--------------------------------------------------------------------------------
ليس كل ماتراه من ثراء ومظاهر يعكس سعادة حقيقية، فالاشكال الخارجية تخدع وتوحي بعكس الحقيقة، والانسان الناضج هو الذي يدرك ما خلف تلك الصور اللامعة ويرى الملامح الحقيقية. وتقدم الصحافة دوما قصصا لأثرياء دمرتهم ثروتهم، فالثراء يحمل بريقه في الخارج ومعاناته في الداخل.
والربط بين الثراء والسعادة اشكالية متكررة ومطروحة دائما، لكن الاجابة هذه المرة تاتي من الصين، هذا العملاق الذي بدأ يستيقظ واصبحت معدلات النمو هناك الاعلى في العالم. وبطبيعة الحال دخل الافراد ارتفع بشكل كبير مما يستدعي طرح السؤال: هل انعكس هذا النجاح الاقتصادي على سعادة الناس في الصين؟ ويرد البروفيسور «وانغ دنغ فنغ»، أستاذ علم النفس بجامعة بكين: لا .. فقد اكتشف الصينيون أنهم ليسوا إلا رجال أعمال. هويتهم المفقودة فرضت عليهم مآسي عقلية، فالتجارة حسب وصف الصينيين نهر عميق مليء بالخيرات وأشياء أخرى، ربما تحسنت دخولهم أيضا بل تضاعفت، ولكن الدراسات النفسية تشير إلى أن رغباتهم في الأشياء تضخمت بشكل فاحش بات من الصعب على رواتبهم، أيا كانت عالية، أن تلبي احتياجاتهم. والنتيجة أنه بدلا من الشعور بالرضا أمسوا يشعرون بالإحباط، تطبيق عملي لنظرية يعرفها جيدا علماء الاجتماع والنفس تسمى ثورة التوقعات المتزايدة والإحباطات المتزايدة، ومفادها أن الظروف تخلق حولك أجواء ذات سقف متحرك كلما ظننت أنك على وشك ملامسته تحرك إلى أعلى، وهكذا دواليك.
وكشف تقرير لجريدة الديلي ميل البريطانية أن الثراء المفاجىء ليس في كل الاحوال حدثا سعيدا، فقد وجد ان بعض الذين فازوا بالملايين في اليانصيب بعد سنة من حصولهم علي الثروة الضخمة يتمنون أن يعودوا الى حياتهم الأولى، قبل أن تجرفهم الاوراق النقدية، فيبتعدوا عن الناس الذين اعطوهم الحب الحقيقي ولكنهم اكتشفوه في الوقت الضائع.
وهذا لايعني ان الاثرياء محرمون من السعادة، ولكن السعادة الحقيقية تنطلق من داخل الانسان، والمادة هي العامل الاضافي، فإذا كان الانسان في داخله نقيا ومطمئنا، فالثراء سيجعله اكثر سعادة وتفاؤلا، واذا كان الأمر غير ذلك فسيجعله اكثر شقاء. ويبقى العنصر الاساسي هو طمأنينة الانسان من الداخل، وهذا ما أكدته الدراسات الاستبيانية في دراسة عن العناصر الرئيسية لجلب السعادة، إذ وجدوا أن نقص الطمأنينة والأمان يؤثر بشكل كبير على الاستقرار النفسي للانسان وسعادته.
وبعض الثراء ينعكس سلبا على اصحابه فمنهم من يشقون بثرائهم في حياتهم ويدفعون ثمنها حتى بعد رحيلهم. وكثير من القصص تكشفها وسائل الاعلام عن اثرياء امتلكوا كل ما يتمنون ولكنهم حرموا من السعادة. وربما لانعرف في مجتمعاتنا هذه القصص بحكم طبيعة الانغلاق في المجتمع والسرية. ويحرص كثير من الاثرياء على الحفاظ على الشكل الايجابي للعائلة والمظاهر التي توحي بالسعادة، لكنهم من داخلهم، يعيشون التناقض الحقيقي، أنهم فعلا تعساء. فالسعادة، كما يقول الاديب مصطفى لطفي المنفلوطي «ضمير نقي، ونفس هادئة، وقلب شريف».
إن سكينة النفس، وتعويد النفس على البذل وحب الآخرين، هي البوابة للتوافق مع الداخل. وفي الغرب نرى الاثرياء يتبرعون بمبالغ هائلة للجامعات ومراكز الابحاث والجمعيات الخيرية كجزء من اهتمامهم نحو الآخرين (الملياردير بيل جيتس يتبرع بمليار دولار سنويا للجمعيات الخيرية). وهذا ينعكس عليهم في احساسهم بالرضا عن انفسهم وبالتالي سعادتهم الشخصية.
السلام الداخلي مع النفس والتوافق معها مصدر للسعادة, وكثير منا ينسى انه حينما يغلق باباً للسعادة هناك ينفتح آخر، ولكن مشكلتنا اننا نركز نظرنا على الباب المغلق فقط ولا ننظر ابعد من ذلك. ان كل النجاح في هذا العالم والثراء يضعف عند كلمة حب صادقة.