بسم الله الرحمن الرحيم
من سعيد بن علي بن وهف القحطاني إلى كل مسلم مصاب بمصيبة موت الأحباب، أو فقد فلذات الأكباد، وثمرات الأفئدة، جبر الله مصيبتهم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فالله أسأل أن يحسن عزاءكم وأن يجمعكم ومن فقدتم في الفردوس الأعلى من الجنة، واعلموا “أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبروا واحتسبوا”([1])، وأبشروا بما وعد الله عباده المؤمنين الصابرين وإليكم ما تطمئن به قلوبكم ويُبرِّد حرّ مصيبتكم العظيمة، ويشرح صدوركم ويذهب همومكم وغمومكم من كلام ربكم الكريم، الحكيم، الرؤوف، الرحيم، الذي هو أرحم بالعباد من والديهم، ومن كلام نبيكم وقدوتكم وحبيبكم محمد صلّى الله عليه وسلّم.
1 ـ صلوات الله ورحمته وهدايته للصابرين: قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}([2]).
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي بشرهم بأنهم يُوفَّوْن أجورهم بغير حساب، فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن، أو كليهما، كما تقدم في الآيات، ومن ذلك موت الأحباب، والأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد أو بدن من يحبه، {قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ} أي مملوكون لله، مدبرون تحت أمره، وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأولادنا، وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء فقد تصرف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد: علمه بأن وقوع البلية من المالك الحكيم الذي هو أرحم بعبده من نفسه ووالدته، فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره؛ لِمَا هو خير لعبده وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفرًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله وراجع إليه من أقوى أسباب الصبر {أُولَـئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي ثناء من الله عليهم {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ومن رحمته إياهم أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به، وهو هنا: صبرهم لله([3]).
قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: “نعم العدلان ونعمة العلاوة {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان، {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا”([4]).
2 ـ الاستعانة بالصبر من أسباب السعادة، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}([5]).
3 ـ محبة الله للصابرين، قال عز وجل: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}([6]).
4 ـ معية الله مع الصابرين: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}([7]).
5 ـ استحقاق دخول الجنة لمن صبر، قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا}([8]).
6 ـ الصابرون يوفون أجرهم بغير حساب، فلا يوزن لهم، ولا يكال لهم إنما يغرف لهم غرفًا، وبدون عدٍّ ولا حدٍّ، ولا مقدار([9])، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}([10]).
7 ـ جميع المصائب مكتوبة في اللوح المحفوظ، من قبل أن يخلق الله الخليفة ويبرأ النسمة، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير([11])، قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}([12]).
8 ـ ما أصاب من مصيبة في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم إلا بقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علمه وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، فإذا آمن العبد أنها من عند الله فرضي بذلك وسلم لأمره، فله الثواب الجزيل والأجر الجميل، في الدنيا والآخرة، ويهدي الله قلبه فيطمئن ولا ينزعج عند المصائب، ويرزقه الله الثبات عند ورودها، والقيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخره الله له يوم الجزاء من الثواب([13])، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}([14])، قال علقمة عن عبد الله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} هو الرجل الذي إذا أصابته مصيبة رضي بها وعرف أنها من الله"([15]).
وما أحسن ما قال ابن نصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى:
سبحان من يبتلي أناسًا
أحبَّهم والبلاءُ عطاءُ
فاصبرْ لبلْوى وكن راضيًا
فإن هذا هو الدواءُ
سلم إلى الله ما قضاه
ويفعل الله ما يشاء([16]
9 ـ الله تعالى يجزي الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون، قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قسمٌ من الرب تعالى مؤكد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، أي ويتجاوز عن سيئاتهم([17]) ولله در أبا يعلى الموصلي القائل:
إني رأيت وفي الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلّ من جدَّ في أمر يحاوله
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر([18])
10 ـ ما يقال عند المصيبة والجزاء والثواب والأجر العظيم على ذلك، فعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: “ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها” قالت أم سلمة، فلما توفي أبو سلمة – رضي الله عنه – قلت كما أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخلف الله لي خيرًا منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي لفظ: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: “إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أجُرْني في مصيبتي وأخلِفْ لي خيرًا منها...” الحديث"([19]). وفي لفظ ابن ماجه: “إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجُرْني فيها وعوِّضني خيرًا منها”([20]).
وحديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: “إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد”([21]).
قال ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى:
يجري القضاء وفيه الخير نافلة
لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ
في الحالتين يقول الحمد لله([22])
11 ـ الأجر العظيم والثواب الكثير والفوز بالجنة لمن مات حبيبه المصافي فصبر وطلب الأجر من الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله تعالى: “ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة”([23])، قوله: "جزاء" أي ثواب وقوله: "إذا قبضت صَفِيَّه"
([1]) مسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 923.
([2]) سورة البقرة، الآيات: 155 – 157.
([3]) تيسير الكريم الرحمن للعلامة السعدي، ص76، وتفسير ابن كثير ص135.
([4]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ص135، وهو في صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، الباب رقم 42 قبل الحديث رقم 1302.
([5]) سورة البقرة، الآية: 45.
([6]) سورة آل عمران، الآية: 146.
([7]) سورة البقرة، الآية: 153.
([8]) سورة الفرقان، الآية: 75.
([9]) تفسير ابن كثير، ص1511، وتفسير السعدي ص721.
([10]) سورة الزمر، الآية: 10.
([11]) تفسير ابن كثير، ص1313، وتفسير السعدي ص842.
([12]) سورة الحديد، الآيتان: 22، 23.
([13]) تفسير السعدي، ص867.
([14]) سورة التغابن، الآية: 11.
([15]) البخاري، كتاب التفسير، سورة التغابن، بعد الحديث رقم 4907.
([16]) برد الأكباد عند فقد الأولاد للحافظ المحدث أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي (777-842هـ) ص12.
([17]) تفسير ابن كثير، ص753، وتفسير السعدي ص449.
([18]) انظر: الصبر الجميل لسليم الهلالي 15 – 16.
([19]) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، برقم 918.
([20]) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة، برقم 1598، وصححه الألباني، في صحيح ابن ماجه، 1/267، وأصله في صحيح مسلم.
([21]) الترمذي، برقم 1021، ويأتي تخريجه.
([22]) برد الأكباد عند فقد الأولاد للحافظ محمد بن عبد الله بن ناصر الدين ص17.
([23]) البخاري، كتاب الرقاق، باب العمل الذي يبتغى به وجه الله، برقم 6424.