النفس الزكيه
15-03-04, 11:40 am
أدخل كلمة البحث مجال البحث: عناوين المقالاتأسماء الكتّاب
منتدى الكتّاب> مقالات عامة > يوسف أبا الخيل
الحريـة الفرنسـيـة الصـورة المقابلـة
التاريخ: الاثنين 2004/03/15 م
مع انقضاء عصر النهضة الأوروبية التي كان من أبرز تجلياتها عملية الإصلاح الديني التي قام بها معلم اللاهوت الكنسي مارتن لوثر (1483-1546) في ألمانيا والتي جاءت كردة فعل عنيفة على الممارسات الكنسية الكاثوليكية المتعصبة التي حاربت جميع الأديان والمذاهب سواها وادعت تفويضاً إلهياً بتلك الممارسات التي كانت تمارسها والتي كان من أبرزها ما كان يعرف ببيع صكوك الغفران الكاثوليكية التي كانت الكنيسة آنذاك تهبها لمن تشاء وتنزعها عمن تشاء بغطاء ادعائي ثيوقراطي بما مفهومه بأنها تمثل توقيعاً عن الله عز وجل لإسباغ رضاه على من رضي عنه الخوارنة والكرادلة ولصب جام غضبه على من لم ترق له تلك الممارسات الكنسية، ولما لم تكن صكوك الغفران هذه لتلامس قناعة عقلية لدى لوثر فقد أثارت في نفسه استياءً عارماً من قدرة خوارنة الكنيسة على التلاعب بعواطف العامة من خلال احتكار تفسير النصوص الدينية المسيحية تحقيقاً لرغباتهم وشهواتهم من خلال تفسير آحادي ضيق، والتي ادت به حينذاك إلى إعلان التمرد على التعاليم الكاثوليكية بإعلان قضاياه الخمس والتسعين الشهيرة التي تنادي بالتحرر من العقلية الكاثوليكية المتعصبة، ولم يكن يدر في خلده آنذاك كما يقول الدكتور محمود حمدي مرزوق في كتابه (دراسات في الفلسفة الحديثة) الدعوة إلى مذهب ديني جديد داخل الديانة المسيحية إلا أن القرار الصادر من البابوية الكاثوليكية بطرده من الكنيسة وإعلان هرطقته وزندقته قد أدى مع تدخل عوامل أخرى إلى تطور هام في مسيرة الإصلاح الديني ألا وهو انقسام الكنيسة المسيحية في أوروبا إلى مذهبين رئيسيين هما الكاثوليكية والبروتستانتية.
هذا الانقسام المذهبي المسيحي يؤكد حقيقة سوسيولوجية مجربة وهي أن قسر الجموع على مذهب واحد أورأي واحد لا يؤدي في النهاية إلى تذويب الآراء المعارضة في كنه هذا الرأي الواحد على العكس سيؤدي ذلك إلى تقويتها وتخصيب الأرض من تحتها وزيادة القناعة بها باستشعار لاوعي معتنقيها بأنها لو لم تكن حقاً لما حوربت وقمعت.
مع حلول عصر التنوير الأوروبي ابتداءً من القرن السابع عشر وتحت تأثير عملية الإصلاح الديني صدر في فرنسا مرسوم يطلق عليه (مرسوم نانت) ينظم علاقة الكاثوليك بالبروتستانت داخل الأرض الفرنسية، ولكن لأن الأمور كانت تجري بشكل معاكس لإرادة المتعصبين من الخوارنة والمطارنة الكاثوليك وبعد خمسة وثلاثين عاماً من رحيل الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) حامل مشعل لواء التنوير الأوروبي وتحديداً في عام 1685م قام الإمبراطور الفرنسي لويس الرابع عشر بإلغاء هذا المرسوم ممهداً بذلك لأكبر عملية اضطهاد ديني عرفتها أوروبا قام بها الكاثوليك ضد البروتستانت جرت على إثرها مجازر وحشية ضدهم باجتياح قراهم وأحيائهم وقتلهم مع نسائهم وأطفالهم ولم ينج منهم إلا من قدر له الهرب إلى دول الشمال الأوروبي حيث انتشار المذهب البروتستانتي، وكانت تلك المجازر من الوحشية والهمجية مما حدا بالعالِم الفرنسي جورج ديموزيل كما يقول هاشم صالح في تعليقه على نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمد أركون في مركز توماس مور عام 1985عن العلمنة والدين إلى اعتبارها أكبر جرح في تاريخ فرنسا وأنها لم تقم منه حتى الآن.
