عرض مشاركة واحدة
قديم 26-11-01, 06:55 am   رقم المشاركة : 7
بصراحة
عضو نشيط





معلومات إضافية
  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة : بصراحة غير متواجد حالياً

أرقام وحسب
! كانت الزنزانة أشبه ما تكون بقبر مقفل : الجدران متقاربة لا أستطيع أن أتمدد بينها ، والرهبة مطبقة ، وليس ثمة شيء تحتي إلا الإسمنت البارد ، والسقف شاهق فوقي تتوسطه شراقة للتهوية ( نافذة متشابكة القضبان ) يتسلل منها ضوء خافت يزيد المشهد كآبة ووحشة . وسرعان ما تدهم السكون صيحات استغاثة سجين آخر ينال العذاب في الطابق الأعلى ، وتخترق صرخاته الجدران الصم وأبواب الحديد ، فتنتفض من هولها كل ذرة في بدني وتستعر فيّ كل الجروح والكدمات .
ومضى الوقت بطيئاً ثقيل الوطء فكأنه الرحى تدور على جسدي المنهك ، لكنني سرعان ما فقدت معنى الزمن بعد هنيهة ، واختلطت علي معالم الليل والنهار . فلا ساعة معي تدلني على الوقت .. ولا صوت أحد أو همسة حي تنبي بما يجري .. والضوء الخافت لا يتغير ولا يتبدل . وعندما تذكرت الصلاة كانت وسيلتي الوحيدة لأدائها الإيماء . وعلى ذلك مضت السنون التالية علي ، لا أكاد أعرف الصلاة إلا بالإيماء وحسب !
وفتح الباب فجأة ، وتلقيت من غير مقدمات واحدة من أقذر المسبات قذفني السجان بها وهو يلقي إلي بنصف رغيف متيبس مرت عليه رائحة الحلاوة أو المربى في يوم من الأيام ! ولم ألبث أن اعتدت سماع مثل ما سمعت مع كل فتحة باب أو نداء للتحقيق أو خروج إلى الحمام . وكان خروجنا إلى الحمام مرة في اليوم يحددونها حسب أمزجتهم ، فيسوقون مجموعة من المساجين معصوبي العيون مكبلي الأيدي ، فإذا وقف واحدنا عند باب الحمام بعد أن مر على سيل من اللطمات واللكمات واللسعات فكوا يديه المكبلتين من الخلف ونقلوهما لتقيدا معاً من الأمام ! فلا يكاد يلج الحمام حتى تهوي الكبلات على الباب وتصله الشتائم والأوامر بالإسراع وبالإنتهاء . وفي كل تقلبات هذه الأحوال نظل مجرد أرقام تنادى ، لا شخصية لنا ولا أسماء . ليتكرس إحساسنا بالهوان ، ونزداد اضطراباً وضياعاً .



معجزة !
كانت حفلة التعذيب كما تقرر لي مرتين في اليوم . أخرج إلى غرفة التعذيب مكبلاً مغمض العينين .. أجرد من ملابسي بالكامل وأعلّق مشبوحاً من يدي .. وتكر الأحداث بعد ذلك : تبدأ بالشبح أحياناً ، فتتسلط الكبلات والسياط في هذه الحالة أكثر ما تتسلط على الظهر والصدر والرأس ، وتعمل ملاقط الكهرباء عملها في الوقت نفسه . لكن أسوأ ما يصيب الضحية وهو في هذه الحالة أثر القيد الحديدي الذي يشد على الرسغ ويحتك مع العظم بلا رحمة أو توقف . حتى التهبت يداي وتورمتا من جراء انغراس الحديد القاسي في اللحم واحتكاكه المباشر بالعظم الذي انكشف وتعرى . وظلت آثار القيد كالوشم على رسغي إلى اليوم ! وطوال خمسة أشهر تالية بقيت لا أحس براحَتَي يدي البتة ولا أقدر أن أحمل بهما أي شيء وكأنهما أصيبتا بالتنميل أو الخَدَر المزمن . وحكى لي طبيب التقيته في تدمر لاحقاً أن الأوتار في تلك المنطقة قد تهتكت بشكل كبير ، وأنها تحتاج إلى معجزة لتعود إلى حالتها الطبيعية من جديد .




