أما قبل ..
فأرجو أن يكون صدر هذه الساحة مفتوحا للطرح النقدي ..
وأرجو ألا تكون مقصورة على النصوص الإبداعية ..
والنقد قسيم الأدب وتوأمه
* * *
في إحدى ليالي الصيف ذات عام كان روح التميمي معزوما على العشاء في إحدى (نُقر) المصفّر المجيد .. وبعد وجبة عشاء دسمة تجمد فيها الدهن على الأصابع , جرى حوار أدبي حول الشعر والمعاناة .. وقيل حينها كلام كثير , وأذكر أن مما قلته هناك : أن الشعر المؤثر يحكمه الصدق الانفعالي , والصدق الانفعالي أو الشعوري قد يكون واقعيا وقد يكون مفتعلا , وكلاهما في دنيا الأدب صدق ! ..وتفسير ذلك أن الشاعر عندما يعبر عن الوجدان ويغوص في أعماق الموقف يكون بين حالتين : فإما أن يكون غوصه نابعا من معاناة حقيقية تمده بالوقود الأدبي , من خلال تدافع الشحنات الوجدانية على شعوره وحواسه فينفعل بها ليشطر من خلال ذلك التفاعل ذرة الإبداع .. وهذا هو الصدق الواقعي ..وقد يتلبس حالة شعورية معينة , ويتقمص دورها الوجداني , فيعبر عن انفعالاتها .. وهذا هو الصدق الشعوري أو الانفعالي المفتعل . والتقمص وإن لم يكن محتواه وما يفرزه حقيقيا على مستوى الواقع , إلا أنه يوصف بالصدق إذا أجاد الشاعر الدخول في الحالة التي يعبر عنها , واستطاع أن يعبر عن مشاعرها .
والشيء المؤكد أن الصدق الشعوري الانفعالي الواقعي أكثر مجالا للإبداع من الصدق الشعوري الانفعالي المفتعل , وقديما قالت العرب : ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى ! لكن قد تكون قصيدة الصدق المفتعل أقوى من قصيدة الصدق الواقعي , والسبب يعود إلى قدرة الشاعر لا إلى تأثير الموقف وحقيقة التعبير .
ولعلكم تذكرون بيت البحتري الشهير الذي قاله احتجاجا على اندفاع الشعراء في عصره ـ وعلى رأسهم أبو تمام وابن الرومي طبعا ـ وراء الثقافة اليونانية التي راجت حينها بعد ترجمة كتب المنطق والفلسفة اليونانية , وتوظيف ذلك في الشعر .. حيث قال :
[poem=font="Simplified Arabic,5,crimson,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
كلفتمونا حدود منطقكم=والشعر يغني عن صدقه كذبه ![/poem]
والكذب الذي يقصده الشاعر ليس هو الكذب الذي يعمد إلى إخفاء الحقيقة .. بل هو الخيال الذي يصف حالة وموقفا نفسيا معينا دون أن يكون لذلك الموقف وتلك الحالة وجود في الواقع ..!
والشعراء المبدعون الذين أمتعونا بقصائدهم الخالدة عبر التاريخ ليس بالضرورة أن تكون قصائدهم وليدة حالة شعورية واقعية وهي ما نسميه بالمعاناة .. بل أغلبها ـ وفق ما أرى ـ جاء نتيجة تقمص ذلك الموقف أو تلك الحالة .
ومن هنا يتأكد أن الكلام مهما كان نوعه شعرا كان أم نثرا , لا يكون مؤثرا مالم يتصف بالصدق , والصدق كما أسلفت قد يكون واقعيا أو مفتعلا .. وقد قالت العرب : الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب , وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان ..!
والمشكلة التي تمثل قضية كبرى في الأدب هي عدم إدراك كثير من العامة لحقيقة وطبيعة الأدب , فهم يخلطون بين الخيال والواقع .. فيحاكمون الأديب شاعرا كان أو روائيا , أو ممارسا لأي شكل من أشكال الأدب على مايرد في إنتاجه من أفكار أو عبارات مخالفة للدين أو الأخلاق أو الذوق ! وينسون ذلك أو يتناسون قول المولى جل وعلا (والشعراء يتّبعهم الغاوون . ألم تر أنهم في كل واد يهيمون . وأنهم يقولون مالا يفعلون)! ولا يعني ذلك بالضرورة أن الشاعر يسمح له أن يقول ماشاء وأن يمرغ المبادىء في التراب باسم الأدب .. هذا ليس أدبا , بل خروج عن الأدب !لكن ما يرد من طرح للأفكار الضالة في النصوص على ألسنة الشخصيات في الشعر أو النثر يجب ألا يُنسب إلى المؤلف , أو يُتهم به ويحاكم عليه .
ويحضرني الآن مما يُمكن تصنيفه في هذا المجال ذلك الهجوم المكثف العاصف الذي وجهه فريق من التيار المحافظ ـ غير ممثل ـ للأديب الكبير تركي الحمد , من خلال ما ورد في رواياته الشهيرة من عبارات مخالفة للدين أو الذوق أو الأخلاق .. فقالوا فيما قالوا : إنه ملحد يقول إن الله والشيطان وجهان لعملة واحدة ! والحق أن العبارة وردت في إحدى رواياته وأظنها (العدامة) , لكنها وردت في حوار بين شخصيتين من شخصيات الرواية .. فقد قالها ـ على ما أذكر ـ أحد المنتمين إلى التيار الشيوعي .. والشيوعي هذه عقيدته ! لكن من هاجم تركي الحمد نسب العبارة إليه , وقال إنه يعتقد هذا الاعتقاد ! .. وأكثر من روّج لهذه الفرية لم يقرأ الرواية , ولا يعلم شيئا عن سياقها ! مجرد كلمة سمعها وطار بها دون أن يتثبت منها ومن حقيقتها .. وهذا تطرف ظالم , وحماقة كبرى تؤثر سلبا على سمعة التيار المحافظ الذي ينتمي إليه معظمنا ـ وأرجو أن أكون من هذا المعظم ـ وعلى عدالته ومصداقيته , وقد قيل : ومن الحب ما قتل ! وهذا أسلوب يُصنف في دائرة التعصب المضل , وقد قال المولى جل وعلى (إن الله يأمر بالعدل) وهذا مخالف للعدل , والمخالف للعدل مخالف لهدي الشريعة .
نحن نختلف كثيرا جدا مع الدكتور تركي الحمد على مستوى الفكر والسلوك , وإن كانت هذه الأخيرة لا يحق لأحد أن يخوض فيها لأنها شأن شخصي لا يجوز تناولها ما لم تمس شأنا عاما .. لكن اختلافنا معه لا يعني أن نتجنّى عليه , أو أن نصادر حقوقه الأدبية والشخصية , والدكتور تركي من أهم كتّاب الرواية المعاصرين ولا شك في ذلك .