تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : وداعا يا زهور اللافندر ......


noor
25-03-04, 11:13 pm
موقف الحافلات يبدو ممتلئا ... أحس عامر بارتياح رغم العواصف التي تزمجر داخله الآن و هو ينتظر الحافلة ..

ذكرياته تمر كشريط سريع ..

دراجته الصغيرة و الشرائط السوداء المربوطة في مقابضها تلح عليه بشدة .. تذكر حسام ابن جيرانهم الذي كان يستعيرها صباحا ليوزع بها الصحف ...

تذكر هناء ابنة خالته و كيف كان لا يجد غضاضة بأن يلعب معها بدماها الكثيرة بينما جميع الأولاد يعتبرون ذلك عيبا ... تذكر كيف كانا يضحكان و هما يتراشقان الماء ...

تذكر كيف كان يذهب كل يوم لحقل قريب و يبدأ بقطف زهور اللافندر .. و لفها في ورقة ممزقة من دفتره المدرسي و تقديمها لأمه التي توبخه كلما جلب لها باقة جديدة ....

كيف كان يريد خلال أسبوع جمع زهورلافندر كثيرة في صندوق كي يري ابنة خالته هذا الشيء العظيم ... لكنه اكتشف في نهاية الأسبوع أن نصف الزهور أصبحت فاسدة !!...

استقل الحافلة .. بدأ يتصفح وجوه الركاب ... يشاهد قبعات صغيرة تنبسط فوق الرؤوس كبصقة شيطان رجيم ... رأى صبيا له حاجبين مقترنين يحدق فيه بقوة ... تماسك .. و بدأ بتعديل قبعته الصغيرة بأصابع متوترة ...

أخوه الأكبر نبيل أتى مسرعا ذلك اليوم و يده ممسكة بوثيقة تخرجه ... كان مسرعا تتقافز الفرحات داخل قلبه النقي ... لم يصبر حتى ينتهي حظر التجول المفروض على المنطقة .. كان يركض ليصل إلى البيت و يسمع زغاريد أمه ...
كان يركض ليحتضن أباه عندما احتضنه رصاص غادر ...
و سقط جسد نبيل الطاهر و اختلط الدم بوثيقة التخرج .. و يده لا زالت ممسكة بها بقوة ...

الصبي ذو الحاجبين المقترنين لا زال يحدق في وجهه ... وضع يديه وراء رأسه بلا مبالاة بينما قلبه ينتفض كعصفور بلله المطر ...

صرف الصبي نظره نحو النافذة .. فتنهد عامر ...

حقل أبيه كان كبيرا جدا ... استأذن أبيه بأخذ بقعة صغيرة ... و زرع فيه زهور لافندر كثيرة ...
أمه توبخه ( كيف تأخذ هذه القطعة و لا تدعنا نستفيد منها ... كيف تزرعها بأشياء تافهة لا تسمن و لا تغني من جوع ) ..
( أمي إنها ليست تافهة .. إنها تشبهك ... )
( أنا لا أدري من أين خرجت أيها الولد ؟.. منذ طفولتك و أنت تغرقني بهذه الزهور التي لا أعلم من أين جاءت ... اللهم طولك يا روح ) ..
( دعي الولد يا أم عامر .. دعي عامر .. فله مكان في القلب .. هو طبيب المستقبل .. الله يمد في أعمارنا حتى نرى ابناءه )
( ربي يسمع منك يا أبو عامر )

تذكر كيف طأطأ رأسه خجلا و خرج ..

الحافلة تهتز قليلا بعد تجاوزها أحد المطبات ... لم يبق سوى القليل ... محطتين و ينتهي كل شيء ...
تتوقف الحافلة ... أرتال من البشر يتماوجون عند المحطة ... أناس يصعدون و أناس ينزلون ..
تحركت الحافلة ...

قبل شهرين ...
أحمد يهمس في أذنه يوم الجمعة ( أحسن الله عزاءك ... ثامر استشهد اليوم عند البوابة الغربية ) تذكر كيف دهش و كيف نزلت دموعه و كيف احتضن أحمد و هو يجهش بالبكاء ... ثامر صديق الطفولة استشهد ! .. في الليل تخيل أن كل الزهور تنتحب و أن كل النجمات ينشدن غناءً حزينا .. و أن الحقول تئن وهي مأكولة القلب و الجذور ...
تخيل أن كل الطيور لم تغادر أعشاشها في الغد ...
( ثامر استشهد و رحل إلى الرفيق الأعلى... و نحن متى .. متى نلحق بركب الأنقياء ؟ ) قالها أحمد بعصبية ..
( سأخبرك شيئا يا أحمد ... أتكتمه ؟.. عدني ألا تخبر به أحدا )
نظر أحمد بشك ثم قال ( أعدك )
( اليوم تلقيت إشعارا من الجماعة أن استعد خلال هذا الشهر .. )
( آ ... آه ... عامر .. ) ثم ضمه أحمد بشده و عيناه تترقرقان بالدموع ..

