إن من يتتبع دعوات الرسل عليهم الصلاة والسلام خلال التاريخ البشري كله يجد أن أكبر عقبة واجهتهم هي تمسك الناس بما هم عليه وتعظيمهم لأسلافهم وضياع فردياتهم بالذوبان في العقل الجمعي وعجزهم عن تصور أي صيغة افضل للحياة اما ذوو النفوذ فيهم فإنهم يرفضون مجرد الإصغاء لسماع الحق الذي جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام وهذه من أوضح الحقائق التي تناولها القرآن الكريم وكان سادة العرب كغيرهم من سادة الأقوام لم يكتفوا بذلك بل كانوا يحرّضون الناس على عدم سماع القرآن وقد سجل الله سبحانه عليهم انهم كانوا يقولون: "... لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون.."
إن آفة المجتمعات في كل زمان ومكان هي التقليد البليد المستحكم الذي يشل عقول الناس ويستبقيها مغتبطة بملازمة ما وجدت نفسها فيه وعاجزة عن إدراك ضرورة مبارحة ما هو كائن الى ما يجب أن يكون ان التقليد الأعمى يغتال قابليات الأفراد فيجعلهم غافلين عن سخافات المألوف وعاجزين عن اكتشاف جموع الواقع وغير مدركين بأن أصالتهم الفردية مطمورة بالبرمجة الثقافية والاجتماعية فالفراغ الذي يكون عليه الأفراد عند ولادتهم يجعلهم مهيئين للامتلاء بما هو كائن في البيئة الثقافية والاجتماعية مهما كان سوء هذا الذي هو كائن فالأفراد صياغة اجتماعية..
لذلك فإن تقدم المجتمعات مرهون بقدرتها على الاستجابة لمبادرات المجددين النابهين من الأفراد الذين يستطيعون الخروج من كهف المجتمع ويتمكنون من ارتياد المجهول فظهور المبدعين شرط أساسي لتقدم المجتمعات إلا أن تقبل المجتمعات للأفكار الجديدة شرط أكثر أهمية وأوسع تأثيراً لأنه لا قيمة للفكر الأمين والرصين في مجتمع لا يعترف بأهمية الفكر وينصاع للتقليد انصياعاً أعمى ويتعصب لما هو قائم مهما كان سيئاً كما انه لا قيمة للمفكرين والنابهين في مجتمع يحتقر الأحياء ولا يتوقع منهم أي فكر جديد نافع ولا يعرف قيمة الفكر الناضج ولا النباهة النافعة ولا يعترف بمكانة النابهين إذا لم يكونوا من الأموات ان استجابة المجتمع للإبداع أهم من الإبداع ذاته ففي كل المجتمعات يظهر المبدعون لا فرق في ذلك بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة وإنما الفرق كله في تفاوت المجتمعات ذاتها في القدرة على الاستجابة للإبداع فالمبدعون أفراد قليلون في أي مجتمع ومع قلتهم ففيهم كفاية للقيادة والريادة في شتى المجالات وهم ينهضون بمجتمعاتهم فكراً وعملاً وواقعاً متى تهيأت هي لقبول الأفكار الجديدة النافعة ولكن لا تأثير لهم ما لم يتهيأ المجتمع لتقبّل الفكر والإبداع فمعضلة المجتمعات المتخلفة ليست في ندرة المفكرين والمبدعين وإنما في العجز عن فهم الإبداع وعدم القدرة على تحقيق متطلباته والاستجابة له.
اما سبب عجز المجتمعات عن استيعاب الإبداع وعدم قدرتها على الاستجابة لمتطلباته فيعود الى ان من طبيعة أي وضع قائم أنه يحرص على البقاء والاستمرار ومن أجل ذلك يعزز عقلية القطيع وينفّر من تداول الأفكار ويصم ذوي الأصالة الفردية بالانحراف والمروق فيكرههم الناس ويخشون أفكارهم ويتواصون بالحذر منهم والإمعان في التشكيك بهم واختلاق الوقائع لصد الناس عنهم وبذلك تنقطع خطوط الاتصال بين الناس وبين المجددين والمفكرين والمبدعين فتتكاثر عوامل الركود وتتفاقم موطدات التراجع وإذا تجمدت طاقات المجتمع على هذا النحو المزري اختفت الأصالة الفردية وغاب التفكير المسؤول وانعدمت الرؤية المستقلة وصار الناس يلتمسون أصالتهم في الانغمار في التقليد البليد وليس في ممارسة الأصالة الفردية الحقيقية فتنعكس المفهومات وتنقلب الحقائق وتختل القيم.
لذلك يقول الفيلسوف الشاعر محمد إقبال: ".. يا غافلاً عن نفسك أخرج النغمة التي في قرارة فطرتك أخءلها من نغمات غيرك.." إن الأفراد ينساقون بالبرمجة التلقائية التي امتصتها عقولهم من المجتمع وتقولبت بها نفوسهم حتى صاروا عاجزين عن الانتباه بأن المحتويات التي امتلأت بها عقولهم ليست نتاج التأمل والبحث والاستقصاء وإنما هي برمجة ثقافية نشأوا عليها قبل نضوج وعيهم كما نشأوا ايضاً على الاغتباط والتباهي بما هم عليه وتتضاعف المعضلة حين تكون الثقافة مغلقة لأنها تتحصّن بهذا الاغتباط والافتخار عن أي احتمال للمراجعة ورفض أي تساؤل مما يغلق الدائرة ويستبقيهم داخلها إنها اشكالية معقدة تشل المجتمعات وتجمّد طاقتها وتكبّل الفرد وتسلبه أخصّ خصائصه لذلك فإن أوروبا لم تستطع أن تنهض هذه النهضة الدنيوية العارمة حتى أعادت الاعتبار الكامل للنزعة الفردية واستثمرت ما في الأفراد من اختلاف وتنوع وثراء وقد عبّر عن هذا التحول الجذري الفيلسوف الألماني كانط حين أطلق صيحته الشهيرة منادياً كل فرد بقوله: ".. اجرؤ على استخدام فهمك الخاص.." وهو بذلك يلخّص فلسفة الأنوار التي انتشلت أوروبا من الاستسلام الأبله للأسلاف والآباء ودفعتها إلى البحث في الآفاق والأنفس ففلسفة الأنوار حين أعادت الاعتبار للنزعة الفردية فتحت للناس آفاق التنوّع والتعدُّد وشجعَّتهم على جرأة التفكير المستقل وهيأت العقول لقبول الاختلاف الذي يؤدي إلى ثراء الفكر والعلم والحياة لقد أدركت أوروبا بعد طول غياب للنزعة الفردية خلال العصور الوسطى بأن هذه النزعة هي التي تحقق التكامل بين قدرات الناس وتوسع آفاق الفكر الإنساني وتقلّل من التماثل والتكرار..
