وجهاً لوجه !
استقبلتني من فوري اللكمات والركلات من كل جهة وأنا في طريقي إلى قبو المبنى . وهناك ومع الإجراءات نفسها فتشوني وأخذوا في غرفة الأمانات كل ما كان في جيوبي علاوة على الساعة والحزام ، ومنحوني رقم "13" ليكون اسمي الجديد من الآن فصاعداً .
ودفعوني وأنا لا أزال مطمش العينين مكلبش اليدين إلى مهجع جماعي استطعت أن ألمح فيه العديد من المساجين على مثل حالتي ، والسجان يجلد ظهورهم بكبل في يده . ولم تمض علي دقائق حتى جذبتني الأيدي وأصعدتني مع الركلات والصفعات الدَرَجَ ثانية وأوقفتني فجأة ونزعت الغطاء عن عيني ، لأجد سالم الحامد واقفاً أمامي وقد طالت لحيته وشعره لا ينبس بشفة . ومن غير مقدمات أتاه السؤال :
أهذا هو ؟
قال : نعم .
وفُتح الباب فدلف صالح الخوجة الطبيب الدمشقي الذي كان أحد من أوصلت لهم الرسائل مرة . فسألوه السؤال نفسه ، فأجاب بما أجاب سالم ، وغاب الرجلان عن عيني بعد ذاك .
في الزنزانة
أسقط في يدي ، وأذهلتني المفاجأة بحق ، ومن غير أن يمسني أحد هذه المرة اقتادني عنصر إلى القبو كما أحضرني . وفي الزنزانة الموحشة حيث ألقاني هجمت علي التساؤلات والمخاوف والهواجس دفعة واحدة بلا رحمة : أمي وأبي .. أهلي .. ماذا يفعلون الآن ؟ كيف تراهم يتعذبون من أجلي ؟ يا للمساكين .. سيحاولون البحث عني والتوسط لي بلا شك .. ولن يجدوا إلا الفشل وخيبة الأمل ! لقد انتهيت هذه المرة .. والإعتراف الآن علي متحقق ودامغ . وماذا عن أولاء الذين لا يزالون على صلة معي في سورية ؟ هل تراهم انكشفوا ، أم أنني سأضطر لكشفهم بعد حين ؟ وماذا عن التعذيب الذي ينتظرني ؟ ماذا عن قصص الرعب التي سمعت الكثير عنها ورأيت ملامح بعضها في الأيام القليلة التي أوقفوني فيها المرة الماضية على الحدود ؟ هل انتهى كل شيء حقاً .. هل هي إلا مجرد أيام معدودة ثم تنتزع مني المعلومات وأنال المصير الذي ناله شهداء تدمر قبل أقل من عام
لى التحقيق
إمضى الوقت علي كالطوفان أغرقني وأرعبني ، ولم تلبث الزنزانة أن فتحت من جديد ونادى المنادي :
13 ولا .. هيا .
وساقتني الأيدي القاسية ثانية إلى الأعلى . وعلى باب غرفة التحقيق وجدت الشخص الذي أحضرني ينزع عني ملابسي كلها ويقذف بي من ثم إلى داخل الغرفة مغمض العينين مكبل اليدين عارياً كيوم ولدتني أمي ! ولم يلبث الصوت نفسه أن أمرني بالجثو على الأرض وخفض الرأس ، وحذرني أن أحاول رفع هامتي لأي سبب .
منذ متى وأنت تعرف أبا الفرج ولا ؟
جاءني السؤال هكذا بلا أي مقدمات . أحسست أن شخصاً آخر يطل علي من وراء مكتب في مواجهتي هو الذي طرح السؤال .
من زمن .
قلتها وأنا لا أعرف بعد كيف أخاطب هؤلاء الناس أو أرد عليهم . فالجو المرعب منذ اللحظات الأولى يلغي لدى المرء القدرة على التركيز أو التمييز .
وماذا عن الدكتور صالح خوجة ؟
قلت : أعرفه كذلك من زمن .
كان الدكتور صالح على علاقة مع سالم بالفعل ، وحدث أن قمت بإحضار رسائل إليه من القيادة في الأردن إلى عيادته بحي ركن الدين ، فلما اعتقل سالم كان الدكتور صالح أحد الذين اعترف عليهم كما يبدو ، وكان قد أقر أنه يعرفني كما مر ، ولذلك فلم تعد هناك جدوى من الإنكار .
طيب محمد .. قل لنا الآن لماذا أنت تعرف هذين الشخصين ؟
كانت اللهجة إلى الآن هادئة ، والحديث يدور بشكل عادي في ظاهره ، لكن ذلك كان يزيد من شعوري بالقلق من الآتي وترقب المجهول .
قلت : كان هناك شخص طلب مني أن أوصل لهما رسائل ففعلت .
