.
هذه مجموعة من الحكايات التي اختطفتها ذاكرتي من أجزاء مظلمة وأخرى مضيئة من ذاكرة مدينتي بريدة التي لا أجد أي سبب يدفعني لبغضها أو لمحبتها والتعلق بها .
في هذه الأقاصيص ؛ الأسماء فقط غير حقيقية ..
[align=center]( ليلة القانون )
بريدة : 1398هـ [/align]
مكتنزة الجسم لكن ليس إلى حد أن تكون سمينة ، جسدها البض المفتول لا ينم عن حياة الفلاحين التي يحياها أهلها ، دائمة الابتسامة ، نكتها الظريفة ومقالبها وقفشاتها قادرة على خلق البسمة على أكثر الوجوه وجوماً .
لا زلت أتذكرها في ثوبها الروز الأزرق الغامق الذي تتناثر عليه نقوش حمراء لزهرة متفتحة ، كانت مزنة تخطر بثوبها الأزرق وتمرر يدها المكتنزة على صدرها وخصرها ، وتبتسم نصف ابتسامة وهي تشاهد علامات الدهشة والإعجاب في وجوهنا الصغيرة ونحن نشاهد محتويات ( الروشن )
الدوشق الكبير ، والوسادة المطرزة بعبارة ( أحلام سعيدة ) ، والطشت المخصص لوضوء وغسل العريس وعروسته ، ورائحة البخور الجاوني التي تعبق بها الغرفة الطينية التي تم استحداثها في ( الطاية ) من أجل هذا العرس خصيصاً .
كانت تلك اليلة ليلة ( القانون ) والشمس تميل للغروب ولم تكن ماكينة الكهرباء التي تنير بيوت القرية قد عملت بعد .
الاستعدادات لليلة القانون لم تكن كبيرة ، حيث إن هذه الليلة هي ليلة الزواج الثانية حيث يتم ( العرس ) في بيت أهل العروس ، ثم ( الرحيل ) في بيت أهل العريس في الليلة الثالثة، ويقدم في كليهما الطعام ، أما الليلة الثانية التي هي ( القانون ) والتي كانت مخصصة للنساء فقط ولا يدعى إليها إلا الأكثر قرابة فلم يكن يقدم فيها سوى الحليب فقط ، وكانت هي الليلة المفضلة بالنسبة لي في ليالي الزواجات فلطالما أحببت الحليب المحلى المغلي والمحلى بالسكر الذي يقدم في مثل هذه الليلة .
كنت أحاول استراق السمع من أمي وهي تنظر إلى العروس وتحادث خالتي بوشوشة لم تخل من خبث نسائي لم أفهم معناه إلا بعدما كبرت .
كان أهلي في غاية السعادة ، ولم أكن أفهم لماذا يشعر الناس بالسعادة عندما يتخلصون من بنتهم ، لكنني لم أشغل نفسي بالتفكير كثيراً حيث كنت مشغولاً باللهو مع الصغار في الفرجة على ذبح ناقة العرس ، وترديد الأهازيج حول ( عيسى الطباخ ) واللعب بنار القدر الكبير جداً والموضوع على كرسي من الحديد مثبت بإحكام فوق جذوع الأثل المشتعلة .
كنا نلعب بالنار ، فيهجم علينا فجأة بـ( ملاسه ) الضخم فنهرب مرددين :
أبو جوهر .. أبو جوهر .. أبو جوهر ..
وكنا نضنها شكلاً من أشكال السب ، إلى أن اكتشفنا لاحقاً أنه اسم ابنه البكر ، فخاب أملنا باستفزازه .
وين العريس ؟ وراه ما صلى معنا الفجر ؟
قالها ابن خالتي لأخيه الأكبر مندهشاً ، والذي أجابه :
العريس مهب لازم يصلي العصر يا ( دبشه )
التقطت الحوار متعجباً !!
لماذا يضربنا والدي من أجل صلاة الفجر في المسجد ، بينما بإمكان العريس أن يتركها دون أي سبب ؟؟
ظل هذا السؤال في ذهني عصياً على الفهم ..
لكني أدركت بعدما كبرت أن هذه أحد التناقضات الكبرى في ثقافة مدينتي ، إنهم يمنحون صكوك الغفران لكل الأشياء التي تعودوا عليها ..
لكنهم يحاسبون بغاية القسوة عندما يختلف الأمر مع ما تعودوا عليه ، ويعتبرونه منكراً عظيماً ..
(( من يملك القانون في أوطاننا
هو الذي يملك حق عزفه ... ))