توقفت الحافلة مرة أخرى عند المحطة الثالثة ... تصعد فتاة و رجلان ... تكمل الحافلة مسيرها ... أحس عامر بانقباض في قلبه ... هذه الفتاة .. تجلس بجانبه .. ترتدي خمارا أبيض ... أحس باختناق .. يجب أن يفعل شيئا .. إنها تشبه هناء ابنة خالته ... أشياء كثيرة تتراكم في عقله ... ربما تنتظرها أمها الآن ليتناولان الغداء معا .. ربما أخوتها الصغار ينتظرون عودتها لتقبلهم و تعطيهم الحلوى ...
انحنى بلطف و سأل ( عفوا آنستي ... هل تعرفين كم بقي على الوصول للمحطة الأخيرة ... )
تنظر في ساعتها بعفوية و ترد في بساطة ( ربما عشر دقائق )
( و هل تسكنين في الحي اليهودي ؟)
استغربت السؤال و لكنها أردفت ببساطة ( كلا .. و لكنني متوجهة للسوق هناك لشراء بعض الحاجيات )
ابتسم ابتسامة صفراء و بداخله شيء يدق بعنف .. كلا يجب أن يفعل شيئا ... الحياة مبهجة و هذه فتاة بعمر الزهور .. ترتدي خمارا أبيض .. كأخته تماما ... و أيضا ... كــ هناء ... أحس أنه سينهار تماما ... ربما تنكشف الخطة ... ربما سيحرق حيا و يحرق كل الرجال الذين تركهم يودعونه بالدموع و الابتسامات و أدعية تخرج من قلوب صادقة ترتجف ... ربما يخذلهم .. و لكن .. لا .. هذه الفتاة ............ يجب أن يفعل شيئا ... اشتعلت معركة قصيرة المدى في عقله و قلبه .. لم يعد هناك مجال ..
انحنى مرة أخرى و همس ( آنستي يجب أن تنزلي من الحافلة حالا .. بهدوء )
دهشت الفتاة .. و رأت بريقا غريبا في عيني هذا الفتى الذي يرتدي قبعة صغيرة كقبعات اليهود ... شيء ما يصرخ فيها .. إنه ليس منهم .. حلقها جاف تماما و أوصالها بدأت ترتعش ... ( أختي .. إنني أدعوك باسم الأخوة التي بيننا أن تنزلي حالا و بسرعة ... شيء ما سيحدث قريبا ) الفتاة لا تزال تحدق في عيني هذه الروح القابعة بجانبها .. وميض أبيض و أشياء شفافه رأتها تحلق بين جنبيه .. دم أخوها ثامر يتصاعد الآن في وجنتي هذا الفتى ... تخاذلت قليلا على المقعد و بردت أطرافها ... ثم بسرعة اتجهت نحو السائق و هتفت بصوت خافت رهيب .. ( لو سمحت .. أنزلني هنا ... هنا بالضبط ) .. ينظر إليها الركاب بدهشة ... و تمتمات امتعاض تعم المكان ... يصرخ السائق و هو يوقف الحافلة بعنف ( أنزلي عليك لعائن الله أيتها الفلسطينية .. أنا المخطئ إذ سمحت لك بالركوب ) .. تتعثر خطواتها و هي تنزل من الحافلة ... تلامس أقدامها الأرض .. تتماسك .. تلتفت نحو حافلة تهم بالمغادرة .. تلمح ابتسامة هادئة ترتسم على شفتي ملاك هادئ .. يجلس بين شياطين ..

( يا ابني يا عامر .. متى انظر إلى أولاد صغار يتبعونك كصغار البط و أضمهم بين جنبي ؟!... بالله يا ابني متى أزغرد في فرحك )
يضحك عامر و يقول بدهشة ( صغار بط !! ) ...يقبل يد أمه .. و يردف
( ماما .. أود أن انهي دراستي أولا )
( أنت قل لي فقط من تريد ؟!... و إلا أترك الأمر لي و سأختار لك أحلى عروس في البلد )
يتصاعد الدم في وجه عامر المطرق نحو الأرض ... يتذكر هناء و زهور اللافندر .. حنين و شوق نحو ذكريات بعيدة ...
( أمي كيف أفرح و اليهود هنا )
( يا ابني هذا قدرنا .. يكفيك جهادك كل يوم مع زملائك بالحجر )
يبتسم عامر
( ماما ... قريبا ستزغردين في فرحي .. قريبا جدا )

يقفز بسرعة ليغادر الغرفة ... أمه تهتف ( تعال يا ولد .. تعال .. قل لي من هي سعيدة الحظ ..) ..

يغادر البيت مسرعا و أمه تبتسم في فرح !!