وما هي هذه الرسائل ؟
لا أعرف . هذا الشخص كان سائقاً على الخط بين عمان ودمشق ، وكان يعمل معي معروفاً فيأتي لي بأغراض من أهلى ، ويأخذ أغراضي إليهم بعض الأحيان . وكان بين هذه المرات يطلب مني أن أوصل رسائل أو نقوداً لهذين الشخصين فكنت أرد له الجميل وأفعل .
كان مازن يوم اعتقالي مسافراً في الأردن ولله الحمد ، وتأكد لي أنه لن يعود بعدها . وكنا واقع الأمر قد اتفقنا على سرد مثل هذه الرواية إذا وقعنا بأيدي المخابرات . ولذلك بدت لي إجابتي منطقية ومترابطة . لكن الرجل تابع يسأل :
ألم تكن تعلم بمحتويات الرسائل ؟
قلت : لا .
قال : في اليوم الفلاني أنت ذهبت إلى الدكتور صالح وأعطيته مغلفاً فيه مجلة النذير ورسائل أخرى من الأردن ، وقلت له أن يأتي على موعد مع الشيخ سعيد حوى إلى عمان . ألا تذكر ذلك ؟
صحيح . أنا أوصلت إليه مغلفاً يومها لكنه كان مغلقاً ، وهو موجود عندكم ويمكنك أن تسأله . وأما مجلة النذير هذه فلا أدري ما هي . وأما بالنسبة للموعد فمازن قال لي أن أخبر الدكتور صالح بأن جماعتك ينتظرونك في الأردن بالتاريخ الفلاني ففعلت ، ولم أكن أعرف أن في الأمر تنظيماً أو ممنوعات
حفل التعذيب
لم يشأ الرجل القابع وراء المكتب أن يسمع مني المزيد كما يبدو ، وأدرك كما فهمت لاحقاً أن الأمر لم ينضج بعد . ولم ألبث أن سمعته يقول للعنصر الذي أحضرني من غير أن يدعني أنهي كلامي :
خذه هال.... اعمل كذا وكذا باخته خليه يقر .
وسرعان ما انتزعني ذاك من مكاني وساقني في الممر الذي جئت منه إلى غرفة مجاورة ، وأنا لا أزال على حالتي عارياً مقيداً مغطى العينين . ووجدت أيدياً قاسية تتناولني من جديد فترفع القيد عن يدي من الخلف ، وتجذبهما للأمام وتعيد تقييدهما ، ثم تعود الأيدي التي تمتد من كل اتجاه فترفعني من وسطي عن الأرض ، وتتولى أيد أخرى جذب ساعديّ للأعلى . وفي لحظة واحدة أفلتني الجميع ، فوجدتني مشبوحاً كالذبيحة تماماً إلى السقف ، ورجلاي تخبطان في الهواء ليس تحتهما شيء .. وبدأت أولى حفلات التعذيب !
كنت أيامها في مقتبل الشباب ، وكانت عافيتي بحمد الله وافرة ، حتى أن أحدهم ناداني مع ابتداء التعذيب ساخراً يقول :
ولا .. هِنْت ( أي أنت ) بتلعب حديد ؟
لكن عملية الشبح وحدها كانت كافية لتمزق أعصابي وتتلف جَلَدي ، وتفقدني الوعي بعد عشر دقائق . غير أن الأمر ما كان كذلك وحسب ، فسرعان ما انطلقت تتناوشني مجموعة من الكبلات والعصي تجلدني كأسياخ النار ، تبعتها من حيث لا أدري لسعات الكهرباء تتخير أكثر مناطق الحساسية في الجسد فتصعقها بلا رحمة : في الأنف مرة ، ومرة في الشفتين .. في العورة .. في العينين .. في شحمة الأذن .. في كل مكان تتجمع فيه مراكز الإحساس ومواطن الشعور بالألم !
انفجرت بالصياح من شدة الألم المتفجر فكأنما ازداد الجلادون انتشاء بذلك ! وازدادت حدة اللسعات والصعقات من غير أن يسألني أحد أي شيء !
كنت أسمع وسط دوامة الألم صياحهم وهياجهم كالكلاب المسعورة حولي ، ومن غير أن أبصر شيئاً أحسست أنهم ربما كانوا قرابة العشرة ، ومع كل ضربة كانت تطرق أذني شتيمة جديدة وألفاظ كفر بالله تزلزل السماوات والأرضين . ولم ألبث أن وجدتني وقد فاق الألم قدرتي على الإحتمال وحتى على الصياح أغيب عن الوعي تماماً ، لأصحو لا أدري متى فأجدني في زنزانة منفردة ينهش الألم أطرافي وتشتعل الأوجاع نيراناً في كل ثنية من ثنيات بدني .