عترافات
ا ومضى أسبوع كما قدرت على هذا النمط من العذاب ، وصعدت من جديد إلى التحقيق بنفس الكيفية : مكلبشاً ومطمشاً وعارياً من كل شيء وجلست غصباً عني جلسة الخضوع . وأتاني الصوت من جديد يقول :
اسمع ولا .. نحن لدينا كل المعلومات عنك . ونعرفك من أول يوم أتيت فيه إلى هنا وكل مهمات القتل التي أحضرتها لهؤلاء المجرمين .. وكل واحد انقتل هو برقبتك . والآن قل لنا مع من كنت تتصل .
كانت اللهجة العلوية للمتحدث وللأشخاص الذين حوله هي الشيىء الوحيد الذي استطعت تمييزه حولي ، وكان الإعتراف على مسؤولي الجديد وخيوط الإتصال التي نَمَتْ بعد اعتقال سالم هي الأهداف التي يريدونني أن أصل بهم إليها بأسرع وقت . وعدا ذلك فالإرهاب والمجاهيل كانت تلفني من كل مكان . وعلى الرغم من هول موقفي إلا أنني استطعت أن التقط وسط هذه الدوامة المرعبة صوت امرأة يأتي من غرفة تحقيق أخرى كما يبدو وهي في موضع المساءلة والإتهام ، فزادني الأمر توتراً وتشتتاً ، لكنني استجمعت ما استطعت جَلَدي وقتها وقلت :
أنا لا أعرف أحداً إلا مازن . هو الذي كان يعطيني الرسائل ويطلب مني أن أوصلها لأبي الفرج .
قال : ألم يكن هناك إلا أبو الفرج ولا ؟
قلت وقلبي يكاد من طرقاته ينخلع من صدري خشية أن يكون سالم قد اعترف علي بالمزيد : أنا لا أعرف إلا أبا الفرج .
قال : والدكتور صالح ولا .. ماذا كان رده عندما أبلغته الرسالة ؟
قلت : استقبلني .. وضيفني فنجان قهوة ومضيت .
قال : وعندما ذهب إلى الأردن .. هل التقيته هناك ؟
قلت : أنا طالب في الجامعة هنا فكيف أذهب وألتقيه هناك !
وأتاني صوت سائل آخر : ألم تدخل سلاحاً ولا ؟
قلت بإصرار : أبداً .
قال : ولا أموال ؟
قلت : ولا قرش .
قال : طيب انقلع الآن .
ونزلت إلى الزنزانة ليلتها من غير أن يضربوني . ومضى يوم آخر من غير تعذيب أو تحقيق ، استدعوني بعدها وكانت الساعة بتقديري قد جاوزت الثانية بعد منتصف الليل .
مائدة اللئام
دخلت غرفة التحقيق مكلبشاً مكبلاً ومعرى ككل مرة ، وسرعان ما شممت رائحة خمر وطعام تملؤ المكان . وسألني أحدهم :
هل أنت جائع ؟ إذا أردت أن تأكل فتعال .
قلت وأنا لا أدري أهي دعابة منه أم محض سخرية :
لست جائعاً !
ومضى الجمع في تناول الطعام واحتساء الخمر وتبادل الحديث البذيء وأنا بين أيديهم جاثياً معرى تصلني أصوات المضغ وكركعة الشراب لا حول لي ولا قوة . لكنني تمكنت هذه المرة من أن أختطف نظرة على المكان ومن فيه من تحت تلك الطماشة التي انزاحت كما يبدو عن عيني برهة . وعلى الرغم من حالة الخوف التي تتملك السجين .. وبرغم الجو الإرهابي الذي أحاطني على مدار الأيام الخالية استطعت أن أحس من خلال تلك اللمحة العجلى ظلال الخوف والتوتر ترتسم على معالم الضباط المحققين . أحسستها من محاولاتهم الجاهدة إخفاء وجوههم وشخصياتهم عني وأنا المكبل الأسير وهم المتمكنون الطلقاء . ومن همهماتهم بعض الأحيان وإشاراتهم وتغامزهم مع بعضهم البعض . وأحسستها من ذلك السرير بطرف الغرفة الذي لا بد أنهم إذا أنهكتهم التحقيقات ناموا فيه من غير أن يجرؤوا في تلك الفترة على مغادرة الفرع خوفاً من أن تطالهم رصاصة واحد من المجاهدين .
لكن حالة الإنتشاء تلك لم تطل بي . ولم يلبث أن أتاني السؤال :
محمد ولا . هل تعرف أحداً من الإخوان الهاربين في الأردن ؟
قلت : لا .. لا أعرف أي أحد .
قال : أين تسكن هناك ؟
قلت : في الزرقاء . في العنوان الفلاني بشارع الفاروق .
فوجدت السائل يبادرني ويقول : بالقرب من المركز الإسلامي إذاً .
قلت وقد فاجأتني معرفته للمدينة وشوارعها بهذا التفصيل : نعم !
قال : ألم تر أياً منهم هناك ؟
أجبت : أنا لا أذهب إلى المركز .
قال : ألا تصلي ؟
قلت : نعم ، ولكن في المسجد .
قال : وهناك في المسجد ألم تر ناساً سوريين ؟
قلت : ربما ، لكنني لا أعرف اسم أي منهم .