بساط الريح
أما الحالة الأخرى من التعذيب فكانت على "بساط الريح" . وهو لوح من الخشب يشدون المعتقل عليه من كل أطرافه بسيور جلدية ، ثم يرفعون نصفه الأسفل الذي ارتصت عليه الساقان ولم تعودا تملكان أي فرصة للتحرك . وتبدأ الكبلات ذات النصال المعدنية تهوي على بطن الرجلين تنهشهما بلا شفقة ، وتترك مع كل لسعة لها أجزاء من نصال الحديد في ثنيات الجروح المتفجرة ، فإذا انتهى الضرب بقيت هذه النصال مع الدم المتجمد والجروح المفتوحة فتلتهب وتتعفن ، فيتضاعف الألم وتشتد الأوجاع والمعاناة . وأما الشتائم والكفر بالله فلم تكن تتوقف مع كل أنواع التعذيب . ولم أكن أنجو من هذه الحفلات الدامية إلا عندما يغمى علي ، لأستيقظ وأنا في الزنزانة عاري البدن ممزق الأوصال مبللاً أرتجف من شدة البرد . ولا أكاد ألتقط أنفاسي وألملم بقايا جَلَدي حتى يحين موعد التعذيب مرة أخرى ، وتعود الكَبْلات تنهش لحمي من جديد ، وتنقض ملاقط الحديد على أماكن متفرقة بالغة الحساسية من جسدي لتصعقني بالكهرباء .
ولأنهم كانوا يعرفون أن العورة لدينا أمر كبير فقد كانوا يتعمدون إهانتنا بالعبث بسوآتنا بطرف الكبل والعصي أثناء التعذيب ، أو الإطباق بملاقط الكهرباء على المحاشم وإطلاق صعقات الكهرباء فيها ، وكان ذلك في الحقيقة من أشد أنواع العذاب علي ، ويبدو أن ذلك ما كنت أفقد وقتذاك الوعي بسببه وأغيب عن الوجود .


دموع التماسيح

! وفي مرة من المرات وبعد أن مضى علي في العذاب عدة أيام أخرجوني كالعادة وعروني وعلقوني ، فوجدتني من قبل أن يبدأ الضرب أحس وكأنني فقدت الهواء في رئتي وما عدت قادراً على جذب النَفَس . وكان يلازم في غرفة التعذيب تلك طبيب متخصص كما يبدو ، سرعان ما اقترب مني فجس نبضي وطلب منهم أن يُنزلوني ، ولم يلبث أن حقنني بإبرة جعلتني أفقد القدرة على النطق أو الحركة ، وأحس أنني أغادر هذا العالم وأموت بالفعل !
ووجدتني أغيب عن الوعي لأصحو بعد قليل فأراني في أحد أحد الأسرّة . عن طرفي من هنا حارس برشاشه الكلاشينكوف ، ومن هناك يتدلى أنبوب بلاستيكي يتصل بكمامة على أنفي أتنشق من خلالها الأوكسجين . وبعد ساعة أو ساعتين استعدت خلالهما أكثر وعيي وجدتهم يقودونني عبر ممرات المستشفى الذي نقلت إليه إلى سيارة كانت تنتظرني لتقلني إلى الفرع من جديد . وهناك أعادوني إلى الزنزانة من غير عذاب . وبعد خمس أو ست ساعات استعدت خلالها وعيي أخرجوني إلى غرفة التعذيب من جديد ، وعوضوني عن التعذيب الذي فاتني عذاباً مثله كاملاً غير منقوص !
وفي مرة أخرى مماثلة وبعد أن كاد التعذيب يقتلني بحق حضر الطبيب ثانية إلى زنزانتي فنظف لي جروحي المتقيحة ، وقدم لي كأس حليب لأستمر على قيد الحياة ، وأجدد قدرتي على تلقي المزيد من التعذيب .. ومضى !