[align=center]أتت تلك الإجازة _إجازة عيد الأضحى, وكعادتي في كل عيد أضحى أقضي إجازتي في موطني [ اليمن ] لسرعة استئناف دراستي بعد العيد ، لكن ما استغربت أن أبي وأخوتي يطلبون حضوري لقضاء العيد في الدمام , ويا لفرحتي التي لا توصف حين أعددت شنطتي للسفر , وتحركت المركبة السعيدة من صنعاء متوجة إلى المنطقة الشرقية وحينما وصلت إلى الدمام ودخلت البيت , وكانت مراسم الاستقبال والفرح والسرور , في فجر اليوم الثاني أديت صلاة الفجر في مسجد الهداية تلهفاً لتقبيل رأس أبوي عثمان , لم أره في المسجد فسألت أبي فقال أنه صلى معنى لكنه أستعجل في الخروج , فقلت أقابله الظهر وحانت صلاة الظهر , وأنا أصلي تحية المسجد في الصف الأول أقصى اليمين , كي يتشرف جسدي بملامسته رحمه الله , وتكرر غيابه عن نظري فبدأ الشك والريبة يسريان في فكري , فسألت أختي الوردتين ففوجئت بخبر مرضه , دب القلق في نفسيتي وبدأت بالعتاب العفوي لعدم إخباري وأنا في صنعاء , فعرفت أن أبي منعهم من إخباري كي لا أقلق , واتصلت بعمي فهد وطلبت منه مقابلة أبوي عثمان فأخبرني أنه نائم , وبعد صلاة العشاء ذهبت لمقابلته جاوزت درج المنزل , دخلت غرفته ورأيته جالس أمامه وجبة العشاء على الطاولة , لكن ما الخطب ؟! , ألاحظ أن عمي فهد يخبره بإسم الزائر , وأخر مرة تركته كان يسمع خطوات القادم ويحدد هوية صاحبها , فعلمت أن المرض ليس بالهين , وحين ما سمع بقدومي إذ به يبتسم ابتسامة الرضا التي اعتدتها , ويح قلبي لا أراه يلتفت والحروف في جوفي تخنقها العبرة ، قبلته في رأسه ويده وبدأ بمداعبته اللطيفة المعهودة ، وقال يا دكتور أحمد كبرت في السن ولم تركب لي طقم الأسنان ، فضحكت ضحكة إرضاء لأن قلبي يشتعل من الداخل والحسرات تغلي بداخلي كالبركان تنتظر لحظة الثوران ، قال لي رحمه الله تذكرت الآن يا أحمد موقفا وأنت ابن ثلاث سنين ، قلت ما هو [ ولسان مشاعري يقول : ما هو فداك أبي وأمي وكل جوارحي ] ، قال حينما أجرى والدك عملية جراحية [ فتاق ] ، كنت خائفا عليه قلقا على صحته ، وقابلتك أنت وأختك [ التي تكبرني ] وقالت لي : أين أبي هل خرج من المستشفى ؟ ، حينها بكيت ولم أستطع استحمال منظر شوقكما له ، كان رحمه الله يذكر لي الموقف وهو يبكي بغزارة دمع [ ولسان مشاعري يقول : ويحك يا دمي ، أهنئت بدمع طاهر ذرف من عينيه ، تقطع رقبتي ويراق دمي وتفعل بي الأفاعيل مقابل دمعة تسيل على خده ] ، أراد أن يخلد إلى النوم فقام عمي فهد وعمي عبد المحسن بمساعدته لينتقل إلى السرير وكنت مساعدا بسيطا لهما ، وحينما رأيت بطء حركته وصعوبة انتقاله علمت أنه الموت .