وتبدل الحال هذه المرة ، وصاح المحقق بالعنصر ليأخذني إلى التعذيب ، وعادت الكبلات تهوي على بدني المنهك بلا رحمة ، ومزقتني صعقات الكهرباء من جديد ، وغبت ككل مرة عن الوعي آخر الأمر ، ووجدتني في الزنزانة حينما صحوت ملابسي مكومة بجانبي والدم يسيل من كل مكان كان قد اندملت الجروح فيه ، وسرعان ما أتى العنصر فساقني في الليلة نفسها إلى التحقيق ، ووجدت سالم معي في نفس المكان ، والمحقق يسألني من غير مقدمات :
متى التقيت بسالم أول مرة ولا ؟
قلت : في شهر شباط 1980 .
قال : أين ؟
قلت : أظن أنه أتى مع مازن إلى بيتي .
ولم أكد أتفوه بذلك حتى أتتني ركلة من وراء ظهري أحسست أن عيني خرجتا معها من محجريهما ، وناداني أحدهم بتشفي :
زارك بالدار أم التقيته عند مسجد خالد ولا ؟
قلت : والله ما عدت أذكر .
قال موجهاً حديثة لسالم : ما رأيك يا أبو الفرج ؟
أجاب سالم : صحيح سيدي .. التقينا عند مسجد خالد وصلينا المغرب هناك .. وكان ذلك بداية تعرفنا عليه .
قال المحقق موجهاً الحديث لي من جديد : وإذا كنت زلمة بتعمل خير ولا .. ليش لتلتقوا بالجامع وانت تعرف أن هناك مخربين وعصابة مجرمين في البلد ؟
قلت : أنا ذهبت بطبيعة الحال مع مازن لنصلي ، وهناك التقينا مع أبي الفرج .
قال ولهجة التهديد المرعب ناطقة على نبرته هذه المرة : اسمع ولا .. إما أن تحكي الصحيح أو تنتهي .. فهمت ؟
أحسست أن الأمر بلغ حده ، وأن اعترافات سالم والمعلومات التي توفرت لهم لن تعفيني من الإصرار على الإنكار ، وأنه صار علي الآن أن أقدم لهم شيئاً ما يدفع عني شرهم .. فقلت :
الحقيقة أنا ليست لي علاقة بالموضوع من قريب ولا بعيد في البداية ، لكنني عرفت في الأخير أن هؤلاء من الإخوان وأنهم يقومون بشيء ما .. ولكن أنا ليست لي أي علاقة .
ومن غير أن أسمع تعليقاً على هذا الكلام أشار كأنما إلى الجلاد فجذبني بعنف ، ورماني في غرفة التعذيب المجاورة وأطلق عصيه وأدوات التعذيب علي ، لكنني نزلت هذه المرة إلى الزنزانة صاحياً ولم يغم علي ، وبعد قرابة الساعتين عادوا فاستدعوني إلى المحقق الذي ابتدرني بلهجة حازمة يقول :
اسمع ولا .. هلق بدك تحكي لنا من طق طق لسلام عليكم .. احك كل شيء تعرفه من ساعة ما طلعت من ... أمك
صراع مع النفس
كانت رهيبة تلك اللحظات بشكل لا يتصوره أحد . أجثو بين أيدي هؤلاء الظلمة كشاة لا حول لها ولا قوة .. مكشوف العورة مفضوح الأسرار . وجسدي كله لعبة بأيديهم يلهون به ويَعْدون عليه بلا رحمة . ومن غرفة التعذيب المجاورة يصلني صوت أخ آخر يستغيث ويصيح .. وهتاف مرٌّ بداخلي يقول لي : تكلم وإلا فالدور عليك ، والصراخ سيخرج للتو من جوفك أنت ! ولا تلبث أنفاس الرحمة أن تنساب في روحي وتهمس بي أن الإعتراف لن يعفيك أيضاً ، فإدانة نفسك تعني المزيد من التعذيب لتعترف بالمزيد من الأسرار ، والمصير في النهاية هو الإعدام المحقق ، مثلما تعني أن إخوة آخرين سيأتون هنا ليلاقوا كل هذا الذي لاقيت وربما أكثر .. وستكر السلسلة ويزداد الضحايا من غير أن ينجو منكم أحد .
دارت هذه الخواطر كلها في خاطري كلمحة برق ، وبدأت أسرد على المحققين الرواية ذاتها موحياً إليهم أنني انهرت وهذا كل ما لدي . وعلمت فيما بعد أنهم كانوا قد استدعوا سالم والدكتور صالح وسألوهما إن كنت أعرف عن محتوى الرسائل شيئاً فنفى الإثنان . وساعدني ذلك كثيراً ولله الحمد .
غير أن الأمر لم ينته ، وتعطشهم لمزيد من الأسماء ومزيد من الضحايا جعلهم يعيدونني إلى غرفة التعذيب ، وأسلموني ثلاثة أيام متواليات إلى الجلادين من غير سؤال أو استفسار . ثم كانت جلسة التحقيق الأخير ، وحاولوا للمرة الأخيرة أن يعتصروا كل معلومة أو اسم ربما لا أزال أحتفظ به ، وألحوا على أسماء المراسلين بالتحديد ، فثبتني الله ولم أذكر اسم أي إنسان بفضل الله ، وأصررت على أن صلتي الوحيدة كانت مع سالم إضافة إلى لقائي بالدكتور صالح تلك المرة . فأرسلوني من جديد إلى غرفة التعذيب ، لأجد من الأهوال ما أنساني كل الذي لاقيت من قبل هناك !
وانقضت ربما خمس أو ست ساعات علي هذه المرة يتعاقب علي الجلادون وأدوات التعذيب بشكل وقاكم الله شره . وعندما صحوت على نفسي في الزنزانة وجدتني على حافة الهلاك بالفعل . لا أتحسس موضعاً في بدني إلا وجدته مدمى أو مصاباً يشتعل من الألم كما تشتعل في الرماد النار !