" منقول للفائده "
انه قضاء الله ... لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ...
هاهي والدتي الحبيبة التي نقش الدهر بتكاليفه منحوتة رائعة على جبينها الطاهر ... ترقد على السرير الأبيض ...
لا لا لا توقظيها ... أقولها لأختي المرافقة ... وقد وقفت على رأسها أقرأ شيئاً من كتاب الله بنَفَسٍ مضطرب ... وكبد حرى ... ولسان يلهج بالقراءة يرجو الله تعالى الذي بيده الخير كله ... وإليه يرجع الأمر كله ...
صورة مبكية ... تلك التي ارتسمت في مخيلتي وأنا أشاهد أمي الحبيبة وقد زوى الوجع جنبها ... وحنى ظهرها ... وأخرج الأنين من حنجرتها المغتصبة ...
إيييييييييييييييييييه !!!
هذه هي الدنيا ...
ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ...
أتذكر بعين ذارفة ... فراش المدرسة الابتدائية وهو يناديني من الفصل ليقول : يا ... كلم امك !!!
فأخرج إلى باب المدرسة الخارجي ... وإذ بها متلفعة بعباءتها ... قد جاءت مشياً على الأقدام لتحضر لي سندويتشتي التي نسيتها ... أو كراسة الرسم التي بكيت في الصباح لأني لم أشترها ...
يا الله !!!
إنها أم فريدة من نوعها ...
رضعت من صدرها الطاهر معنى أن أعيش حراً بدون قيود ... وتعلمت مذ كنت في بطنها معنى الصبر المر المذاق ... وتعلمت كيف أحب الحياة على صعوبتها ... وأحترم البشر على نذالة بعضهم ...
إنها أمي الطيبة التي ردت بها السنين إلى فراش المرض بعد رحلة طويلة مع المعاناة ...
كانت تقول لي قبل دخولها المستشفى بايام : والله يا وليدي ... طول عمرك وانا شايلة همك من بد اخوانك من يوم الله انشاك !!!
ثم تحولت للقبلة ورفعت يديها بحركة عاجلة ... وأخذت تدعو ربها ... ونشيجها يعلو صوتها ...
يالله العجب ...
أحقاً أستحق كل هذا منها ؟؟!!
إييييييييه يا دفتر الذكريات ... كم يحرقني الكمد وأنا أقلب صفحاتك ...
ذكرني سرير أمي الأبيض ... بوالدي رحمه الله ...
ما أشبه الليلة بالبارحة ...
تلك الليلة ... كنت في اجتماع في المكتب في ساعة متأخرة من الليل ... وإذ بجوالي يكاد ينفجر من كثرة الاتصالات ... ما الأمر ؟؟؟
كل الاتصالات عائلية !!!
خرجت من الاجتماع واتصلت بأخي ... وإذ به يفجعني بقوله : ... ابوي تعبان مرة وتراه في إسعاف التخصصي !!!
أذكر أول سؤال سألته : عبد الرحمن ... قل الصدق ابوي مات ؟؟؟!!!!
قال : لا بس الظاهر انها جلطة !!!!!
ركبت سيارتي أسابق الريح ... بل أحاول أن أسابق القدر ... وكأن وصولي مبكراً سيحول بينه وبين قدره المحتوم !!!
وصلت المستشفى ... مشيت باضطراب وقدماي تكادان لا تحملانني من الخوف والرهبة ...
دخلت عليه في الغرفة وإذ به قد ارتخى شدقه الأيسر فوقفت على رأسه وقبلته ففتح عينيه وابتسم لي ابتسامة مودع ... ثم غاب بعدها سنة كاملة عن الوعي ...
حتى جاء ذلك اليوم الحزين 16/12 ...
كنت في المكتب بعد العصر مع أعز أصحابي ... رن هاتفي ... إنه أخي ... تشاءمت من الاتصال ثم قلت : اللهم اجعله خيراً ...
رددت عليه : سم يابو مشعل ؟؟!!
أجابني : .... تعال بسرعة ابوي أظنه يحتضر !!!
خرجت بسرعة حتى وصلت للبيت ودخلت الغرفة وبها إخواني وأختي ووالدتي وعمي والمسعفون ..... و......ملائكة الرحمة ينتزعون روحه الطاهرة من بين جنبيه ...
دخلت الغرفة ... أوسع لي إخواني الطريق ... يظنون بي قدرة سحرية على إرجاع روحه الشجاعة التي تجابه الموت بكل قوة وصلابة ...
وقفت على جانب السرير ... رأيت الموت الأسود في وجهه ...
بدأت في قراءة الفاتحة ... ثم قطعتها وقرأت يس ...
أمسكت أختي بكتفي وهي تسحبني بكل قوتها ... لا لا تقرأ يس ... ما نبي روحه تطلع !!! ياربييييييييييييييييييه ابوووووووووووي !!!!
أخرجناه من البيت على السرير الأبيض ...
وأركبناه الإسعاف كنت أنا من ركب معهم ...
كنت أعلم أن الموت قد قضى عليه ...
أسرعت سيارة الإسعاف باتجاه المستشفى التخصصي ... بينما خرجت العائلة بسياراتها ووصلوا قبلنا ...
المحاولات لإنعاش قلبه جارية على قدم وساق ... كدت أقول لهم : لا تتعبوا أنفسكم ... هذا الوجه السمح الطيب لم تعد تسري فيه الحياة !!!
إلا أن المسعف سبقني بقوله للسائق : خلاص طف السفتي !!!
