يتبع
مسيرة الأرقام !
وحضر السجان من جديد ونادى من وراء الأبواب على مجموعة من الأرقام ليجهزوا أنفسهم .. وأتاني الصوت البغيض :
13 ولا جهز حالك .
وفيما أخذت الأقفال تصطك بالمفاتيح وترتطم المزاليج الثقيلة بزوايا الحديد التي تحوط مجاريها على الأبواب الصلدة ، وبدأ تدافع الأقدام المدماة تتكؤ عليها الأجساد المنهكة يسوقونها مع الصفعات واللكمات ولسعات الكبل إلى المجهول ، انتصبتُ مكاني لأنفذ الأمر ، وجذبت بنطالي المتراخي لأستعد ، فهالني أنه اتسع علي فكأنه أكبر من قياسي بعشر درجات ، وأدركت للمرة الأولى أنني فقدت بين عشرة وخمسة عشر كيلو غراماً من وزني خلال هذه الأيام . ولم أكد أكتشف ذلك حتى فتح الباب وجذبني أحدهم بقسوة ، ودخلت ضمن مسيرة الأرقام المتحركة تسوقها اللطمات والركلات والكرابيج .
وكأنما أحس الجلادون أن اللقاء لن يتكرر ، ولذة الإستمتاع بتعذيب هذه المجموعة ها هي ستنقضي ، فبادروا بالجهد لتعويض الشوق إلى سماع استغاثاتنا وصراخنا ، ثم أركبونا وقد شارفنا على الهلاك سيارة مغلقة ، ونحن قرابة العشرين شخصاً مكبلي الأيدي معصوبي العيون . حتى إذا بدأت بالتحرك سرت التكهنات في سرائرنا وعلى أطراف شفاهنا : هل هي النهاية ؟ أإلى تدمر الآن ؟ أم ربما إلى سجن القلعة ؟ ولم يكن لنا من حيلة إلا الإنتظار . وسرعان ما وجدنا أنفسنا تتوقف بنا السيارة من جديد ، ويأينا الأمر الفظ مع سيل من الشتائم والمسبات بالنزول . ولم تلبث الأيدي القاسية والأرجل والكرابيج أن استقبلتنا بمثل ما ودعونا به هناك ، وساقتنا آخر الأمر نزولاً إلى قبو آخر عميق جداً ، لم نلبث أن عرفنا بعد هنيهة أنه قبو فرع مخابرات التحقيق العسكري
النوم بالتناوب !
أغلق علي باب المكان الذي دخلته وأنا لا أزال مطمش العينين ، لكن يداي كانتا مطلقتين . ولم ألبث أن سمعت همهمة تتزايد حولي ، وأحسست حركة من جهات شتى . وكأنما أتاني نداء خافت بأن أرفع الغطاء عن عيني الآن .. فاستجبت ببطء .. وبحذر . حتى إذا فعلت وكانت المرة الأولى التي أفتح فيها عيني بلا طماشة منذ اعتقالي ، وجدتني وسط مهجع محتشد بالنزلاء ، يكاد عدد السجناء فيه يصل المائة ، في مساحة لا تزيد عن حجم غرفة عادية ! ولم ألبث أن أومأت لمن حولي .. وسلمت ، فتشاغل البعض وأشاح البعض .. ورد الآخرون بصوت منخفض .
وسرعان ما لمحت سالم بين الناس فاقتربت منه بالتدريج . فلما حاولت أن أكلمه همس لي وقال :
لا تقترب مني كثيراً فربما كان هناك مخبرون بيننا !
لكن الحذر بدأ مع مضي الوقت يخف بالتدريج ، وبدأت أتعرف على الشباب ويتعرفون علي ، لنبدأ معاً مرحلة جديدة من هذه المحنة حافلة بالفواجع والأحداث .
كانت ظروف المهجع في غاية السوء . فمع هذا العدد غير المعقول من الناس لم يكن ثمة مكان لقادم جديد . وكنا إذا أردنا النوم تناوبنا على المكان فينام البعض ويظل الآخرون وقوفاً ينتظرون ! وكانت الأنفاس تختلط بنتانة العرق ، وتجتمع معها روائح جراحاتنا المتعفنة في هذا الجو السيىء . ولأن المهجع كان يحتوي على حمام بداخله ، فلم يكن هناك أي فرصة لمغادرته أبداً .