تقف الحافلة .. السائق يهتف ( هذه المحطة الأخيرة .. تفضلوا بالنزول ) .. يبدأ الركاب بالمغادرة و عامر ملتصق بالمقعد ... كان هو آخر شخص ينزل ... يمشي في خطوات وئيدة ... بقي ربع ساعة ... يقترب من المكان ... يلمح ساحة مكتظة بأصحاب القبعات ...يندس بين جموع لها أنوف معقوفة ...يكاد يبصق فوق رؤوسهم ... عيونه تلتهب ببريق غامض .. و على شفتيه بسمة انتصار ...
وجهه يزداد شحوبا و صدره فارغ سوى من دقات كبيرة ... يقترب ... ينظر إلى المحلات المتراصة على جوانب الساحة .... تختلج شفتاه و هو يشاهد زهورا بنفسجية اللون داخل محل لبيع الزهور ... لا زالت شفتاه تحس برؤوس أخوته الصغار التي قبلها للتو ... عيناه لا تتحول عن زهور اللافندر ... أريجها يملأ قلبه .. ترتيل أخته الصغيرة يدوي في أذنيه .. يكاد يسمع أناشيدها تدوي في الساحة ( بكرا راح نطرد يهود ... دم الشهداء ما بيعود .. دم الشهداء ما بيعود ) ...

دمعات أحمد تمتزج بقلبه الآن .. بسمات أمه .. نظرات أبيه ...

يده تلمس الزر ...يتحسس صدره .. يشعر بقلبه خارج صدره تماما ... يغمض عينيه ...

شريط سريع يمر أمام عينيه المغلقتين ..

يهمس ... وداعا أمي ... أبي ..... وداعا أحمد .. وداعا يا كل الأطهار ...

يفتح عينيه قليلا .. يلمح للحظه زهور اللافندر أمامه و شبح هناء يبتسم ... و وداعا يا زهور اللافندر ....

يضغط الزر و تتمزق صيحة ( الله أكبر ) يصاحبها جسد نحيل ...

في كل مكان دم أحمر و أشلاء تختلط بقبعات صغيرة ..... و ... بتلات لافندر ...


__________________

http://7oob.net/vb/files/sooooHappy.jpg

نقلا عن مجلة حياة

noOor

الرمادي
02-04-04, 12:26 pm
السلام عليكم ,,,

أختي العزيزة نور

حاولت كثيرا قرأة هذه القصة من قبل ولكن لما يحالفني الحظ ..

فكل مره أحاول فتحها ينقلني المتصفح الى صفحة هويتك الشخصية .. ولاأعلم السبب ..

ولكن تبسم لي الحظ هذه المره وأستطعت الوصول الى هذه الدرة الرائعة

فقد عشت مع أحداث القصة من بدايتها إلى النهاية السعيدة لصاحبها والمحزنة لنا ..

فشكرا لنقلك الرائع وأختيارك الأروع

ولك تحياتي وتقديري ,,,

noor
02-04-04, 12:32 pm
الرمادي

بالفعل انتااابني احبااط شديد لانه لم يوجد من يعقب على هذه القصه التي بالفعل كنت قد اضفتها ايام استشهاد الشيخ احمد ياسين رحمه الله

حتى وان كان مايكتب في بعض الاحايين منقول فهذا لايعني ان نكتم الابداع المتناثر في جوانبه

شكرا جزيلا لقرأتك وان كانت متأخره ولكن ... بعد محاولات !!

noor
02-04-04, 12:49 pm
.
.

خاب الذين على العروش
قد استووا ..
داسوا على أجسادنا
.. كي يصعدوا !
و تمجدوا .. بنعوشنا
،
شتان بين الصاعدين إلى السما
و الهابطين .. إلى الوحول
و الرافعين أكفهم
و الصاعدين من الرماد
،
شتان بين الواهبين
لروحهم ..
و السالبين لحلمنا
و الغاضبين لأهلهم
و الذاهبين إلى الحلول
بين الذين يعددون نقودهم
و القابضين على الزناد ..
!

الرمادي
02-04-04, 02:37 pm
عيناكِ يا بلادنا
من أجمل العيون
لا ترهقيهما بذرف الدمع
يا وطن السوسن والدحنون
فنحن ميتون
ونحن مدمنون
والذل, يا بلادنا
الأفيون
* * *
لا ترهقي الجفون
بكثرة البكاء
لن ينبت الزيتون
من تربةٍ جرداء
لن يطلع الضياء
من لوحةٍ معتمةٍ
سوداء
ولن تثيري عندنا الرجولة
فنحن, يا بلادنا
نســـــــــــــــاء!


التوقيع : قادة البلاد !

ماجد الأول
02-04-04, 03:27 pm
تصوير يسارع الأنفاس
لرحلة إلى الخلود

إن لله عبـاداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علمـوا .. أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخـذوا .... صالح الأعمال فيها سفنا

شكرا لك يا نور

شقرديه
02-04-04, 03:41 pm
رائعة جدا

مميزة جدا كناقلتها

تحياتي

noor
02-04-04, 03:57 pm
شكـــــــرا جزيلا لكم