ثم نأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى إلى تفسير الآيات التي أشارت إلي انتهاء دولة إسرائيل في سورة الإسراء وبيان إمارة ذلك ، قال الله تعالى { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا(4)فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا(5)ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا(6)إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا(7)عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا(8) } الإسراء.
للوهلة الأولى نجد أن الآية القرآنية ربطت بين مكة المكرمة وبيت المقدس وذلك لعلم الله سبحانه وتعالى أن المسجد الأقصى سيسلب يوماً من أيدي المسلمين ، وحتى لا ينسى المسلمون مسجدهم جعل الله هذه العلاقة المقدسة في مسرى النبي صلى الله عليه وسلم ، فطالما المسلمون يقرئون القرآن فهم يذكرون هذه العلاقة.
كذلك ذكر الله تعالى في مقدمة هذه السورة موسى عليه السلام ومعنى هذا والله أعلم أن الإفساد تين لبني إسرائيل ستكون في زمن الإسلام وذلك بعد أن نقضوا العهد الذي أخذه الله عليهم في التوراة وأقروه على أنفسهم بأن يكونوا من أتباع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ.. } الأعراف.
وأما تفسير الآيات فيقول الله عز وجل وقضينا أي وأخبرنا أو وأعلمنا بني إسرائيل بعد أن حكمنا عليهم في الكتاب أي في التوراة بأنهم عند استقبال النبي الذي يأتي في آخر الزمان وهو محمد عليه الصلاة والسلام لن ينصاعوا لحكمه بل إنهم سيكذبونه وهذا مخالف لأمر الله سبحانه وتعالى.
وروى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبيه أبو بكر وعمر أتوا على رجل من اليهود ناشر للتوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي " فقال برأسه هكذا أن لا فقال ابنه : أي والذي أنزل التوراة أنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال " أقيموا اليهودي عن أخيكم " ثم تولى كفنه والصلاة عليه. قال ابن كثير هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح.
وقد ذكر الله تعالى في سورة الصف عن قول عيسى عليه السلام لقومه { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(6) } الصف.
وبما أنهم لم يفعلوا ما أمر الله وما أوصى به الله عز وجل حكم عليهم لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيرا ، يعني أنه سيكون هنالك إفساد مرتين ، الأولى من غير علو والثانية سيكون معها علواً كبيرا.
والفسدة الأولى حصلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عندما نقضوا العهود والمواثيق التي أبرمها معهم وقلبوا عليه القبائل والأحزاب وجاءوا بجموع المشركين يوم الأحزاب ليستأصلوا النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وأقروا المشركين على عبادتهم للأصنام وقالوا لهم أن آلهتهم التي يعبدونها أفضل من إله محمد صلى الله عليه وسلم تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا وقد أخبر الله بذلك عنهم في قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا(51)} النساء. وما كان ذلك إلا حسداً من عند أنفسهم لأن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء من العرب من سلالة سيدنا إسماعيل عليه السلام ولم يكن منهم لذا كان الجحود والتكذيب وتحقق حكم الله فيهم بهذه الفسدة بأن بعث عليهم عباداً له سبحانه أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا ، وكان هؤلاء العباد هم أتقى خلق الله وعلى رأسهم سيد الخلق أجمعين الرسول المصطفى صلى الله عليه سلم وذلك بعد أن منّ الله تعالى على عباده المؤمنين يوم الأحزاب بأن كفاهم قتال المشركين وقد ذكر الله تعالى هذا النصر بقوله { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(9) } الأحزاب ، وقال عز وجل { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا(25) } الأحزاب.
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين إلى ديارهم بعد أن كفاهم الله القتال يوم الأحزاب فجاءه جبريل عليه السلام يريد أن يذكر رسول الله أن هناك حساب للذين نقضوا العهد والميثاق وناصروا المشركين بقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم " وضعت السلاح والله ما وضعناه ( يعني بذلك هو ومن معه من الملائكة الذين جاءوا بأمر من الله لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ) فاخرج إليهم ، فقال فإلى أين ، قال هاهنا وأشار إلى إلى بني قريظة " فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم جميعاً ومن حرص النبي صلى الله عليه سلم على سرعة تنفيذ الأمر الرباني نادى في المسلمين " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة وهم متحصنون في حصونهم خمساً وعشرين ليلة وقيل خمسة عشر يوماً حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب عند ذاك نزلوا على حكم سعد بن معاذ الذي حكم عليهم بحكم الله من فوق سبع سماوات وذلك بقتل مقاتليهم وسبي ذريتهم ، وجاءت بعدها غزوة خيبر وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم على جيش المسلمين علياً رضي الله عنه فدخل عليهم حصونهم وجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا.
وقبل أن ننتقل إلى أحداث الفسدة الثانية هنالك بعض الدلالات التي تشير إلى أن الفسدتين هما في عهد الإسلام :
أولا :- ذكر موسى عليه السلام في مطلع سورة الإسراء بأن الله أتاه الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وقد ذكر الله لهم في هذا الكتاب أنهم سيفسدون في الأرض مرتين وبعد هذا الذكر ، ذكر الله تعالى عن الإفسادة في السورة الكريمة يعني أن إفسادكم يابني إسرائيل سيكون في عهد الأمة الإسلامية وهذا مذكور كما أسلفنا في التوراة وكذلك تفاصيلها في القرآن وهذه دلالة أن الله حكم عليهم وأعلمهم بهذا الحكم في في التوراة وتأويل هذا الحكم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما أطلع الله حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن.