عرض مشاركة واحدة
قديم 14-12-08, 05:08 pm   رقم المشاركة : 4
عجوز سمنسي
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية عجوز سمنسي






معلومات إضافية
  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة : عجوز سمنسي غير متواجد حالياً

أهمية النقد

النقد أيها الإخوة، مطلب إنساني لمواجهة الانحرافات والأخطاء، التي تتسلل إلى حياة الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات، وغياب النقد معناه -بلا شك- تراكم الأخطاء وتماديها، حتى يستحيل التصحيح بعد ذلك.

النقد يجلي صفة النقص والخلل

كما أن من جوانب أهمية النقد، أنه يجلي للإنسان وللأمة والجماعة والدولة صفة نفسها وصورتها، فهو مرآة حقيقية لا زيف فيها ولا زيادة ولا نقصان، وربما لا يستطيع الكثير من الناس أن يعرفوا عيوب أنفسهم، وذلك لأن الإنسان يمارس عيبه أحياناً بشكل طبيعي، وربما يعتقده أحياناً صواباً لا يري أنه خطأ، فكم من إنسان يقع في الخطأ وهو يظن أنه صواب، فيحتاج إلى من يبصره بهذا الخطأ، ويقول له: أخطأت، والصواب كذا وكذا. وقل مثل ذلك بالنسبة للدول والجماعات والأمم، فهي تحتاج دائماً وأبداً إلى أفراد من غير صانعي القرار، يستدركون ويصححون وإلا غرقت السفينة، فالذي اتخذ القرار بهذا الأمر هو اتخذه باجتهاد، فيرى أنه صواب، وليس بالضرورة أن يكون اتخذه عن غدر أو فجور، أو سبق إصرار. وبناءً على هذا فمن الصعب أن يصحح الإنسان لنفسه، لكن الآخرين قد يملكون التصحيح، وقد يكون لديهم وجهات نظر تستحق التقدير وتستحق الاحترام.

كيل المديح عند غياب النقد

وإذا غاب النقد، فإن البديل عن النقد الصحيح هو كيل المديح، فما أمامنا إلا حلاَّّن: إما النقد الصحيح، أو كيل المديح، وكثيرون يكيلون المديح والثناء والإطراء بلا حساب، وهذا الإطراء والثناء يغر الإنسان، ويغريه بأن يصر على الخطأ، كما أنه يخدع الأمة ويزور الحقائق، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في المديح، ولما مدحوه وقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا. قال عليه الصلاة والسلام: {قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان} والحديث رواه النسائي، وسنده جيد كما قال بعض أهل العلم. وكما في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {احثوا في وجوه المداحين التراب} رواه مسلم عن المقداد بن الأسود. ورأى رجلاً يمدح أخاه فقال: {قطعت ظهر أخيك، أو قصمت ظهر أخيك} والحديث صحيح. إذاً الإسلام نهى عن المبالغة في المديح والإطراء؛ لأن الإطراء لا يزيد الإنسان إلا إصراراً على ما هو عليه. وقد يمدح الإنسان بقدر، تشجيعاً له على صواب صدر منه، واعترافاً بفضل له، لكن لا ينبغي أن يكون هذا دأباً وديدناً كما هو الواقع اليوم في عالم الإسلام، فقد أصبح المديح فناً يُمارس، وأصبحت له أجهزته المتخصصة، التي لا هم لها إلا إزجاء المديح بالحق وبالباطل، ومهما كان الشخص الممدوح، فإنها لابد أن تمدحه بكل شيء، حتى لو أخطأ حولت الخطأ إلى صواب، وبالتالي مدحته بهذا الإنجاز العظيم الذي فعله. مديح الأشخاص: والمديح أنواع منها: مديح الشخص لفلان العالم، أو المسئول، أو الحاكم، أو الأمير، أو الداعية، أو التاجر...إلخ مديح هذا الشخص، سواء كان بشكل أو بحسن الخلق أو بالفصاحة أو بالكرم، أو بغير شيء. وقد حفظ لنا التاريخ صوراً سيئة كالحة، عن هؤلاء المنافقين الذين لا همّ لهم إلا إزجاء المديح ولعل أسماعكم قد كرهت واستثقلت تلك الأبيات التي قالها ابن هاني، يمدح أحد الأمراء العبيديين، يقول له: ما شئت لاما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار إلى هذا الحد بلغ الذوبان في شخصية الحاكم، أنه أعطاه صفة الألوهية وصفة النبوة، وأعطى أتباعه صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الصنف من الناس من المرتزقة - لا كثرهم الله - هم موجودون في كل زمان ومكان، ليست القضية أو المشكلة أن يقوم شاعر نبطي - مثلاً - فيمدح؛ لأن هذا شأنه وهذا عمله، وليست القضية أو المشكلة أن يقوم صحفي مرتزق فيمدح؛ لأن هذا عمله وهذه وظيفته، لكن المشكلة أن يقع هذا من عالم، أو من رجل من رجال الفكر أو الأدب، الذين يُشار إليهم بالبنان، وتُعقد عليهم الخناصر، ويعتبرون نموذجاً حياً لما يجب أن تكون عليه الأمة، فإذا به يقع في زلات عظيمة، قد كثرت اليوم حتى لم يستطع أحد يحصيها. ولعلكم أيضاً ربما سمعتم ذلك الإنسان، الذي يقول لأحد الطواغيت الهالكين لما انتقل من موقف من المواقف، قال: لو كان لي من الأمر شيء، لجعلت فلاناً في موقع الذي لا يُسأل عما يفعل. فأغرى هذا الإنسان المتعالم أو المنسوب إلى العلم، أغرى ذلك الحاكم بمزيد من الطغيان والإصرار، والغطرسة والكبرياء والجبروت، فكان يتكلم ويخطب ويقول: لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد. مديح المكاسب والمنجزات: وهناك مدح المنجزات والأعمال والانتصارات والمكاسب، سواء كانت مكاسب وهمية، بل هي خسائر حولناها إلى مكاسب، وظللنا نتغنى بها زماناً طويلاً، ونضخمها وننفخ فيها نفخاً مستمراً حتى لا ينساها الناس، ونحييها ونجعل لها المناسبات، ونجعل لها الأعياد التي يبتهج فيها الناس، وقد يوضع في بعض الدول العيد إجازة بمناسبة أو بأخرى، وندندن حولها في الإعلام وفي غيره، وكأننا بذلك نعوض عن العجز الموجود عندنا، العجز عن تحصيل مكاسب جديدة، أو نتستر على ألوان من الفشل القائم الدائم، الذي نحاول أن نصرف وجوه الناس عنه بالكلام عن مكاسب مضت وانتهت، قد تكون مكاسب حقيقية أحياناً، وقد تكون مكاسب وهمية في كثير من الأحيان. ولعله من الأمثلة التي تعرفونها، أن الإعلام -هذا النوع من المكاسب- قد يتكلم عن دولة -مثلاً- فيتكلم عن العراق، وكيف أن العراق كان يتكلم عما يسميه أم المعارك، فلما فشل في تلك المعارك وانهزم، وصارت الأمور التي صارت وعرف الناس كلهم، صار يتكلم عن مكاسب أخرى، فيقول: إن مجرد صمود الحزب أمام هذا الطوفان الهائل يعتبر مكسباً، ليغري الناس بذلك، أو يعمل مباراة رياضية يسميها أم المباريات أو أم المعارك، وينتصر فيها العراق، أو يحاول أن ينتصر ليغري الشعب بهذه الألاعيب عن الهزائم الحقيقية التي مُني بها. وهذا الأمر ليس محصوراً في بلد معين، بل إننا نقول: إن كل أمة الإسلام الآن تعيش ألواناً من الهزائم، التي تحاول أن تتستر عليها بالمديح وضروب الثناء، وتذكر بعض المكاسب السابقة وإطرائها، وإقامة المناسبات والأعياد والاحتفالات لها. المديح لنشاط من الأنشطة: وقد يكون المدح أحياناً ليس مدحاً لشخص، ولا لمكاسب أو منجزات، بل قد يكون مدحاً لعمل، كنشاط دعوي -مثلاً-، أو نشاط جهادي قام في بلد من البلاد، أو نشاط علمي، بحيث تسري روح التزكية والثناء والإطراء، وتختفي روح النقد والتصحيح، ولا يملك الناس القدرة على اكتشاف الخطأ، وهذا -كما قلت قبل قليل- داء موجود في كل المسلمين، لا أعني في أفرادهم بالضرورة، كلا، فإن من المسلمين من لا يكون كذلك، لكنني أعني أنه موجود على كافة المستويات، فأنت حين تنتقل إلى عالم الدعوة، وعالم الجهاد، وعالم العلم، تجد هذا الداء موجوداً، تجد أن روح التزكية تسري، روح النقد ضعيفة، فالذي يمدح ويثني ويطري هذا محبوب، أما الذي ينتقد فإنه يعتبر مشاغباً وحوله علامات استفهام، وقد لا يكون مرغوباً فيه، لقد سرت عدوى التسلط والطغيان والاستبداد على الجميع، ولفَّتهم في عباءتها الرهيبة.

النقد يعيد للإنسان اعتباره

إذاً النقد هو: الكشف الطبي المتواصل، الذي يكتشف الخطر أو المرض بسرعة، وبالتالي يبادر إلى العلاج قبل أن يتمادى المرض، ويصل إلى مرحلة الخطر أو فقدان الأمل في العلاج، ولذلك لابد من النقد. والنقد أيضاً أيها الإخوة مشاركة حقيقية منك أنت في عملية الإصلاح، بحيث يصبح كل فرد في المجتمع له دوره وله مجاله، ولا يغدو الناس مجرد قطعان تساق إلى حتفها، وهي لا تشعر ولا تعي. إن النقد احتفاظ بإنسانية الإنسان، حيث يُقال له: يا فلان، تأمل وانظر واعمل وأعمل عقلك، وراجع ما تعرفه أنت من نصوص الشرع، ونصوص الكتاب والسنة، وإذا وجدت أمراً لا يليق من الناحية الشرعية، أو العقلية، أو من ناحية المصلحة، فإياك أن تسكت على هذا الخطأ، وعليك أن تُبلغ، ولتعلم أنك إن سكت على هذا الخطأ، فأنت شريك في الإثم. أو بمعنىً آخر: أنت شريك في جريمة السكوت على هذا الخطأ، والساكت عن الحق شيطان أخرس. لقد صنع الإسلام رجالاً كان أقلهم يرى أنه قوي في تغيير المنكر وإنكاره، وفي إقرار الحق والأمر به. وأضرب لكم مثلاً متناقضاً يدلكم على الفرق البعيد بيننا الآن، وبين الأجيال الأولى: بلال بن رباح رضي الله عنه كان عبداً أسود حبشياً في مكة، ليس له قيمة، يباع بالدرهم والدينار، فلما أسلم نُفخت فيه روح العزة والكرامة، والقوة والرجولة، فشعر أنه هو شخصياً ممن يقومون بتثبيت دعائم الإسلام، والدعوة إليه، والصبر والمقاومة، ولذلك كان يُعذب بـمكة، ويوضع في حرِّ الرمضاء، وهو يقول: [[أحد أحد، أحد أحد]] حتى في بعض كتب السيرة، أنه كان يقول: [[والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم من هذه لقلتها]] فوقف في وجه الطواغيت والظالمين والمتسلطين، والذين يفتتنون الناس عن دينهم، وصبر حتى فرج الله تعالى عنه، ولم يقل: أنا عبد مسكين، كيف أقف أمام أبي جهل وأبي لهب وعتبة وشيبة وفلان وفلان، من عليا القوم وزعمائهم ورؤسائهم. وقف بصبره وإيمانه، وأن قلبه لا سبيل لهم إليه، فكان يقول: أحد أحد، حتى مر به ورقة بن نوفل، وكان يقول: "نعم يا بلال أحد أحد، والله لئن قتلتموه لأتخذن قبره حناناً" كما جاء في بعض الروايات إن صحت. هذا بلال نموذج للمسلم الأول. لكن خذ نموذجاً للمسلم المعاصر، هل تدري أن الاستعمار كان يستخدم المسلمين في احتلال بلاد المسلمين، فـفرنسا -مثلاً- كانت تستخدم المسلمين في سوريا وفي الجزائر في مقاومة المسلمين، وضرب المسلمين، وفي تدعيم مكانتها في تلك البلاد مع الأسف الشديد، بل إنك تجد أن التعذيب والاضطهاد، والقتل، والابتزاز، وألوان وصنوف الأذى، التي لقيها الدعاة والعلماء والمجاهدون في العديد من بلاد الإسلام، أنها ما كانت تتم على أيدي يهود ولا نصارى، إنما كانت تتم على أيدي أناس يحملون أسماء محمد وأحمد وعلي وصالح، وفلان وفلان من الأسماء الإسلامية، وقد تجد أحياناً من بينهم من يكون مصلياً، أو صائماً، أو غير ذلك، وليس بغريب أن الأداة التي يستخدمها الطغاة في كل زمان ومكان، في ملاحقة المسلمين والدعاة وطلبة العلم، ومحاربتهم، وكتم أنفاسهم، والتجسس عليهم، وإيذائهم في أنفسهم وفي بيوتهم وفي أرزاقهم، وفي وظائفهم، وفي أعمالهم، ومتابعة ماذا يقولون، وماذا يفعلون، وبمن يجتمعون، وكيف يجتمعون، ومتى يفترقون.... إلخ. إن هؤلاء أناس قد يكونون من رواد المساجد أحياناً، وقد يكونون من المصلين، أو ممن يحضرون الحلقات العلمية والدروس لهذا الغرض أو ذاك، ورُبما ترامى إلى مسامع بعضكم تلك القصيدة الشهيرة، قصيدة الشاعر: هاشم الرفاعي، التي كان يتحدث فيها عن صورة السجن والسجان، وما هي صفته، فكان يقول: والصمت يقطعه رنين سلاسلٍ عبثت بهن أصابع السجان ما بين آونة تمر وأختها يرنو إلي بمقلتي شيطان من كوة بالباب يرقب صيده ويعود في أمن إلى الدوران أنا لا أحس بأي حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغاني ويخاطب أباه فيقول: هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي لم يبد في ظمأ إلى العدوان فلربما وهو المروِّع سحنة لو كان مثلي شاعراً لرثاني أو عاد من يدري إلى أولاده يوماً تذكر صورتي فبكاني لكنه إن نام عني لحظةً ذاق العيالُ مرارة الحرمان إذاً هو من المرتزقة هذا المسلم المعاصر، فقد معنى انتماءه للإسلام، معنى إحساسه بالولاء للمسلمين، معنى حبه لله وللرسول وللمؤمنين، فصار مستعداً أن يذبح دينه على عتبة المصالح الدنيوية، أو الوظيفة، أو المال، أو الدنيا، أو على عتبة المرتبات والبدلات والإكراميات وغير ذلك، وقد يؤذي المسلمين أو يعذبهم، بل قد يصل الحال إلى قتلهم -كما قلت لكم- من أجل هذه المصالح الدنيوية، وكم هو مؤسف أن يلتقي المسلم مع أخيه المسلم في ميدان القتال، من أجل هذه الدنيا الفانية التي لا تستحق شيئاً، وربما قتل كل منهما على يدي الآخر. إذاً تأتي أهمية النقد من جهة أنه يُعيد للإنسان اعتباره، يعيد للإنسان إشعاره بأنه مسلم مكلف، مطالب بأن يقوم بعملية التصحيح، والمشاركة في الإصلاح، والمصارحة والنقد والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال موقعه، بالأسلوب الذي يعجبه والطريقة التي تناسبه. لكن لا يجوز أبداً أن يتخلى، ويقول المسئول غيري. وما أصيب المسلمون بما أصيبوا به، إلا يوم تخلوا وصاروا على مثل الحالة التي وصفت لكم.







التوقيع

عــَــآبِث مَــرَّ عَلَى هَذِه الحَيَاة


رد مع اقتباس