وهذا تعليق من الشيخ محسن العواجي حول الموضوع
(يا أبا تميم: أخذت بالعفو ...فأعرض عن الجاهلين)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أولا وآخرا، و هكذا انتهت قضية المرحوم منذر القاضي بالعفو عن قاتله شرعا بعد ما تمكن والده من القاتل به صباح هذا اليوم، تم هذا بين الرجال العقلاء بعيدا عن المصطادين بالماء العكر الراقصين على الجراح النازفة والممتهنين للمزايدات على المآسي، ما أجمل سيادة الشريعة وانضواء الكل تحت لوائها،لقد سارت الأمور بقدر الله وحكمه وحكمته، فارتسم الرضا على الجميع رغم قسوة الموقف، وقائع اليوم ومشاهده لن تنسى أبدا، فالمكان هو ميدان الصفاة حيث تدحرج الرؤوس عادة عن أجسادها، الصفاة الواقعة وسط العاصمة بين الجامع الكبير بالرياض حيث رمز الشريعة، ومكتب الحاكم الإداري لمنطقة الرياض حيث مقر السلطة التنفيذية، يقف بن حفيد المؤسس معصوبا مربوطا جاثيا على الأرض والسياف على رقبته ينتظر تنفيذ حكم الله، وسط المناشدات والاستغاثة من هنا وهناك (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).
كنت كغيري من المتابعين بفضولية لسير مجريات التحقيق ومحاكمة الغدر بالمرحوم منذر القاضي منتظرا ما سيتمخض عنه الموقف، ولم أكن الوحيد الذي كان يرجح التدخل في مرحلة ما بشكل أو بآخر من قبل أصحاب النفوذ، كون القاتل من الأسرة الحاكمة وفق مما تعارف الناس عليه فيما مضى بصعوبة الاقتصاص منهم، والذي ليس هذا مجال بحثه خاصة بعد بشائر مجريات أحداث اليوم المشجعة، حيث سارت الأمور بحمد الله بطريقة أثلجت الصدور النظيفة و نالت تقدير الجميع وسجلت صفحة مشرقة في مجتمعنا الإسلامي السعودي وكان نجوم ميدان الصفاة صباح هذا اليوم ثلاثة لهم علينا حق الشكر على مواقفهم بعد شكر الله وهم:
أولا: سيد الميدان الحقيقي وفارسه الأوحد صبيحة هذا اليوم هو الشيخ سليمان بن عبد الرحمن القاضي الذي سوده الشرع بسلطته (فقد جعلنا لوليه سلطانا) ومكنته الدولة بعدلها معه ضد من قتل فلذة كبده، سيطر الشيخ سليمان على الساحة والجميع يرقبون اللحظة التي يعتق فيها الرقبة فيكبرون الله ويشكرونه، بعد أن تأكد للحضور أنه لا أحد تلك اللحظات من الملك فما دون يملك التدخل للحيلولة دون تنفيذ الحكم ولو أصر والد المقتول على قتل القاتل ما حال دونه مخلوق كائنا من كان، والذي يعرف أبا تميم عن قرب يدرك أنه المربي ورجل الأصول ، ولا غرابة فهو سليل الأسرة العريقة من آل قاضي المتحضرة قديما و المنحدرة من قبيلة بني تميم المشهورة الذين لا تنقصهم الشدة والشجاعة بأخذ الحق، فهم بشهادة نبينا محمد صلى الله على وسلم أشد أمته على الدجال، هذا الرجل وقف في ميدان الصفاة بعد أن صلى الاستخارة مستحضرا حجم الضغوط و تدفق اللوم من بعض أقاربه الذين ربما لا يدركون بعد نظره، فتذكر خطاب الله لنبيه (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فوسعه ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم، فآثر تسجيل صفحة العفو عن مقدرة على أخذ الحق بعدل، فقدم مصلحة المجتمع على حقه وأعطى الجميع درسا لن ينسى، هذا الرجل كان يرمي إلى أبعد من مجرد القصاص الذي وإن شفى قلب مكلوم لفترة وجيزة فلن يرد نفس خرجت إلى بارئها، وهناك فرق بين من قتل نفس، وبين من أحياها، فمن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، الشيخ سليمان القاضي يريد ترسيخ مباديء التعامل بين أفراد الأسرة الحاكمة والمواطنين على أساس شرعي عادل، ثم يتبع ذلك بعتق رقبة ابنه الجديد (فهد) بالعفو والعفو وحده دون مقابل، تلكم اللحظات العصيبة التي لن ينساها الأمير وهو يتوسل لوالد القتيل بالعفو الذي بادره أخيرا بالمسح على جبينه وفك رباطه وكشف عينيه للنور مرة أخرى ليحيا من جديد عارضا عليه شرطا واحدا مقابل العفو (أن تحفظ القران)!!!.
