المعلم يبني لنفسه تاريخاً هشاً حينما يجعل الفضيلة وسيلة
"القيمة الفاضلة" في كل زمان ومكان, هي بمثابة "قداسة" لا يحق لكائن من كان أن يستغلها أو يتسلق على أكتافها أو حتى يحترفها حرفةً جاعلاً منها وسيلة لبلوغ أمر - أياً كانت درجة أخلاقيته - أو استرزاق بمال. هي بمثابة الهالة المشعة التي يجب علينا ألاّ نشوهها أو نمس بها, القيمة الفاضلة يجب أن تكون سلوكاً فطرياً ونمطاً داخلياً لا يرضخ للتلقين أو الإملاء والإكراه, بل إنه ومن سبل احترامها ألاّ ندعيها أو نرتهنها ونحجمها.
والقيمة الفاضلة أسمى وأنبل من أن تُستغل ويشتغل بها للربحية, لأنها جامع لكل معاني النقاء والصفاء والكمال, بل هي سمة النبوة وشرط الرسالة التي لا ينبغي لبشر عادي أن يدعيها. وهي وما يحيط بها من هالة مثار الإشكال ومناط الاختلاف للمجتمع حيال نظرته "للمعلم وقيمته" ومكانته الاجتماعية والإنسانية بوجه العموم عند الكثير من شعوب الأمة العربية. كيف؟.
شخص يبشر بالفضيلة ويدعو للرفعة والسمو ويحث على المكارم ويحذر من الرذائل, وينذر من كل دنيء, ثم نراه في مكان ما وقد هتك عرض الفضيلة وأسفّ بكل محمدة ومكرمة, نراه وهو يدعو للصدق ثم في موضع آخر يحتسي الكذب ويتعاقر الخداع والمكر حتى الثمالة, نراه وهو يدعو للنظام والانضباط والمهنية ثم يقلب لتلك ظهر المجن ليمسخها مسخاً في معاملاته وتعاملاته في موضع آخر، وسنغرف من بحر إن نحن تتبعنا مظاهر وصور الكيل بمكيالين هذه.
تلك التناقضات نراها حينما كنا طلاب مدارس ونراها اليوم ونحن على رأس العمل وفي موقع المسؤولية في بعض المعلمين وممتهني مهن التعليم بأنواعها، نراها بكل فظاظتها وقبحها وبشاعتها ورائحتها النتنة فيمن رأى وجعل من الفضيلة ومكارم الأخلاق ومعاني الرفعة والسمو مهنة وحرفة "يقتات ويفتات" منها داخل أسوار المدرسة وفي دهاليزها، ثم (يفسخ) عباءة ذلك كله خارج أسوارها جاعلاً من نفسه مثالاً حياً لمدى العذاب والبؤس والظلم والسخرية التي "يرفل" بها نظام وطبيعة المعيشة والحياة السلوكية والأخلاقية التي نحياها ونتنفس نقائضها ونواقضها كل يوم.
حينما يراك طالبوك ومريدوك - أيها المعلم، وأعني البعض لا الكل - متوشحاً ومدعياً للفضيلة - وهذا الادعاء هو بداية الخلل والخور - ومملياً عليهم معانيها إملاءً, ومرغماً أنوفهم عليها إرغاماً, حتى ظنوها واعتقدوها كواجب مدرسي ينقضي بأن "يتمثلوه" داخل سور المدرسة, وحينما ينعتقون من رقها يحق لهم أن يمارسوا الرذيلة الأخلاقية المجتمعية والمصنوعة صنعاً من سلوكياتنا نحن البشر, ثم تجوز لنفسك ما كنت تحرمه عليهم من كذب وغش وخداع وظلم وتعدٍّ ولعن وسب, فإنك بذلك أيها المتكسب بالفضيلة تغرس خنجر الحقد والغيلة في خاصرة المجتمع, وتبقر بطن الفضيلة بقراً, وتجز رأس المكرمة جزاً, بل وتتعدى ذلك لأن تؤسس للمادية في أبشع صورها من انتهازية وفرط مادية في وشائج المجتمع, وأنت الظان - أيها المسكين المتمسكن - أنك مربٍ للأجيال وحاضن للفضيلة وراع للمكارم والمعارف.
إنني أبكي نفسي وأبكيك أيها المعلم وأبكي إنسانيتك لأنك بنيت لنفسك تاريخاً كرتونياً هشاً ظننته مجداً تليداً وذهباً مكنوناً بريقه يخطف الأبصار.
أخي المعلم ويا من تتكسب بمهنة لم يمتهنها غير الأنبياء المنزهين والرسل المطهرين قد ظلمت نفسك وظلمت إنسانيتك وظلمت مجتمعك حينما جعلت من الفضائل وسائل ولم تجعلها غايات. مسكين أنت أيها المعلم قد وضعت نفسك من حيث تدري ولا تدري مثالاً ومجسماً للفضيلة والنقاء وهذا ما أصابك بمقتل, مشكلتك أن المجتمع - وهذا نتاج تدنٍ ثقافي وتوعوي - قد رأى فيك نقاء الرسل وصفاء الأنبياء - هكذا يظن من حيث لا يدري - وما أنت إلا نتاج بشرية تحمل في عروقها الكثير من المتضادات الصارخة, ما أنت إلا نتاج مجتمع يزخر بأصناف من طرق الغدر والكراهية والحقد، والكثير من روائح الشيطان.
أخي المعلم, قال عبدالله القصيمي قبل عقود: "الخروج على العقيدة التي لا نستطيع الالتزام بها أسلوب من أساليب الاعتذار إليها". لا أريدك أن توغل في معاني ودلالات هذا النص, ولكن اقرأه من بعيد علك تجد فيه ما يفيد.
موسى سليمان العجلان - بريدة
http://www.alwatan.com.sa/daily/2006-06-01/readers.htm