ترددت كثيراً لمرافقه قريبتي التي أصرت أن أكون ملازمتها في تلك الرحلة المجهولة بالنسبة لعالمي , فعزمت على السير معها بعد مشاورات كانت بيني وبين نفسي ..
كانت رحلتنا البحثية الميدانية تشمل ثلاث محطات .. ولمدة لن تزيد عن الساعتين ,
فانطلقنا مستعينين بالله متوكلين عليه .
سرنا في طريق منظم هادئ نسبياً إلى أن انعطفنا بحكم العمل إلى تلك المنطقة النائية وولجنا بين طرقات متعرجة تتخللها الكثير من الانحناءات المتعبة للنفس .
مضينا وأنا أسلي نفسي بأنها مجرد ساعات معدودة وتنتهي المشكلة وما الضير في امتحان النفس في الصبر ؟
لذا قلت لا بأس .!
توقفنا عند المحطة الأولى , وبدأنا في الملمة بعدها اتجهنا نحو الباب الرئيسي لذلك المنزل الذي تهالك ورُسمت على جدرانه تصدعات نشأت بفعل الماضي العريق .
طرقنا الباب عدة طرقات أجابتها همهمات امرأة مُسّنة استقرت في أذهاننا لتجعلني أتخيل ما الذي سأراه بعد قليل .
فُتح الباب على مصراعيه لنجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام امرأة طاعنة في السن أنفاسها لاهثة تخرج بصعوبة من بين عباراتها المتقطعة , قامت بالترحيب بنا ببساطة من في عمرها ودعتنا لنتجاوز إلى مدخل البيت الوحيد القابع أمامنا بعد أن قامت قريبتي بالتعريف بشخصيتنا ..
أجابتنا في صعوبة: ( تفضلوا البيت أمامكم )
دخلنا لنتجول في البيت الذي لم يكن إلاّ أربع حجرات تراصت بجانب بعضها بشكل يوحي لناظره بعجز من بداخله .!
اتجهنا إلى ذلك المطبخ المرتمي في زاوية لم تُفصح معالمه بأنه يحمل أسمه .
وبحكم العمل فتحت قريبتي (الثلاجة الوحيدة في ذلك البيت) لتعلو الدهشة لعيني وتبلغ منتهاها تعجباً مما رأيت .,
ثلاجة تحمل اسماً فقط , ولم تحمل بداخلها أي علامات تدل على حياة من حولها .
(فارغة) , نطقتها وأنا أهمس لقريبتي علها تفسر لي الأمر ؟
أجابتني محدثة نفسها قبل أن تحدثني وعيناها تتجول بتلقائية من اعتاد على ذلك الأمر ( يحتاجون لمساعدة عاجلة) !
في داخلي ألف سؤال , تلاشى بمجرد أن لمحت وجه مضيفتنا وهي تسرد لنا قصة الكفاح المر في البحث عن لقمة العيش .
فاستندت على جدارٍ لمحته بجانبي وأذناي تستمع في ألم غلفته الشفقة لمحدثتي
قالت تلك المرأة: ثلاجتنا لها يومين وهي على تلك الحال , وأولادي ذهبوا إلى المدرسة ولم يتذوقوا أي شيء من بعد غداء الأمس الذي أرسلته جارتنا القريبة منا ..
وجدت نفسي رغماً عني أنزل رأسي لأصارع دمعة استقرت بين أهدابي وأبت إلاّ الخروج فكافحت معها لأحفظ كرامة من هي أمامي ..!
وتوجهنا إلى مدخل البيت لنخرج منه وفي القلب سكنت ألف غصة أوجدتها الزيارة التي لم تستمر لمدة ربع ساعة فقط .
انطلقنا من جديد لتستقر رحلتنا أمام المحطة التالية ..
نفس الروتين الذي لا زمنا في الجولة الأولى إلاّ أن المشهد يحوي تغيرات كتغيرات ذاتي يوم أن أقبلت عليه .!
في هذا المنزل الآخر وجدنا أنفسنا نستقبل فتاة في عمر الزهور تبلغ الخامسة عشر ويرهق كاهلها هموم نساء الأربعين .
حدثتنا بارتباك ظهر على محياها لتقودنا إلى وسط البيت وتقوم بتقديمنا لتلك الأم التي رأيناها تسُيّر ولا تُسِيّر ..