وصلنا المستشفى ... نزل المسعفون بكل سرعة وأدخلوا والدي الحبيب غرفة العناية الفائقة ... ودخل معهم أخي ... التف حولي أهلي ...
ما صحا في السيارة ؟؟ ما تحرك ؟؟ حولت وجهي جهة الجدار ...
وما هي إلا دقائق ... ويخرج أخي والعيون حوافل بالدموع ليعلن للملأ .. نهاية الفصل الأخير من حياة هذا الرجل الطيب ...
أصبح كل منا يعزي الآخر ...
إلا ... أمي ... الطريحة على فراشها الآن ...
مشت إلى الغرفة بما يشبه الزحف ... حتى دخلت عليه والممرض يربط فكه ويغمض عينيه ... انطرحت عليه بجسمها المثقل بالأمراض والهموم
... واخذت تبكي وتبكي وتبكي وتدعو وتدعو وتدعو .. بكينا لفراقه ... ولكن بكاءها هيجنا على البكاء فبكينا وبكينا وبكينا ...
خرج الجميع من عنده ... فالجثة بعد لحظات ستسلم للثلاجة ... قال لي أخي : مانتب ماشي ؟؟ قلت له : لا أبجلس شوي ...
لا أدري لم أصريت على الجلوس ؟؟؟ خرج أخي ... وأغلق الباب تلقائياً ... بقيت أنا ووالدي رحمه الله لوحدنا ...
يالهيبة الموت ... وما أشد موعظته لمن صحا قلبه !!!
مكثت مدة ساعة تقريباً وأنا أحاور الصمت الرهيب في تلك الغرفة الصغيرة ... سرحت بعييييداً جداً ... إلى أيام الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب
للرجولة التي أعيشها الآن ... كلها مرت على ذاكرتي كوميض فلاش مرتبة ترتيباً دقيقاً ...
قمت إليه ... وقفت عند وجهه ... حاولت فهم ملامح السكون العجيبة المرتسمة على محياة ... هل حقاً انتهت معاناته مع الدنيا البائسة ؟؟؟
تمنيت ذلك من كل قلبي له ...
قطع علي المشهد دخول مجموعة من الممرضين ومعهم أدوات يدوية ... وقالوا : ممكن تغادر الغرفة إذا تكرمت ؟؟؟
سألته : ليش ؟
قال : بنجهز الجثة للثلاجة ...
مشيت قليلاً ... ثم توقفت ... كدت أن أرجع لأقول لهم بكل طفولية : طيب ... هذا أبوي !!!
الله المستعاااااااااان ... رحمك الله أيها الرجل الصادق ...
ونحن لا زلنا نتذكره .. تغمده الله بواسع رحمته ... يدخل علينا ونحن مجتمعون باستمرار ويقول : قولوا : آمين .. فنقول : آمين ..
قولوا : آمين ... فنقول : آمين ... قولوا : آمين ... فنقول : آمين ... فيقول وهو يبتسم بسماحته المعهودة : يالله
جمعى الجنة !!!
لقد حزنت كثيراً ... ولا أزال أحزن ... إلا أن هاتفاً من قريب هتف بي فأيقظ مسامعي لمعنى ماكنت أجهله :
الهاتف : ما بالك ... هل نسيت ؟
أنا : نسيت ماذا ؟؟
الهاتف : أنك خلقت لتمتحن وتبتلى ولم تخلق لتأكل وتتمتع ؟؟!!
أنا : ما فهمت ماذا تعني ؟؟
الهاتف : أعني أن الدنيا ما صفت لأحد قبلك فتصفو لك .. ولن تصفو لك .. لأنها لن تصفو لأحد من بعدك ...
أنا : أتعني ... أن هذا حتم لازم مقدر ؟؟!!
الهاتف : نعم .. أما علمت قول الشاعر التهامي ؟؟
أنا : بلى ... جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما *** تبني الرجاء على شفير هار
فالعيش نوم والمنية يقظة *** والمرء بينهما خيال سار
الهاتف : أراك تحفظ شعراً ؟؟
أنا : والمزيد منه أيضاً ... خذ لك :
لا تجزعن لمكروه تصاب به *** فقد يؤديك نحو الصحة المرض
واعلم بأنك عبد لا فكاك له *** والعبد ليس على مولاه يعترض
فسلم الأمر تقنع في عواقبه *** وارض القضاء فقد فاز الذين رضوا
وإن بدت شدة فاصبر لشدتها *** إن الشدائد تأتي ثم تنقرض
الهاتف : أراك وعظت نفسك ؟؟
أنا : وعندي موعظة خير من هذه :
" ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم"
الهاتف : إذن استصحب مواعظك معك ... فإنك لا تزال في محنة وامتحان ما دامت روحك لم تبلغ الحلقوم ...
اللهم يا حي يا قيوم ياذا الجلال والإكرام ... يا من كشف الضر عن أيوب ... وقال : ادعوني أستجبكم .. أسألك اللهم أن تشفي والدتي ... وتمن عليها بلباس العافية العاجلة في الدنيا والآخرة ... وأن تحسن ختامها ... وترزقني برها ... وتطيل عمرها على طاعتك ... وتجمعني بها وأحبابي ومن أمن على دعائي في الفردوس الأعلى من الجنة ... حيث الراحة التامة ... آآآآمييييييييييين ،،،
قيل للإمام أحمد رحمه الله : متى الراحة يا إمام ؟ قال : الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة .