غريب
18-10-04, 03:58 am
رسوم الطرق... هل تستحق زيادة الموارد او إرهاق المواطن
سبأ عبدالله باهبري*
قرأت البشرى السعيدة التي زفتها لنا مشكورة وزارة الاقتصاد والتخطيط عن نوايا فرض رسوم على الطرق السريعة أو اللجوء إلى فرض رسوم إضافية على أسعار البنزين بهدف زيادة وتنوع الدخل. وهنا تساءلت دخل من؟ دخل المواطن البسيط الذي يقضي قسطاً وافراً من وقته بحثاً عن عمل أو فرصة رزق أو تلك المعلمة المنتظرة للقبول للعمل في مدرسة تبعد أكثر من 100 كلم عن منزلها لتساعد أسرتها على مواجهة نفقات الحياة أو صاحب سيارة الأجرة الذي تحاصره نفقات غلاء البنزين ورسوم التأمين الإلزامية وغلاء قطع الغيار أو تراها ستزيد دخل ذلك التلميذ الذي يجبره حبه لطلب العلم واستكمال دراسته الجامعية إلى الانتقال يومياً من قريته إلى الجامعة التي تتأخر في صرف مكافآتها الهزيلة التي بالكاد تكفي متطلبات الطعام والملبس وشراء الكتب ومذكرات المعلمين الإلزامية. فإذا بالإجابة تأتي بداهة كلا إنها ستزيد مصادر دخل الدولة.
هذه الدولة التي تجتهد في التيسير على مواطنيها وتخفيف أعباء الحياة عنهم. وكأن وزارة الاقتصاد والتخطيط ليست جزءاً من هذه الدولة وتسير في تيار آخر يناقض توجهاتها. في بلد كالمملكة العربية السعودية ترتفع فيه نسبة البطالة بين الخريجين وتوقفت فيه رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين (وهم الغالبية الساحقة من المكتسبين) عن مواكبة غلاء المعيشة منذ عشرين عاماً تقريباً وتجمدت حتى كادت أن تتحجر فإني أرى أن أهم واجبات التخطيط الوطني المستنير هو البحث عن الاجتهاد في إيجاد بدائل تخفف الثقل الاقتصادي والمعيشي عن كاهل المواطن. ثم التفت إلى الميزة العظيمة الأخرى التي أوردتها خطة النقل الوطنية تحت مسمى "تنويع مصادر الدخل" كيف ستنوع مصادر الدخل إذا كانت هذه الخطة ستنقل المال من جيب المواطن البسيط إلى خزينة الدولة فقط ونحن لله الحمد نعيش في موطن تتلاحم فيه الدولة في مواقفها مع المواطنين ولا تنظر إلى مدخرات مواطنيها بطمع وترقب للانقضاض عليها والاستحواذ على مداخيل الناس كمن يعطي باليمن ويأخذ باليسرى. إن مفهومي لتنويع مصادر الدخل هو الاتجاه إلى موارد طبيعية جديدة لاستغلالها أو إرشاد المزارعين لزراعة محاصيل جديدة قابلة للتصدير بأسعار مرتفعة أو النجاح في توطين صناعات جديدة مربحة كما نجحنا في مجال صناعة البتروكيماويات وفي تطوير السياحة الدينية على مدار العام بكل ما يرتبط بها من بنية تحتية وتنظيم للخدمات وتحديث للأنظمة والقوانين. وإن أكثر ما يخيفني هو أن تتسابق الوزارات في جهود زيادة الإيرادات وتنويع مصادر الدخل، فنجد التعليم يطالب التلاميذ برسوم تسجيل والمستشفيات تطالب برسوم خدمة والشرطة تطالب بمستحقات أمن والبلديات تقدم فواتير تنظيف الشوارع وجمع المخلفات. وهذا بطبيعة الحال كما يعرف الجميع هو الطريق إلى فرض الضرائب غير المباشرة، الأمر الذي أنا على يقين أن دولتنا لا تقره ولا تسعى إليه. ثم إن مستخدمي الطرق السريعة هم من أبناء الطبقة الوسطى ومحدودة الدخل الذين لا يستطيعون ركوب الطائرات الخاصة التي يتنقل بها أعضاء اللجان التي اقترحت هذه الإجراءات من غرف الاجتماعات المكيفة وهم يتناولون المياه المعدنية المثلجة وأكواب القهوة الساخنة. ولا يجهدون أنفسهم بتحسين أوضاع الطرق السريعة (وزيادة الموارد العائدة منها من خلال تقديم الخدمات للقادرين والراغبين وليس المضطرين) بمنح امتيازات الإعلان ومناطق الاستراحة وتقديم الخدمات الترفيهية برسوم معقولة. إذ إنه من المؤسف أن تقطع على طرقنا السريعة مئات الكيلومترات دون أن تجد حماماً نظيفاً لقضاء الحاجة ويضطر المسافرون إلى استخدام مرافق المقاهي ومحطات البنزين القذرة والتي لا ألوم أصحابها على قذارتها فهم لا يستطيعون الإنفاق على تنظيفها من الربح القليل الذي يحققونه.
ثم أعود إلى رسوم الطرق في الدول الأخرى. لقد عشت لعدة سنوات في كل من بريطانيا و الولايات المتحدة وإيطاليا وقطعت الطرق الدولية الأوروبية من كاليه وحتى نابولي لأكثر من عشرين مرة. وفي كل مرة كنت أواجه بطريق مدفوع الأجر مُعبد بمواصفات عالية ويسمح بالحركة السريعة وتتوافر فيه الخدمات ويطلق عليه عادة مسمى (الطريق الدولي أو الطريق السريع) ويرسم على الخرائط باللون الأخضر كان هناك دوماً بجانبه خط أصغر ويمر بالمدن والقرى والسرعة القصوى فيه متواضعة ويسمى (الطريق الوطني) وعادة ما يرسم باللون الأزرق وهو غير الطرق القديمة التي تسمى (الطرق المحلية) وترسم باللون الأبيض. إذاً هناك خيارات تناسب مستويات ثراء الإنسان ومدى حاجته إلى السرعة في الوصول. لا أود أن أطيل ولا أرغب في أن أعطي الانطباع باستعراض المعلومات ولكني أود أن أشير إلى أنه ليس لدينا الطرق البديلة التي يستطيع الفقير أن يسلكها، ففي بعض المناطق بالكاد يوجد طريق واحد لربط المدن والقرى بعضها ببعض. والقاعدة الاقتصادية في التخطيط تشير إلى أن زيادة أسعار الطاقة أو النقل تؤدي بشكل مباشر إلى ارتفاع أسعار السلع نظراً لأن الطاقة والنقل أحد المركبات الأساسية في قيمة السلعة النهائية عند تقديمها للمستهلك في منافذ البيع.
إن مؤسس هذه الدولة الملك عبدالعزيز (أسال الله له الرحمة والمغفرة) أرسى قواعدها على وشائج التكاتف والرغبة الصادقة في تخفيف العبء عن المواطنين وتحسين مستوى حياتهم بل وحتى الحجاج والزوار ولعل أبرز مكرماتها التي خلدت حبه في قلوب المسلمين هي قيامه بإلغاء رسوم الحج عن الراغبين في أداء الركن الخامس والذي كان يعد من أبرز موارد الدولة وقال يومها جملته الشهيرة لوزير ماليته "بن سليمان" عندما حاول إقناعه بالتريث "دبر نفسك" وكانت البلاد يومها فقيرة ومدينة. وأيضاً قيامه بتوطين البادية في نجد وشراؤه لآبار الماء وإيصالها إلى جدة وتقديمها لسكانها بأثمان معقولة. لقد بنى لنا عبدالعزيز رحمه الله دولة التكاتف والتعاضد وحمى أبناءها بتوفيق الله ومشاعره الحانية من استغلال "رأس المال" المتوحش الذي لا يرى من الإنسان إلا محفظته ومدخراته ويجهد نفسه في التفكير في استدراجها إلى حسابه، ولعل أسوأ ما في مثل هذه المقترحات وأمثالها هي أنها ستجعل المواطن البسيط الذي يجاهد في سبيل الحفاظ على درجة معقولة من الحياة التي تحفظ ماء وجهه وينتظر الفرج والمواساة من الدولة على شكل تخفيض أسعار المحروقات أو رسوم الماء والكهرباء يصاب بالصدمة ويشعر أنه ليس هناك من يحس بمعاناته. وأخشى أن يتحول خبر افتتاح طريق سريع جديد من باعث للسعادة والفرح إلى سبب هم وامتعاض فهو يعني التزامات مالية جديدة تضاف إلى قائمة المنصرفات الطويلة بل ربما تجنب الناس الطرق السريعة بهدف التوفير وآنذاك ترتفع معدلات حوادث الطرق وستخسر الدولة الكثير على علاج مواطنيها المصابين من جراء الحوادث.
* كاتب سعودي
سبأ عبدالله باهبري*
قرأت البشرى السعيدة التي زفتها لنا مشكورة وزارة الاقتصاد والتخطيط عن نوايا فرض رسوم على الطرق السريعة أو اللجوء إلى فرض رسوم إضافية على أسعار البنزين بهدف زيادة وتنوع الدخل. وهنا تساءلت دخل من؟ دخل المواطن البسيط الذي يقضي قسطاً وافراً من وقته بحثاً عن عمل أو فرصة رزق أو تلك المعلمة المنتظرة للقبول للعمل في مدرسة تبعد أكثر من 100 كلم عن منزلها لتساعد أسرتها على مواجهة نفقات الحياة أو صاحب سيارة الأجرة الذي تحاصره نفقات غلاء البنزين ورسوم التأمين الإلزامية وغلاء قطع الغيار أو تراها ستزيد دخل ذلك التلميذ الذي يجبره حبه لطلب العلم واستكمال دراسته الجامعية إلى الانتقال يومياً من قريته إلى الجامعة التي تتأخر في صرف مكافآتها الهزيلة التي بالكاد تكفي متطلبات الطعام والملبس وشراء الكتب ومذكرات المعلمين الإلزامية. فإذا بالإجابة تأتي بداهة كلا إنها ستزيد مصادر دخل الدولة.
هذه الدولة التي تجتهد في التيسير على مواطنيها وتخفيف أعباء الحياة عنهم. وكأن وزارة الاقتصاد والتخطيط ليست جزءاً من هذه الدولة وتسير في تيار آخر يناقض توجهاتها. في بلد كالمملكة العربية السعودية ترتفع فيه نسبة البطالة بين الخريجين وتوقفت فيه رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين (وهم الغالبية الساحقة من المكتسبين) عن مواكبة غلاء المعيشة منذ عشرين عاماً تقريباً وتجمدت حتى كادت أن تتحجر فإني أرى أن أهم واجبات التخطيط الوطني المستنير هو البحث عن الاجتهاد في إيجاد بدائل تخفف الثقل الاقتصادي والمعيشي عن كاهل المواطن. ثم التفت إلى الميزة العظيمة الأخرى التي أوردتها خطة النقل الوطنية تحت مسمى "تنويع مصادر الدخل" كيف ستنوع مصادر الدخل إذا كانت هذه الخطة ستنقل المال من جيب المواطن البسيط إلى خزينة الدولة فقط ونحن لله الحمد نعيش في موطن تتلاحم فيه الدولة في مواقفها مع المواطنين ولا تنظر إلى مدخرات مواطنيها بطمع وترقب للانقضاض عليها والاستحواذ على مداخيل الناس كمن يعطي باليمن ويأخذ باليسرى. إن مفهومي لتنويع مصادر الدخل هو الاتجاه إلى موارد طبيعية جديدة لاستغلالها أو إرشاد المزارعين لزراعة محاصيل جديدة قابلة للتصدير بأسعار مرتفعة أو النجاح في توطين صناعات جديدة مربحة كما نجحنا في مجال صناعة البتروكيماويات وفي تطوير السياحة الدينية على مدار العام بكل ما يرتبط بها من بنية تحتية وتنظيم للخدمات وتحديث للأنظمة والقوانين. وإن أكثر ما يخيفني هو أن تتسابق الوزارات في جهود زيادة الإيرادات وتنويع مصادر الدخل، فنجد التعليم يطالب التلاميذ برسوم تسجيل والمستشفيات تطالب برسوم خدمة والشرطة تطالب بمستحقات أمن والبلديات تقدم فواتير تنظيف الشوارع وجمع المخلفات. وهذا بطبيعة الحال كما يعرف الجميع هو الطريق إلى فرض الضرائب غير المباشرة، الأمر الذي أنا على يقين أن دولتنا لا تقره ولا تسعى إليه. ثم إن مستخدمي الطرق السريعة هم من أبناء الطبقة الوسطى ومحدودة الدخل الذين لا يستطيعون ركوب الطائرات الخاصة التي يتنقل بها أعضاء اللجان التي اقترحت هذه الإجراءات من غرف الاجتماعات المكيفة وهم يتناولون المياه المعدنية المثلجة وأكواب القهوة الساخنة. ولا يجهدون أنفسهم بتحسين أوضاع الطرق السريعة (وزيادة الموارد العائدة منها من خلال تقديم الخدمات للقادرين والراغبين وليس المضطرين) بمنح امتيازات الإعلان ومناطق الاستراحة وتقديم الخدمات الترفيهية برسوم معقولة. إذ إنه من المؤسف أن تقطع على طرقنا السريعة مئات الكيلومترات دون أن تجد حماماً نظيفاً لقضاء الحاجة ويضطر المسافرون إلى استخدام مرافق المقاهي ومحطات البنزين القذرة والتي لا ألوم أصحابها على قذارتها فهم لا يستطيعون الإنفاق على تنظيفها من الربح القليل الذي يحققونه.