بعد أسبوع اجتمع مع العيد عرس عمي خالد ، فطعم تلك المناسبتين كالملح الأجاج كريه المذاق ، وبعدها بخمسة أيام زاد ألمه ومرضه وصليت المغرب يومها في مسجد الهداية وصلى بجانبي صالح بن عبد الله ، وفي السجود كان يبكي ويكتم بكائه ، بعد الصلاة أوصلته إلى البيت وسألته عن سر بكائه ، فقال أن أبوي عثمان أسعف إلى مستشفى المواساة ، فطرت أنا وهو إلى هناك رأينا في المستشفى عمي محمد وعمي عبد الرحمن وعمي فهد وعمي عبد المحسن ، ورأيت جهاز النبض والضغط على جسده رحمه الله ، وجلس في المستشفى ما يقارب الخمسة أيام ، كان يشعر بمن حوله ونحن لم نلاحظ ذلك ، خرج بعدها إلى البيت لعدم ارتياحه بالمستشفى ومكث فيه نحو خمسة أيام أخرى ، ثم انتقل إلى مستشفى الملك فهد التعليمي بالخبر ، ويوم بعد يوم والحالة تسوء وتكثر الزيارات وتتعدد الوجوه على الغرفة ، وكان موعد عودتي إلى اليمن يوم الأحد ، فخرجت قبلها لأستعد للسفر وأجهز أغراضي ، عدت من العمل أنا وأبي الساعة التاسعة ليلا ، وجلسنا تقريبا لمدة ساعة فقمت متهيئا للخروج إلى السوق ، وإذا باتصال هاتفي على جوال أبي ، من المتصل ؟ إنه عمي فهد : السلام عليكم ، وعليكم السلام حياك الله عمي فهد ، أين والدك ؟ ، قلت يتوضأ سأخبره يكلمك بعد خروجه من دورة المياه ، قال : [ إيه زين خلاص يالله مع السلامة ] ، عمي فهد في شي ؟!! صوتك متغير ، قال : [ إذا انتهى من الوضوء قوله : الوالد يطلبك الحل ] ، كانت كالصاعقة في أذني والقارعة في قلبي ، شهقت تلك الشهقة وأصدرت تلك الصيحة وسقطت على الأرض مغمى علي ، ولم أشعر إلا أبي يوقظني ويسحبني ويسكب على وجهي الماء حتى أفيق ، فأيقنت أنها حقيقة ومآل لابد منه ولا مفر .
سارعت أنا وأبي وأخي وصالح بن عبد الله الغنام إلى السيارة ، وطريقنا إلى المستشفى كله بكاء ونحيب وأبي صابر يهدئ من روعنا ، دخلنا المستشفى ووصلنا إلى الغرفة فوجدنا كل أعمامي واقفين عند السرير ، وقبل وصولي إلى باب الغرفة رأيت وجها اعتدت منه البسمة والسرور ، وهو عمي محمد رأيت المدامع أغرقت وجهه ، وحبال قلبي تتقطع ، ودخلت الغرفة وأراه ممددا على السرير أسدل القماش على وجهه ، فتحت وجهه وإذا بابتسامة أنارت القسم كاملا برضائها ، وعبيرا عبق منه رحمه الله وعطر الغرفة طهارة ونقاء ، قبلته في رأسه ولم أتمالك نفسي أن بكيت وبكيت وبكيت ، ويضمني بندر في صدره ويصبرني ، أما أبي الذي ما فتئ يصبرنا ، ما إن رأى وجهه رحمه الله حتى أجهش بالبكاء ، ويمر في خاطري شريط الذكريات ، تمر المواقف والأحداث التي عايشناها معه رحمه الله ، ولم يطيب لأحد النوم تلك الليلة ، وفي صباح اليوم الثاني بمسجد الشيخ سلطان العويد ، غسل رحمه الله وشارك في غسيله عمي فهد وعمي عبد الرحمن ، وحكا لنا عمي فهد حاله رحمه الله لحظة الوفاة ، فقال : قبل وفاته بلحظات توقف النبض والضغط والجهاز الذي بجانبه ، فعرفنا أن الموت حل بدارنا وبعد توقف الأجهزة ارتفعت سبابته وهذى لسانه بالشهادة ، فلله درها من خاتمه واستمرت سبابته مرتفعة حتى وقت غسيله ، يقول عمي فهد : وقت الغسيل أصلحت من وضعية إصبعه فإذا بها تعود لهيئة الشهادة مرة أخرى فعلمت أنها كرامة ، بعد الانتهاء من غسيله أتيت إلى المسجد قبل الظهر بساعة وأدخلوه إلى الغرفة الداخلية ، استعدادا للصلاة عليه بعد الظهر ، ودخلت لأحظى بتقبيله في رأسه أستمد من إيمانه ونوره الجلي , دخلت لأحظى بنظرة ودع يعقبها فراق أليم واشتياق مرير متجرد من اللقاء , وبكيت و بكيت و بكيت حتى أخرجني عمي خالد من الغرفة .