وبقيت على هذه الحال ثلاثة أسابيع تقريباً ، كان الباب يفتح خلالها لإدخال الطعام فقط ، والذي لم يكن يكفي ليقيتنا الكفاف . فنصيب الواحد منا صمونتان عسكريتان جافتان في اليوم ، تصحبهما بضع حبات زيتون أو شيىء من اللبنة أو الحلاوة في الصباح . وعلى الغداء يصلنا بعض الرز أو البرغل مصحوباً بمرقة حمراء . وفي المساء وعلى وجبة العشاء ننال نتفاً من البيض المسلوق أو البطاطس أو حب الحمص المسلوق . صنفاً واحداً فقط ، ومقدار دريهمات منه وحسب !
القمل والجرذان !
ولقد كان من المضحكات المبكيات أننا ونحن في هذه الحالة من الجوع والضيق والمعاناة كان قضاء محتماً علينا أن نشارك الطعام والمقام ضيوفاً من مخلوقات أخرى تؤمن أن كرم الضيافة حق مباح بلا حدود !
كانت الجرذان ، والتي أقسم أن واحدها كان أكبر من القط بلا مبالغة ، تربت على طعام المساجين الذي يحتجزه السجانون عنا ثم يرمونه في القمامة ! هذه الجرذان كانت تتنقل بين المهاجع من خلال قنوات التهوية رائحة غادية ، وأثناء عبورها فوق فتحة المروحة التي كانت أعجز من أن تقدم شيئاً لهذا الجو الموبوء ، كان بعضها يزلق فيسقط بيننا أو علينا ، فيصاب المهجع كله بهستيريا الذعر ، ويتراكض الناس يميناً وشمالاً يريدون أن ينجوا من عضة هذا المخلوق المرعب . ويتدافع الخلق .. ويعلو الصياح .. ولا تنتهي الغارة ويموت الجرذ تحت الأقدام إلا وقد نهش أرجل أربعة أو خمسة منا .
ومع احتشاد المهجع وتزاحم المعتقلين ، وبسبب بعض السجناء القادمين من مواطن موبوءة أو غير نظيفة بالأصل ، بدأت تتفشى فينا أعرض مرض السل ، وانتشر فيما بيننا القمل . وإذا كان البلاء الأول قد أصاب بعضنا وقتذاك ولم يأخذ صفة الوباء ، فإن القمل لم يوفر أحداً من بيننا أبداً ، وانتشر في رؤوسنا وملابسنا وأمتعتنا حتى لم يعد من سبيل لتفاديه . وكنت أنا أكثر الناس الذين قملوا . وكان منظراً اعتيادياً ونشاطاً مشتركاً لسكان المهجع كل يوم أن نخلع ملابسنا ونتابع القمل فيها فنفقأه بأصابعنا كإجراء وحيد متاح للحد أو التخفيف من انتشاره !
إلى الحلاق
وذات يوم ، وبعد أن مضت أسابيع كثيرة على اعتقالنا فطالت شعورنا ولحانا حتى بدونا كالغيلان ، صدر الأمر لنا بالذهاب إلى الحلاق . ومضى الطابور بنا إلى غرفة قريبة يتوسطها كرسي وسجان بمهنة حلاق كان يتناول رؤوسنا كالماعز ويمر بآلة الحلاقة عليها حتى نخرج من بين يديه بالقرعة كرأس البطيخ ! ولم يكن هذا الشخص يوفر الفرصة ليمتع نفسه بشتمنا ولطمنا بين حين وآخر ، وكان واضحاً من لهجته أنه من طائفة النظام .