ثانيا: الأسد الآخر هو فارس ذلكم الميدان دائما و الذي يتابع كل لحظات المشهد بنفسه و هو الذي مكن الشيخ سليمان من الهيمنة على الساحة برجالها ونسائها وجنودها وسيافها، بحكم الشرع طبعا، إنه الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي بحنكته وخبرته أدار هذه الأزمة المتأرجحة بين غاية اليأس والرجاء، لقد تحولق حوله الجميع من ذوي القاتل والمقتول منذ الساعات الأولى ينتظرون كل مفاجأة، عافانا لله وإياكم من الابتلاءات والمفاجآت، لقد جمع الله لأمير الرياض بين حزم الحاكم ورأفة الوالد وخبرة الإداري، قد مر عليه الكثير من مواقف الدماء والقصاص، علاوة على أنه قد دفع الله به الكثير من تصرفات سفهاء الأسرة وبلطجتهم على الشعب السعودي، ترك لقد الأمور تسير وفق منظور الشرع إلى نهايتها، فكان الاتهام بالقتل مشروعا، والجرم ثابتا، والحكم شرعيا، والتنفيذ واجبا والعفو شرعيا، قطع الطريق على كل متطفل و سلم أمر الجميع صباح هذا اليوم بيد الشيخ سليمان القاضي ليقضي في قاتل ابنه ما يشاء، لقد سجل سلمان بن عبد العزيز اليوم موقفا مشرفا أنا أول من يشكره عليه وعلى أمثاله من المواقف المشابهة، لم اكن لأجامله في أمر سيسألني ربي عنه و بحكم قرابتي بآل القاضي حرصت أن أتحقق من داخل أسرتهم و قبل كتابة هذا المقال: هل تمكن والد القتيل من قاتل ابنه دون ضغوط؟ فأجمع من سألتهم بقولهم :اللهم نعم، وأكدوا أن القاتل ما كان لينقذه من الموت بعد الله سوى عفو والد القتيل هذا ما ظهر لنا جليا، وحتى أن رجلا بمقام الأمير سلمان لا يعلم نهاية مشهد اليوم حيث كان الأمل في العفو ضئيلا جدا، هذا والله ما أشهد به وما سيسألني ربي عنه، وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين.
ثالثا: الشكر والدعاء موصولان لأختينا الكريمتين (أم تميم) و(أم فهد) والدتي المقتول والقاتل، فقد تحملتا أعظم الله أجرهما عبئا كبيرا من الهم والسهر والقلق والبكاء وهما بريئتان غافلتان، الأختان البريئتان لا ذنب لهما سوى الأمومة الحانية على فلذات أكبادهما ولئن كان منذر مغدورا برئيا، فقد نال أم القاتل أيضا من الهم والجزع ما يجعلها تشارك أختها أم تميم ببعض معاناتها، فنقول لهما اصبرا واحتسبا واحمدا الله على قضائه وقدره ، ولأم تميم خاصة نقول عوضك الله خيرا والله لن يضيع الله عفوكم وابشري بخير مما فات، فأنتم الذين تفضلتم بالعفو والله تعالى يعطي على العفو مالا يعطي على غيره.
