[align=center]الشرط الثالث: أن يكون الصبر في أوانه ولا يكون بعد انتهاء زمانه؛ لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بامرأة تبكي عند قبر فقال: “اتّقِ الله واصبري” [فقالت]: إليك عنِّي فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي، فأتت باب النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”( ). أي الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل؛ لكثرة المشقة فيه، وأصل الصدم الضرب في شيء صلب، ثم استعمل مجازًا في كل مكروه حصل بغتة( ).
28 ـ أمور لا تنافي الصبر ولا بأس بها منها ما يأتي:
الأمر الأول: الشكوى إلى الله تعالى؛ فالتضرع إليه ودعاؤه في أوقات الشدة عبادة عظيمة، فإن الله أخبر عن يعقوب بقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}( ).
وقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}( ).
وقال: {إِنَّمَا أَشْكُواْ بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}( ).
وأيوب عليه الصلاة والسلام أخبر الله عنه {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}( ).
وقال الله تعالى عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}( )، فإذا أصاب العبد مصيبة فأنزلها بالله وطلب كشفها منه فلا ينافي الصبر( ).
الأمر الثاني: الحزن ودمع العين؛ فإن ذلك قد حصل لأكمل الخلق نبينا محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي سيف القين( ) – وكان ظِـئرًا( ) لإبراهيم عليه السلام – فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبراهيم فقبَّله وشمَّهُ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه( ) فجعلت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تذرفان( )، فقال له عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله( )؟ فقال: “يا ابن عوف إنها رحمة” ثم أتبعها بأخرى( ) فقال: “إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون”( ). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه: فقلت يا رسول الله تبكي أو لم تنه عن البكاء؟ وزاد فيه: “إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهوٍ ولعبٍ ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان”. قال: “إنما هذا رحمة ومن لا يَرحم لا يُرحم”( ).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "هذا الحديث يفسر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه، ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الإخبار عن الحزن وإن كان الكتمان أولى، وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما: صغره، والثاني نزاعه. وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق، وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله؛ ليظهر الفرق"( ).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي [صلّى الله عليه وسلّم] يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله( ) فقال: “قد قضى”؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلّى الله عليه وسلّم بَكَوْا، فقال: “ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذبُ بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا( ) – وأشار إلى لسانه – أو يرحم( )، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه”( )، وكان عمر رضي الله عنه يضرب فيه بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب"( ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر"( ).
وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه في قصة لصبي لإحدى بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لرسول ابنته: “ارجع إليها فأخبرها: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب” فأرسلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأقسمت عليه أن يحضر، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأسامة معهم، وحينما رفع الصبي للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في النزع، فاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: “هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء”( ).
وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "شهدنا بنتًا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: و رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان"( ).
29 ـ الأمور التي تعين على الصبر على المصيبة بفقد الأحباب كثيرة منها ما يأتي:
الأمر الأول: معرفة جزاء المصيبة وثوابها وهذا من أعظم العلاج الذي يبرد حرارة المصيبة وتقدمت الأدلة على ذلك.
الأمر الثاني: العلم بتكفيرها للسيئات وحطها كما تحط الشجرة ورقها( ).
الأمر الثالث: الإيمان بالقدر السابق بها وأنها مقدرة في أم الكتاب كما تقدم.
الأمر الرابع: معرفة حق الله في تلك البلوى، فعليه الصبر والرضا، والحمد والاسترجاع والاحتساب.
الأمر الخامس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوفِ قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدي الحق.
الأمر السادس: العلم بترتبها عليه بذنبه، فإن لم يكن له ذنب كالأنبياء والرسل فلرفع درجاته.
الأمر السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة دواء نافع ساقه إليه العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر ولا يسخط ولا يشكو إلى غير الله فيذهب نفعه باطلاً.
الأمر الثامن: أن يعلم أن عاقبة هذا الدواء: من الشفاء والعافية والصحة وزوال الآلام ما لم تحصل بدونه، قال الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}( ).
وقال عز وجل: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}( ).
الأمر التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ: هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
الأمر العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال( ).
الأمر الحادي عشر: معرفة طبيعة الحياة الدنيا على حقيقتها؛ فهي ليست جنة نعيم ولا دار مقام إنما ممر ابتلاء وتكليف؛ لذلك فالكيِّس الفطن لا يفجأ بكوارثها، ولله در القائل:
إن لله عبادًا فطنا
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
فالحياة الدنيا لا تستقيم على حال ولا قر لها قرار، فيوم لك ويوم آخر عليك، قال الله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}( ).
وقد أحسن أبو البقاء الزندي القائل:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دول
فمن سره زمن ساءته أزمان( )
الأمر الثاني عشر: معرفة الإنسان نفسه؛ فإن الله هو الذي منح الإنسان الحياة فخلقه من عدم إلى وجود وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فهو ملك لله أولاً وآخرًا، وصدق لبيد بن ربيعة رضي الله عنه القائل:
وما المال والأهلون إلا ودائعُ
ولا بد يومًا أن ترد الودائع
الأمر الثالث عشر: اليقين بالفرج، فنصر الله قريب من المحسنين، وبعد الضيق سعة، ومع العسر يسرًا؛ لأن الله وعد بهذا ولا يخلف الميعاد، وقال سبحانه: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}( ).
وقد أحسن القائل:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
ذرعًا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلم استحكمت
حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لا تفرج
وقد وعد الله عز وجل بحسن العوض عما فات؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}( ).
ولله در القائل:
وكل كسر فإن الله يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران( )
الأمر الرابع عشر: الاستعانة بالله فما على العبد إلا أن يستعين بربه أن يعينه، ويجبر مصيبته، قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}( )، ومن كانت معية الله معه فهو حقيق أن يتحمل ويصبر على الأذى.
الأمر الخامس عشر: التأسي بأهل الصبر والعزائم، فالتأمل في سير الصابرين وما لاقوه من ألوان الابتلاء والشدائد يعين على الصبر ويطفئ نار المصيبة ببرد التأسي، قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ}( ).
الأمر السادس عشر: استصغار المصيبة، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: “يا أيها الناس أيما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي”( ).
وكتب بعض العقلاء إلى أخ له يعزيه عن ابن له يقال له: محمد فنظر الحديث الآنف شعرًا فقال:
اصبر لكل مصيبة وتجلد
واعلم أن المرء غير مخلد( )
وإذا ذكرت محمدًا ومصابَهُ
فاذكر مصابك بالنبي محمد
الأمر السابع عشر: العلم أن المصيبة في غير الدين أهون وأيسر عند المؤمن، ولله در القائل:
وكل كسر فإن الله يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران
وذكر أن امرأة من العرب مرت بابنين لها وقد قتلوا فقالت: الحمد لله رب العالمين، ثم قالت:
وكل بلوى تصيب المرء عافية
ما يُصَبْ يومًا يلقى الله في النار( )
الأمر الثامن عشر: العلم بأن الدنيا فانية وزائلة، وكل ما فيها يتغير ويزول؛ لأنها إلى الآخرة طريق، وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، وقد دلّ على ذلك الكتاب والسنة:
أما الأدلة من الكتاب:
1 ـ فقال الله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}( ).
2 ـ وقال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}( ).
3 ـ وقال عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}( ).[/align]