[glow=CCCC99] هاهي جحافل الليل البهيم تفرُّ هاربة من خيوط الفجر الوادع المستكين، وها هو ما زال قابعاً في حجرة عارية من ملامح الحياة.. سوى حصيرة مهترئة، وجرَّة ماء فاتر.
أضناه التفكير في خطواته الصامتة على الطرق المقفرة، وفي يديه اللتين لا تُرفعان إلا لإعلان الاستسلام، وفي لسانه المنعقد على الدوام..
قلَّب ناظريه في الأرجاء، فما وجد إلا جداراً وسقفاً ضاربين في العتمة والكآبة.. بهما من التشققات والأخاديد ما يجعله يرى فيها صورهم.. أحقادهم.. أطماعهم.. نهبهم لسبعة أيتام هو أكبرهم.
صرخ بأعلى صوته: "آه لو أتحوَّل للحظات إلى وحش؛ لأفتك بهم وبالعجز الذي يحاصرني".
هذا الهاجس يتنامى معه كل ليلة، لكن لا جدوى!!
ورغبة الانتقام تبين وتصحو معه كل يوم، لكنها تتلاشى عند الحاجة الماسَّة!!
نهض من فراشه بعزيمة جادة على الثأر من عمه وأبنائه.
سيتوجه إلى شركته مبكراً؛ ليحرجه أمام موظفيه الذين دأبوا على ترديد عبارة "المدير غير موجود اليوم"!!
اتجه نحو الباب.. أمسك بمقبضه.. أنزله للأسفل.. لكن.. تراجع في اللحظة الأخيرة.
عاد أدراجه ليجلس فوق حصيرته دافناً رأسه بين راحتيه.. زاره طيف أمه وقد انحنى ظهرها على ماكينة الخياطة؛ لتجمع حفنة مال، في حين تتكدَّس أموال أبنائها في يد عمهم يتاجر به كيف يشاء!!
ألف أمنية وأمنية راودته..
هل يسرق عمه، ولماذا يُسمي ذلك سرقة، ما دام المال ملكه وأخوته؟!
هل يلجأ إلى المحكمة، وماذا سيقول النَّاس عنه؟!
فتى لم يتجاوز العشرين يشكو عمه؟!
هل يقتله؛ ليقتل معه أطماعه التي لا تنتهي؟
وأد كل تلك الأماني الشريرة في نفسه، وليته دفنها ليرتاح منها للأبد..
فالثورة تداهمه كل حين.. تناول الجرة؛ ليشرب منها ما قد يطف غضبه.. لم يشرب.. قذف بها صوب النافذة؛ لتتهشَّم وتتحوَّل إلى قطع صغيرة وحقيرة تذكره بأمانيه!!
انكفأ على ذاته، وانخرط في بكاء مرير نفَّس به عن عجزه، وضعفه، وقهره من الظلم الذي حطَّم حياته.
عانقت خيوط الشمس أروقة المكان.. تطلَّع بهدوء إلى خيوطها الذهبية المنسابة بصمت..
حسدها، فهي تعيش بعيداً عن تفاهات البشر..
تمنَّى هذه المرة أمنية وردية.. لو يتسلَّق أشعتها، فيصعد إليها، علَّ حرارتها تذيب صمته [/glow]