ولقد كان من المضحكات المبكيات أننا وبعد هذه المهزلة أمرونا أن ندفع للرجل خمس ليرات أجرة حلاقة الرأس الواحد . تولاها الإخوة الذين كانت معهم في أماناتهم بعض النقود ، أو الذين وصلتهم مع طول مدة اعتقالهم زيارات بالواسطة . وبعد ذلك جاء وقت الحمام الجماعي ، وساقتنا اللطمات والركلات وفرقعة الكرابيج على ظهورنا إلى قاعة مفتوحة أدخلوا كل عشرة فيها دفعة واحدة وأمروهم أن يتعروا من ثيابهم ويغتسلوا معاً . والجلادون على الباب يشتمون من شاؤوا ويضربون من اشتهوا ، والجرذان العملاقة تلك على المواسير فوقنا تترقب أن يغفل أحدنا لتنهش منه أو تنقض عليه !
واعتدت حياة المهجع نوعاً ما ، وألفت الإخوة وألفوني . وتعرفت على العديد منهم من محافظات شتى ، أذكر منهم الإخوة حسين رشيد عثمان ، وابن عمه أيمن عثمان من مدينة الباب قرب حلب . وطاهر جيلو من ادلب . وجمال عقيل وجلال الدين جلال من حلب . ومحمد أرمنازي وجهاد كلاس الحلبي و..... جعمور و..... نجار وأسامة فتوحي الجندي من حماة . وتيسير أبو الرز وجهاد حلاق ومأمون العظمة و .... الصفدي وعبد الإله بعلبكي من دمشق وضواحيها . إضافة إلى سالم الحامد والدكتور صالح خوجة . ولقد تم إعدام أكثر هؤلاء الإخوة فيما بعد . وشهدت إعدام بعضهم بنفسي ، وسمعت عن الآخرين من شهود عيان .
إلهي أغثني
ولم يكن هناك في تلك المرحلة تعذيب أو تحقيق بفضل الله ، أو أنه كان لا يذكر قياساً بما سبق في فرع المخابرات . فوجدناها فرصة لا تثمن لنسمع قصص بعضنا البعض ، ومشاهدات وخبرات كل منا ، وأنعم الله علينا فنظمنا برنامجاً للصلوات والأذكار والدروس وحفظ القرآن ، ووقتها أتيح لي أن أسمع الكثير من سالم ومن غيره ، مثلما كانت بداية إقبالي على حفظ كتاب الله ، فكنت ألازم أخاً حافظاً لكتاب الله من حماة اسمه محمد صادق العون فأحفظ عنه ما تيسّر من سورة البقرة حتى جاوزت نصفها .
واستطعنا وقتها وللمرة الأولى منذ اعتقالي وللمرة الأخيرة ربما أن نصلي جماعة ، ورغم أن الحارس كان إذا فتح الشراقة ورآنا نصلي أخرج مجموعة منا وضربهم بلا رحمة ، إلا أننا كنا نعاود فعل ذلك ولله الحمد . ففي تلك الرحلة كانت معنوياتنا لا تزال عالية ، وثقتنا بالفرج وبالنصر كبيرة ، وكنا لا نزال نؤمل أن يأتي المجاهدون بين ساعة وأخرى فيقتحموا السجن علينا ويحررونا !
وأما سالم ، وبعد أن هدأت النفوس وأمِنّا المكان جلس وحدثني ، وروى لي كيف كان اعتقاله وكيف مضى التحقيق معه . وأكد لي أنه حاول أن يصرف عني ما استطاع ، واستسمح مني واعتذر إلي . وكان سالم حقيقة الأمر غير الشخص الذي عرفته من قبل ، فهو شخص بالغ التهذيب رقيق المشاعر بطبعه ، أصلح ما يكون مربياً . لكن قرار رميه في معترك هذه المعمعة لم يكن ليناسب مؤهلاته وشخصيته ، ولذلك كان دائم السهاد شديد الأسى ، يرقب هؤلاء الذين احتشد بهم المهجع بسبب اعترافاته ، ويرى أنه إلى الإعدام مصيرهم ، فلا يملك إلا أن يسكب الدموع وهو يدعو الله تعالى أن يخلصه . ولَكَمْ سمعته ينشد بحرقة ويقول : إلهي أغثني زماني عصيب !