لم تكترث لزيارتنا كثيراً وتولت المهمة تلك الفتاة , لأجد قريبتي تسألها أسئلتها الروتينية التي سمعتها في الزيارة الأولى , أجابتها الفتاة لتخبرها أنها هي المسئولة الأولى في هذا المنزل بعد أن تخلت عن دراستها بحكم عامل الظروف المهلك وازدياد تبعات المسئولية , فهي ترعى أمٌ لا تعي كثيراً في تصريف أمورها , بالإضافة لثلاث أخوات يكبرنها سناً باتت علامات الجنون الصفة التي البسنها منذ الصغر , كنت استمع إليها وهي تتحدث بهموم العاجز الضعيف , أخبرتنا أيضاً أن المسئول عن أمورهم وتوليهم بعد وفاة الأب هو أخيها الذي لم يتجاوز الواحد والعشرون ..!
قالت وهي تتحدث بعبرة مخنوقة : هناك أخواتي هل تريدون رؤيتهن .؟
أجبناها بالموافقة .
فأدخلتنا على غرفة كان بابها عبارة عن سياجٍ من حديد , فتحته وقالت: تفضلوا
وقفنا عند المدخل لأرى فتيات تتراوح أعمارهن من الخامسة والعشرون إلى الثلاثين وهن يعانين من تخلف عقلي دائم أصبن به من عامل الوراثة .
لم أحتمل الموقف فتقهقرت إلى الخلف وأنا أنظر لقريبتي التي حاولت أن تتحدث قليلاً معهن , وهن ينظرن ببلاهة من لا يفقه من أمامه .
أغلقت أختهن المسئولة عنهن السياج الذي يفصلهن عن المنزل ويبقيهن في عزلة عنهم.
فسألتها قريبتي: من يتولى رعايتهن من مأكل وملبس ؟
أجابت مضيفتنا الصغيرة: أنـــا ..!
فابتلعت الغصة الثانية بمضض , ومضينا .!
.
.
في داخل السيارة كان حديثتا يدور حول ما صادفنا قبل قليل .
حدثتني قريبتي: بقي منزل واحد فقط , تحمليني قليلاً حمّلتك مالا تطيقي ..!
أجبتها بصيغة سؤال وارد: لا أظن أنني سأرى أكثر مما رأيت .
والتزمنا الصمت لنصل إلى آخر المحطات وأكثرها إيلاما ..
نزلنا لنصافح هذه المرة عاملة منزلية هي صاحبة الأمر والنهي لتلك العائلة بعد أن فارقت الأم أبنائها منذ عدة سنوات ليتولى رعايتهم أبٌ سكير لم يُبالي بتربية من أنسبهم الشرع إلى اسمه ويتركهم في عهدة عاملة تُقيم علاقة غير سوية مع ابن صاحب البيت البالغ من العمر الثامنة عشر ..!
وفتاة مطلقة سارت بنفس طريق أخيها لكن مع ثلة فاسدة من خارج منزلهم .
أطفال صغار انتشروا في وسط بيئة تفتقر إلى كل شيء حتى النشأة الأخلاقية وجدتها تُصارع باستماتة لتبقى على قيد الحياة .
فقر وجهل , عجز يغلفه تخلف وانحطاط .
أغلقنا بوابة ذلك المنزل وأنا أنقش داخل القلب في الأوردة وبين الشرايين حيرة وألم سكنا أطرافي ليجعلني أسأل نفسي ( أين نحن من هؤلاء..؟!)
الفقر .. إلى أين يسير بين مجتمعنا ..؟
وما مدى عطائنا لمحاولة تقليصه والحد من انتشاره ..؟
ما المساعدات الفردية و الجماعية وربما الحكومية من السيطرة على مكامن
غزوه بين الأسر , ومعرفة كيفية الوصول إلى نتائج مرضية .؟
الأغنياء وإخراج الزكاة بصورها الصحيحة التي أمرنا بها الشارع الكريم وأوصانا بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها الركن الثالث من أركان ديننا الحنيف
هل تسير بطرق سوية تجعلها فعلاً تصل لمستحقيها من الدرجة الأولى أم كانت حبيسة المتاجر والبنوك حتى ضاقت ؟
وعلى أثر ذلك حُبست السماء وقحطت الأرض وذهبت بركة الأموال .!
لماذا نجد أنفسنا نستكثر على الفقراء أن نرى لباساً جديداً أو سيارة جديدة قد أُهديت عليه أو ربما نالها بطرق شريفة , ونحسب عليه فتات من ريالات نضن بها عليه ؟
من حقه أن يعيش كما نعيش نحن ؟
فلما هذه النظرة القاصرة الظالمة المائلة لكفة حب الذات والانطواء للنفس فقط ؟
أعجبني شعار مركز خيري قائم على مجهود جماعي إنساني
( الفقير هدفنا , نصله ولا يصلنا)
فحفاظاً على ماء وجوه إخواناً لكم سكنوا قريباً من دياركم .
هل سعينا نحن لهم قبل أن يسعوا لنا ؟
وهل طرقنا أبوابهم قبل أن يطرقوا أبوابنا ؟
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
تحيتي
تهاني