يتساءل كانط: ماذا تعني الأنوار...؟ فيجيب: ".. إنها تجاوز الإنسان لقصوره ذلك القصور الذي يعد هو ذاته مسؤولاً عنه وأنا أعني بالقصور عجز الإنسان عن استخدام فهمه دون توجيه الآخرين إن شعار الأنوار يتلخّص في هاته العبارة: اجرؤ على استخدام فهمك الخاص.." فالأب الأكبر للفلسفة الحديثة عمانوئيل كانط يقدّم بهذه العبارة القصيرة مفتاح الحضارة الغربية ويوضح ان غياب النزعة الفردية والانغماس بالتقليد الأعمى هو السبب الرئيسي للتخلف و القصوروالجهل والغفلة التي كبّلت أوروبا في العصور الوسطى ويتهم كانط كل إنسان بأنه هو المسؤول عن قصوره وأن سبب هذا القصور هو عجز الفرد عن استخدام فهمه الخاص ويدعو جميع الأفراد الى استرداد أصالتهم الفردية والنظر إلى الأفكار والأشخاص والأشياء والأحداث والمواقف بعيون بصيرة وأذهان فاحصة وإرادة جريئة ورؤية موضوعية.
إن الانصياع العام للتقليد والعجز الشامل عن إدراك أهمية فحص المألوف واعتماد الاستسلام له كقاعدة للحياة واستبعاد أي احتمال عن وجود نقائص في هذا المألوف وغياب الأصالة الفردية عند معظم البشر كل هذه قد أوجدت لدى بعض المفكرين ردود فعل
ة ضد التقاليد الاجتماعية فهذا روسو يرى أن الإنسان لا يستعيد أصالته إلا إذا تخلص من كل آثار البرمجة الاجتماعية الماحقة...
أما الكاتب الفرنسي الشهير أندريه جيد فينادي في كتابه (قوت الأرض) كل فرد فيقول: "... بدلاً من أن تحاول اكتساب المعرفة من الناس حاول أن تتعلم قريباً من الله... إن شخصية الإنسان محرَّفة وتاريخه هو تاريخ الحجج الباطلة والتزييفات.." ولكن الأفراد لا يفطنون للتحريف الذي أصاب شخصياتهم ولا يعرفون أن في أذهانهم الكثير مما هو محرّف أو مختلق أو مزيف ويلفت النظر أندريه جيد الى المعضلة الثقافية التي عانت منها كل المجتمعات فهي تحب القيود التي نشأت عليها رغم أنها لا تزدهر حتى تتخلص من هذه القيود فيقول: ".. الإنسانية تحب أقمطتها رغم أنها لا تستطيع أن تكبر ما لم تعرف كيف تتخلص من هذه الأقمطة.." ويشير إلى الحقيقة الملحوظة في كل مكان فيؤكد أن الناس: ".. يغمضون عيونهم عن الحقيقة وإذا شاهدوها فإنهم لا يحسنون الملاحظة والتأمل.." لذلك يتجه أندريه جيد إلى الإنسان الفرد بهذا النداء: جرب أن تفهم بنفسك وتبتعد جهد المستطاع عن التقليد فهو لا يجلب سوى ذبول الفكر ونحول الشخصية..
ويستحث الفرد فيقول: حيثما قادتك خطواتك أيها الناهض النابه المستعد لمفارقة الأماكن الحافلة بالموتى: فدع الأمل يدفعك إلى الأمام ولا تسمح للتقليد بأن يستوقفك.
ويستنهض أندريه جيد الإنسان إلى الأصالة والتميز فيقول: كل عقل لا يثير الاهتمام إلا بقدر اختلافه عن بقية العقول فانتصب عارياً من القيود والأقماط ومزّق الأغلفة واستعد أصالتك من وصاية التقاليد..
ويقول: أمضيت سنوات في الأسفار لأنسى ما تعلمته لكن نزع التعليم كان بطيئاً وعسيراً غير أنه كان أجدى لي من جميع ما فرضه الناس وكان بداية لثقافة حقيقية..
هكذا تتضافر أقوال المفكرين والمهتمين بالشأن الإنساني على التأكيد بأن الأفراد غارقون في الضحالة وأنهم مكبَّلون بالتقاليد وأنهم بذلك فقدوا أصالتهم الفردية وضاعوا في القطيع كما أن المجتمع الذي برمجهم هو نفسه مبرمج لذلك لا يستطيع أن ينفكَّ من هذه البرمجة إلا بأحداث مزلزلة كما يحصل حين ينزل الوحي من الله سبحانه لهداية المأسورين التائهين: ".. وإن من أمة إلا خلا فيها نذير..".
يتبع ............