قبل إقامة الصلاة كان الجامع ممتلئا بالمصلين, وبعد الصلاة عليه حملناه على أكتفنا إلى السيارة , وعدد من الذين حملوه يذكرون أنهم كانوا يشعرون أن هناك من يحمل معهم وهذا من الكرامات بإذن الله , وفي المقبرة بعد حفر قبره دعوت الله تعالى أن يجعل ذلك القبر المجاور لقبره من نصيبي , وكانت عودتنا إلى بيت عمي محمد لاستقبال التعازي , وكم استمر العزاء والخيمة تزدحم دون توقف , من الصباح إلى الثانية العشرة ليلا من كل يوم وهكذا ثلاثة أيام , ولم يكتمل العزاء حتى بعد الخيمة , في البيت أتت الجموع لتقديم العزاء من كل مكان , كلها مشاعر سيطر عليها الحزن والعبوس , والجمع طيب ذكراه رحمه الله تعالى .
أبوي عثمان , سنة ونصف والنور نفقده في مربعنا السكني , بل يفقده الصف الأول في المسجد بل يفقده الحي بأكمله , دموع هطلت وآن أن يفك أسرها , جفت ويأس أصحبها , كم مجاهد في سبيل الله يفقد تشجيعك , وكم أسرة منكوبة تنتظر كفالتك , كم يتيم ينتظر حنان كفك لتمسح دمعته , كم مشروع دعوي اشتاق لدعمك , ومسجد تحت البناء نقص حجره وطوبه .
أبوي عثمان , المنكوب واليتيم والأرملة والأسرة الفقيرة كلهم تثنى حزنهم فأصبح حزنين , حزنهم القديم وحزن فقدك , سنة ونصف ليست باليسيرة على ذلك المصحف الذي يشهد كل حرف فيه لك يوم القيامة بإذن الله , فموضع سجودك يحمل عبير ريحك الطيب , كم خطوات قادتها طاعتك إلى المسجد تحن لموضع قدميك أن تطأها , كل قطرة ماء تبكيك وتندب حظها تريد ملامستك وقت الوضوء , وكل كأس يبكيك بما يحتويه شوقاً في معانقة شفتيك , وكل مرآة أسودت بعد فراق صورتك الشريفة , تبكيك البواكي ولا ينفع بكائها , حتى إن قطع الدم عوارض العينين وابتلت اللحى بدموع الأنين .
أبوي عثمان ، أكتب كتابي هذا والحبر يختلط بالصياح ، والورق يغتسل بغزارة الدمع ، فسيارتك الزرقاء تذكرني فيك ، وباب الحوش يذكرني بابتسامتك ، وباب السجن الحديدي الداخلي يذكرني ببشاشتك ، مازلت أذكر حين سألتك عن صحة أمي نوره أحسن الله ختامها ، فقلت : [ يا ولدي ، الإنسان في الدنيا مثل اللي يطلع جبل يبدأ بنشاط وحيوية حتى يصل قمة الجبل ، بعدين ينزل وهو مرهق إلى سطح الأرض ، بعدها ما يقدر يتحرك وأمك نوره الحين تنزل من الجبل ] فبكيت وهدأتني بقولك [ يا ولدي العبرة مش في الحزن والبكاء ، العبرة في استعدادك لموتك ، وبعدين الأعمار بيد الله سبحانه ، لا تستبعد يمكن أنا أموت قبلها ] ، وها قد مت رحمك الله .
ويحك يا أحمد من دمع هطل من عينيك وكأنه مأسور فك سراحه من خلف القضبان .
اللهم يا من باعدت بين المشرقين وإن شئت قربت بينهما .
ويا من قسمت الأرزاق بين العباد وكتبت لهم مصيرهم في علمك .
اكتب لنا لقاءا مع أبوي عثمان في الجنة مع ذويه وأحبابه .
اللهم أسعده في الفردوس الأعلى .
واجعله في أشد الشوق للقائنا كما نشتاق للقاءه .
إنك ولي ذلك والقادر عليه .[/align]
[align=center][ من خلف القضبان دمع هطول ] ...[/align]
[align=center]ـــ انتهى ـــ[/align]