إنني إذ أحيي الشيخ سليمان القاضي على أخذه بالعفو فإنني أذكره بما وعد الله على العفو، يا أبا تميم أما وقد اخترت هذا الخيار المبارك، فلا تلتفت إلى كل من يريد أن يسجل موقفا مجانيا ليزايد عليك فأنت وحدك صاحب الشأن وسلكت مسلكا شرعيا، فلا تأبه بمن لم يشعروا بشعورك ولم يقفوا موقفك العظيم، وها أنت قد سجلت موقفا تأريخيا يندر تسجيله إلا من أمثالك المحتسبين، وقبل ذلك أحيي الأمير سلمان بن عبد العزيز على حسن إدارته لهذه الأزمة، كما أهنئه على جمال نتيجتها برضى الجميع وفق قواعد الشرع. كم أتمنى كمواطن يشرفه الانتماء لهذا البلد الإسلامي أن تكون وقائع اليوم صفحة جديدة للكل في التعامل مع الناس بعدل حكاما ومحكومين، خاصة في أمور الدماء ولتكن هذه الحادثة ناسخة للكثير من قصص الماضي، في أي نزاع خاصة عندما يكون أحد أطرافه أمير ، صغيرا كان أم كبيرا، ولنضع حدا لقصص التوجس والوحشة ولنكن عباد الله إخوانا، نحتاج إلى وقائع علنية مماثلة على أكثر من صعيد لإزالة ما قد علق بالنفوس، فو الله إن سيادة الشريعة مطلب رئيس للجميع وهو الذي سيروض قلوبنا لقادتنا بالسمع والطاعة بالمعروف، كما أن العكس لا سمح الله ينفرنا منهم مهما جاملناهم رغبة أو رهبة، ولقد كنا في الماضي نتلمس شبهة إيجابية فنفسرها لصالح الدولة طمعا في لم الشمل ووحدة الكلمة واليوم جاءتنا حقيقة ناصعة تمثلت في تمكين مواطن سعودي من أحد أفراد الأسرة الحاكمة ليقتص منه فلم يسرف في القتل، بل بادر بالعفو فلله الحمد والمنة.
أتمنى أيضا أن يتعامل الأخوة مع مشاهد اليوم بكل حكمة وتعقل بعيدا عن المزايدات ونكأ الجراح، فالدنيا ابتلاءات كفانا الله وإياكم شرها، ومن يدري فلعلنا نحتاج يوما إلى من يعفو عنا أو عن قريب لنا، و أيم الله أني أكتب الآن وأنا وسيط خير في قضيتين مشابهتين لعل الله أن يصلح بين أطرافهما فيقتدون بأمثال أبي تميم وعفوه، أتمنى أيضا أن يتعلم أبناء الأسرة الحاكمة من درس اليوم ما يجعلهم يبتعدون عما يحرجهم مستقبلا أو يحرج قادتنا وقادتهم في الحقوق، وليعلموا أن الشرع مطهرة للجميع و أن دماء الناس معصومة وحرماتهم محفوظة وليس كل الناس بمثل عقل وحكمة سليمان القاضي الذي انتظر حكم الشرع طويلا ليتصرف بحقه في العفو، فهناك من لا يتحمل الضيم ولا يقبل الإهانة، خاصة عندما يصاحب الجريمة استهزاء واستخفاف بالحرمات، وكما أن في الأسرة طائشين ومتهورين ففي غيرهم مثلهم ، كفانا الله وإياكم شر الفتن والفوضى لاسيما ونحن في مرحلة استخف البعض بالدماء المعصومة والبريئة فكيف بمن يجدون لهم عليه سبيلا.
أخيرا من الطبيعي أن يحاول كل طرف فيما مضى الضغط بكل وسيلة على الطرف الآخر بهدف إنهاء القضية لصالحه ولا عيب في ذلك طالما أن الأمر لا يحل حراما ولا يحرم حلالا (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) ولقد أحسن الشيخ سليمان القاضي في استخدام حقه الذي فرضه الله له بالصمود دون توان أو ضعف ليسجل الموقف في لحظته المناسبة، كما أحسنت الدولة بعدم تمكين ذوي النفوذ بالتدخل قضائيا، مع إتاحة الفرصة لأهل الخير للتدخل بالصلح وفق ما هو متاح للجميع. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، الله إنك تعلم أننا لا نحب للمسلمين من الأسرة والشعب رجالهم ونسائهم إلا خيرا، اللهم فرج همنا وهمهم ، ونفس كربنا وكربهم واغفر اللهم لنا ولهم، اللهم لاترينا وإياهم مكروها ولا مكروبا، ولا تفجعنا بوالد ولا ولد، اللهم وأجزل للشيخ سليمان القاضي المثوبة على عفوه عن قاتل ولده واحفظ لبلادنا قادها وأمنها واستقرارها واهدنا إلى الحق بإذنك فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
محسن العواجي- الوسطية- الحلقة الفكرية 12/3/1425هـ