[align=center]
لو كانت مدينة بريدة واقعة في الأجواء المعتدلة حيث الهواء العليل , ترفل بالجو الشجي , وتتمخطر بالنسمات المذيبة , ولو ( أقول لو ) كانت فتياتها تخطر في الشوارع غاديات ورائحات ؛ لكنت ممن يهوى المداومة على أن يكون في البلكونة , إذ سأستنشق الهواء العليل ؛ وسأستمتع برؤية تلك المناظر الجميلة من اللاتي خلقن رياحين للشم والضم , سأسمع حديثهن وضحكاتهن , فأنظر إليهن وهن ينظرن إلى ( قرطبة ) , فإذا بهن يتمنين أن يكنَّ بجواري , حيث تجود بنيات الأفكار بمقالات محبوكة , فأسعد بهنَّ , وهنَّ سيفترن عن ثغر أغنٍّ فيه من الغنج ما فيه .
بلكونتي , تُطل على طريق عمر بن الخطاب , وتلك الأحياء التي عليه كأنها من خارج بريدة , فالجمال يضوع في فتيات هاتيك الأحياء , وحداثة العمران تنثر بعضًا من السحر إن لم يكن كله , وكم تخيلت أن يكون فيه مسيرة لحسناوات بريدة في يوم مجموع له الناس , يومذاك ؛ يعمر قلبي الأرق برؤيـتهن , ويتشوق إلى رسم قدودهن على صفحات أوراقي كلمة كلمة .
حياتنا كـئيبة , فكأننا في سجن قد دُهنت حيطانه بلون السواد ؛ نكايةً في عذابات السجين , ووأدًا لمباهج حياة الطبيعة الخضراء , فكأن الحياة الدنيا زنازين سجون متلاصقة , والناس قابعون فيها كما الأغنام في مسالخ الذَّبح , فكان أن تجسَّد فينا قبح اللهجة , وقبح التعامل , وخرجت الأجيال عابسة بلا ملامح للجمال , فإذا نحن بإفلاس ينقطع نظيره من السعادة . . . , حقًا ؛ إن الدنيا في مدينـتنا سجن المؤمن .
كأن ديارنا ليست لنا , وكأن أحدًا لم يأمرنا أن ننعم بالمال , فهو مقتصر على المأكول والمشروب والمركوب , وإن ركبنا فإلامَ نذهب ؟ ! . . . حتى بيوتنا توحي للرائين من الخارج من أنها سجون بمسمى فلل ومنازل , وما هي – لعمري – إلا مغارات وكهوف من داخلها , فقلما نُعنى بالأثاث الأثير , وقلما نُعنى بالأشجار التي تحفها من كل جانب , فلا ورد ولا أزهار , فترى الطير لا يأنس في أن يقف على حجر من أحجارها , وإنما يهرب سريعًا لا يلوي على شيء , إنها جُدر صماء يتخللها نوافذ , ولو كان الإنسان لا يقيم وزناً للهواء لجعلناها بلا نوافذ .
لقد أعطانا الله المال حين أوجد الذهب الأسود في أرضنا , لكننا لسنا ممن يجيد الإنفاق على أشياء ترد الروح وتطيل في الأعمار , وإنما نموت ولمّا أخذنا حظنا من حياتنا , فنحن أموات بمسمى أحياء , فلا أطال الله أعمارنا حين دفـنّا أنفسنا بأيدينا .
لقد حفَّر الشباب شوارعنا بكثرة دورانهم في الأحياء , فلا يملون من امتطاء صهوة سياراتهم , وإن راموا البديل فهم في شكاية من انعدام الأماكن الحسنة التي تحتويهم , وما العوائل بأقل شكوى منهم , فليتنا كنا كما الدول المجاورة , ولكن ؛ هل تنفع شيئًا ليتُ .
طالما غاب الشاب الأعزب والمتزوج عن البيت الساعات الطوال حين رغب في أن يكون من سامري الاستراحات , حيث يرى فيها ما حُجب عنه في محيطه , ويزاول حرية مسلوبة , فنهي الدين بينه وبين ربه , لكن المجتمع بتقاليده لا يرحمه , فهو يتخفى عن الأنظار حين كان الحياء شعبة من شعب الإيمان , فلو كانت جلسة البلكونة بتلك الهيئة لما نأى الشاب بجانبه عن أهله ومنـزله .
جلستي في البلكونة بتلك الهيئة أعذب عندي من سفر إلى الخارج , وأحبُّ إليَّ من مسامرة نديم من غير الملهمات , فمتى تجلسون في البلكونة مثل جلستي ؟ !![/align]
العرض الشجري