والمفارقة في الحياة البشرية أنها تقوم على عاملين متضادين: العامل الأول هو الانتظام والاطراد والاستقرار أما العامل الثاني فهو الاقتحام والمغايرة والابتكار فلا يمكن أن يتحقق النمو المطرد والازدهار الشامل إلا بالتكامل بين هذين العاملين المتضادين وكما قيل فإن: ".. إحلال النظام محل الفوضى هو جوهر الفن والحضارة.." فلا إيغال في العلم ولا نجوع في العمل ولا ازدهار للمجتمع إلا إذا التزم الناس بالنظام وكما يقول و.د. وول أستاذ علم النفس التربوي بجامعة لندن في كتابه (التربية البناءة للأطفال): ".. لا يمكن أن يحدث نمو عقلي واجتماعي ووجداني إلا في محيط منظَّم لأن محيطاً غير منظّم وغير متناسق يخفض مستوى السلوك العقلي وينشر البلبلة في الطباع.." والمعنى ذاته يؤكده جوليان هكسلي في كتابه (الإنسان في العالم الحديث) حيث يرى أن: ".. طريقة التنظيم المركزي لا تكبت الابتكار الفردي إنما تثيره.." ولكنه يؤكد على ضرورة: ".. الجمع بين كفاية التنظيم المركزي والإحساس بالمشاركة.." لئلا يكون الفعل آلياً ومن أجل ذلك: ".. يجب أن يكون التنظيم بحيث يهيئ للمجتمع بيئة داخلية تكون ثابتة الأسس ومرنة فيما عداها حتى تمكّنه من أداء الأعمال المختلفة بأقل ما يمكن من الارتباك.." أما الفيلسوف الشاعر الألماني فريدريك شيللر فقد وقف أمام هذه الإشكالية التي ترى ضرورة الالتزام من أجل الانجاز وضرورة الانطلاق من أجل الإبداع فانحاز إلى جانب تخليص المبدع من أثقال القيود: ".. إن القانون لم يكوِّن بعد رجلاً عظيماً بينما الحرية تكوِّن عمالقة وكائنات خارقة للعادة.." ويقول في إحدى قصائده: ".. ما أجملك أيها الإنسان.. في رجولة كريمة فخورة.. بحس متفتح وعقل ملآن.. تحررت بالعقل وقويت بالقوانين.." وهو يقصد بالقوانين قواعد العمل التي يسترشد بها العقل حيث كتب يقول: ".. تراني أتأرجح بين الفكرة والتأمل أو بين القانون والشعور أو بين عقل محكوم بالقواعد وعبقرية حرة.." ولكنه لا يتردد في اختيار ذاته المرفرفة متخلصاً من أي شيء يعوقه عن التحليق بما في ذلك القواعد والنظم والمعايير لأنه يؤمن أن: ".. الحرية هي جوهر الإنسانية في الإنسان.." وأن: ".. الوجود سابق على الماهية.." وأن على الإنسان أن يحدد ماهيته بنفسه وأن لا يترك أمر تشكيلها إلى الآخرين..
وهذا التطلع الطموح هو الذي عناه الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال حين كتب: ".. من الأفضل للإنسان أن يتمادى في الحرية من أن يتمادى في القيود.." إنها إشكالية صعبة تصيب الإنسان بالدوار فلا انتظام لحياة المجتمعات إلا بالتراتب واستقرار التقاليد ولكن لا تقدم لها إلا بمراجعة القيم وتنمية المعارف وتجديد التقاليد وتغيير العادات.
التقاليد هي الروابط التي تحقق اندماج الأفراد في المجتمع فتتكون بذلك طاقته العامة فهي المجرى الذي يجمع تدفق النشاط الاجتماعي في اتجاه واحد فتضمن تناغم الكل لكنها بهذا الدمج تذيب الأصالة الفردية وتقضي على التميّز والتنوع.
إن اطراد النشاطات الاجتماعية البانية مرهون بالتوافق الاجتماعي الذي يكفل الانسياب التلقائي للنشاط الهادف لكن استمرار الاطراد يؤدي إلى الجمود وضمور الطاقات وتدهور المجتمع مما يقتضي بقاء جذوة الأصالة الفردية من أجل معاودة الإيقاظ والتجديد فحياة المجتمعات تستدعي التفاعل الدائم بين التيار العام المتواتر وبين الأصالة الفردية المتميزة فالعادات الاجتماعية تحقق الانسجام بينما الأصالة الفردية تعيد الحيوية إلى المجتمع كلما ران عليه
إبراهيم البليهي
التاريخ: 6/30/2002 م
الوسطية " الحلقةالفكريةوالسياسية . بواسطة منتدى الكتّاب
http://writers.alriyadh.com.sa/kpage.asp?ka=158