ثم أعود إلى رسوم الطرق في الدول الأخرى. لقد عشت لعدة سنوات في كل من بريطانيا و الولايات المتحدة وإيطاليا وقطعت الطرق الدولية الأوروبية من كاليه وحتى نابولي لأكثر من عشرين مرة. وفي كل مرة كنت أواجه بطريق مدفوع الأجر مُعبد بمواصفات عالية ويسمح بالحركة السريعة وتتوافر فيه الخدمات ويطلق عليه عادة مسمى (الطريق الدولي أو الطريق السريع) ويرسم على الخرائط باللون الأخضر كان هناك دوماً بجانبه خط أصغر ويمر بالمدن والقرى والسرعة القصوى فيه متواضعة ويسمى (الطريق الوطني) وعادة ما يرسم باللون الأزرق وهو غير الطرق القديمة التي تسمى (الطرق المحلية) وترسم باللون الأبيض. إذاً هناك خيارات تناسب مستويات ثراء الإنسان ومدى حاجته إلى السرعة في الوصول. لا أود أن أطيل ولا أرغب في أن أعطي الانطباع باستعراض المعلومات ولكني أود أن أشير إلى أنه ليس لدينا الطرق البديلة التي يستطيع الفقير أن يسلكها، ففي بعض المناطق بالكاد يوجد طريق واحد لربط المدن والقرى بعضها ببعض. والقاعدة الاقتصادية في التخطيط تشير إلى أن زيادة أسعار الطاقة أو النقل تؤدي بشكل مباشر إلى ارتفاع أسعار السلع نظراً لأن الطاقة والنقل أحد المركبات الأساسية في قيمة السلعة النهائية عند تقديمها للمستهلك في منافذ البيع.
إن مؤسس هذه الدولة الملك عبدالعزيز (أسال الله له الرحمة والمغفرة) أرسى قواعدها على وشائج التكاتف والرغبة الصادقة في تخفيف العبء عن المواطنين وتحسين مستوى حياتهم بل وحتى الحجاج والزوار ولعل أبرز مكرماتها التي خلدت حبه في قلوب المسلمين هي قيامه بإلغاء رسوم الحج عن الراغبين في أداء الركن الخامس والذي كان يعد من أبرز موارد الدولة وقال يومها جملته الشهيرة لوزير ماليته "بن سليمان" عندما حاول إقناعه بالتريث "دبر نفسك" وكانت البلاد يومها فقيرة ومدينة. وأيضاً قيامه بتوطين البادية في نجد وشراؤه لآبار الماء وإيصالها إلى جدة وتقديمها لسكانها بأثمان معقولة. لقد بنى لنا عبدالعزيز رحمه الله دولة التكاتف والتعاضد وحمى أبناءها بتوفيق الله ومشاعره الحانية من استغلال "رأس المال" المتوحش الذي لا يرى من الإنسان إلا محفظته ومدخراته ويجهد نفسه في التفكير في استدراجها إلى حسابه، ولعل أسوأ ما في مثل هذه المقترحات وأمثالها هي أنها ستجعل المواطن البسيط الذي يجاهد في سبيل الحفاظ على درجة معقولة من الحياة التي تحفظ ماء وجهه وينتظر الفرج والمواساة من الدولة على شكل تخفيض أسعار المحروقات أو رسوم الماء والكهرباء يصاب بالصدمة ويشعر أنه ليس هناك من يحس بمعاناته. وأخشى أن يتحول خبر افتتاح طريق سريع جديد من باعث للسعادة والفرح إلى سبب هم وامتعاض فهو يعني التزامات مالية جديدة تضاف إلى قائمة المنصرفات الطويلة بل ربما تجنب الناس الطرق السريعة بهدف التوفير وآنذاك ترتفع معدلات حوادث الطرق وستخسر الدولة الكثير على علاج مواطنيها المصابين من جراء الحوادث.
* كاتب سعودي