في بريدة لمدة اربعة ايام، قال والدي: وكان الملك يدور في شوارع مدينة بريدة والناس وقوف كل امام منزله وبيده دلة القهوة فيقف الملك ويأخذ الفنجان ثم يأمر بصرف مبلغ من المال للرجل، فكان يوماً لا ينسى وحدثا يلهج به الى الآن.
وكل من القى كلمة او خطبة او قصيدة في اي مكان من اماكن الاحتفالات يعطى مائتا ريال.
اما الزيارة الثانية للملك سعود فكانت سنة 1377ه ، ففي يوم الأربعاء 27 جمادى الأولى قدم الملك سعود الى مدينة بريدة فاستقبل بحفاوة في المطار، وكانت المدينة قد تزينت بأبهى مما فعلت له من قبل، وأقيم حفل ترحيبي للملك في مطار بريدة القيت فيه الخطب والقصائد، ثم انتقل الى مخيم عظيم اعده له اهالي بريدة في الشماس، وجدد الترحيب به وعملت وليمة فخمة احتفاء بالمليك، وبعد صلاة العصر زار القاضي عبدالله بن محمد بن حميد، ثم زار المكتبة العلمية، ونتقل في زيارات لبعض المشايخ والأعيان، وبعدها ذهب لاحتفال هيئة التعليم في ربعة وهطان (حي السلام حالياً) وحضر بعض المباريات الرياضية، ثم زار عين آل راشد بوهطان وصلى المغرب هناك، وتناول طعام العشاء في قصر الأمير محمد بن بتال.
وفي يوم الخميس التالي زار الملك المعهد العلمي وسمع بعض الخطب والكلمات ومن الطريف ان الجزارين في بريدة اقاموا للملك احتفالاً في شارعهم وعطلوا اعمالهم ثلاثة ايام فلم يذبح للبيع شيء في يومين لانشغالهم بالإعداد لاحتفالهم، وقد زارهم الملك بعد ان خرج من المعهد العلمي وجلس بينهم وقدموا له عشرين من النياق فقبلها وشكرهم.
وفي يوم الجمعة صلى الملك بالمسجد الجامع ثم سار الى عنيزة وبقي فيها الى أذان العصر ورجع منها الى بريدة حيث ودع الأهالي وخرج الى مخيمه في البطين.
والزيارة الثالثة للملك سعود كانت في 25/4/1379ه ، ففي يوم الثلاثاء قدم الملك سعود الى مدينة بريدة فخرج الأهالي بأعداد غفيرة لاستقباله ثمانون الفا او يزيدون، وأنزلته العائلة الكريمة ذات الأفضال الجميلة والكثيرة آل راشد الحميد بيوتهم الجديدة في الراشديات (احد احياء بريدة الشمالية) بعد ان اجتهدوا في تأثيثهن بأفضل الأثاث وأفخمه، وخلال وجود ه حضر حفل التعليم في مدرسة الخالدية، وبقي في مدينة بريدة الى يوم الجمعة، فحضر خطبة الجمعة في جامع بريدة، وكان الخطيب الشيخ محمد بن عبدالله بن حميد، فلما انتهى من الخطبة ونزل للصلاة قال: «يتقدم الإمام الأعظم ليؤمكم في الصلاة»، فتقدم الملك وصلى بالناس، وقرأ بالركعة الأولى الضحى وفي الثانية الشرح، ثم زار بعض مدن القصيم ورجع يوم الاثنين 1/5 وفي آخر ذلك اليوم سافر منها الى حائل.
الملك فيصل
قدم الملك مدينة بريدة في 9/1/1393ه ، ولا تزال ذكريات استقباله وأنا صغير راسخة في ذهني، فقد كنت حينها في ثاني ابتدائي فأخذونا الى شمال المدينة وصففنا صفين وقد لبسنا الثياب البيضاء والغتر البيضاء ووزعوا علينا اعلاماً خضراء صغيرة، فلما قدم الملك بموكبه كنا نلوح بالأعلام ونهتف «حياك الله يابو عبدالله» والملك يلوح بيده مبتسماً.
وكان قد اقيم له مخيم في حي المليداء احد احياء بريدة الغربية على مساحة واسعة، وكان الوقت ربيعاً، وفي ذلك المكان يكثر الكمأ، فكان الملك اذا قام في الصباح يتمشى في تلك الاراضي ويلتقط الفقع.
وأقيم للملك احتفال بهيج وكبير في مخيمه ضم جميع مدن وقرى القصيم، وسارت امامه مواكب كل مدينة وبلدة وكلهم تحت علم واحد.
aiziz8@hotmail.com
نقلاً عن صحيفة الرياض :
http://www.alriyadh.com/2006/06/15/article163574.html