هذا الاضطهاد الديني المرعب الذي كان يتم بمباركة الدولة وتحت رعايتها سيكون له لاحقاً أكبر الأثر على الشكل العلماني المتبلور فيما بعد والذي سيكون على الدولة الفرنسية تبنيه بما لا يعطي أي إحساس بدعم أي اتجاه معين على حساب بقية الاتجاهات الأخرى بما في ذلك ممارسة الشعائر أو تمثل الرموز في أي من مؤسسات الدولة ومصالحها، هذا النموذج العلماني المبتغى للتدشين داخل الأرض الفرنسية كان من أهم القيم التنويرية التي ابتغاها وضحى من أجلها فلاسفة عصر التنوير الذين أتوا بعد ديكارت أمثال فولتير - ديدرو - جان جاك روسو وآخرين ممن ضحوا بحياتهم من أجل إرساء القيم التنويرية التي كان من أبرز ملامحها إرساء قيمة التعدد الدينية بشرط أن يكون ذلك برعاية الدولة بإحداث انقلاب جذري بالمفهوم القديم بحيث تكون الدولة مسؤولة عن رعاية التعدد بدلاً من رعاية الأحادية، وتوجت تلك الجهود التنويرية بقيام الثورة الفرنسية عام 1789م التي تأسست على مبدأ تحرير الإنسان الأوروبي بتأسيس مشروع العلمانية الحديثة القائمة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تضمنت المادة الثامنة عشرة منه بأن (لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة) والدولة بصفتها نتاج عقد اجتماعي مع شعبها لابد وأن تكون مسؤولة عن هذا الجانب بضمان حق الممارسة للجميع بشكل متساو بدون أية مظاهر أو إيحاءات من شأنها إشعار أي طرف بمحاباتها لأطراف أخرى بدعمها لطقوسها ومن ثم فقد كفلت الممارسة في أماكن العبادة فقط المخصصة لكل ديانة بعيداً عن التمثلات الرسمية، على أن أهم ما يمكن مراعاته في هذا الجانب تذكر أن ظروف نشأة وتطور العلمانية في فرنسا تختلف عن ظروف نشأتها في بلدان الشمال الأوروبي وامريكا الشمالية ذات الأغلبية البروتستانتية المتسامحة نسبياً.
من ثم فإن الحديث عن جانب حظر الرموز الدينية في فرنسا بدون استصحاب التطور التاريخي للعلمانية الفرنسية وظروف تشكلها سيكون له أكبر الأثر فيما بعد على الجالية المسلمة في فرنسا التي ستجد نفسها ربما مع الشحن الأيديولوجي العاطفي متخلفة عن دفع استحقاقات الفلسفة الوحيدة في التاريخ التي وفرت لهم فرصة العيش الكريم مع ضمان ممارستهم لشعائر دينهم بسلطة قانونها نفسه، وبعد فهل كان المدعي على قدر من التساوق مع تراثه القيمي الحداثي عطفاً على مالدى المدعى عليه؟ أترك الحكم للقارئ الكريم
(كاتب سعودي)
منتدى الكتّاب> مقالات عامة > يوسف أبا الخيل
الحريـة الفرنسـيـة الصـورة المقابلـة
التاريخ: الاثنين 2004/03/15 م
مع انقضاء عصر النهضة الأوروبية التي كان من أبرز تجلياتها عملية الإصلاح الديني التي قام بها معلم اللاهوت الكنسي مارتن لوثر (1483-1546) في ألمانيا والتي جاءت كردة فعل عنيفة على الممارسات الكنسية الكاثوليكية المتعصبة التي حاربت جميع الأديان والمذاهب سواها وادعت تفويضاً إلهياً بتلك الممارسات التي كانت تمارسها والتي كان من أبرزها ما كان يعرف ببيع صكوك الغفران الكاثوليكية التي كانت الكنيسة آنذاك تهبها لمن تشاء وتنزعها عمن تشاء بغطاء ادعائي ثيوقراطي بما مفهومه بأنها تمثل توقيعاً عن الله عز وجل لإسباغ رضاه على من رضي عنه الخوارنة والكرادلة ولصب جام غضبه على من لم ترق له تلك الممارسات الكنسية، ولما لم تكن صكوك الغفران هذه لتلامس قناعة عقلية لدى لوثر فقد أثارت في نفسه استياءً عارماً من قدرة خوارنة الكنيسة على التلاعب بعواطف العامة من خلال احتكار تفسير النصوص الدينية المسيحية تحقيقاً لرغباتهم وشهواتهم من خلال تفسير آحادي ضيق، والتي ادت به حينذاك إلى إعلان التمرد على التعاليم الكاثوليكية بإعلان قضاياه الخمس والتسعين الشهيرة التي تنادي بالتحرر من العقلية الكاثوليكية المتعصبة، ولم يكن يدر في خلده آنذاك كما يقول الدكتور محمود حمدي مرزوق في كتابه (دراسات في الفلسفة الحديثة) الدعوة إلى مذهب ديني جديد داخل الديانة المسيحية إلا أن القرار الصادر من البابوية الكاثوليكية بطرده من الكنيسة وإعلان هرطقته وزندقته قد أدى مع تدخل عوامل أخرى إلى تطور هام في مسيرة الإصلاح الديني ألا وهو انقسام الكنيسة المسيحية في أوروبا إلى مذهبين رئيسيين هما الكاثوليكية والبروتستانتية.
هذا الانقسام المذهبي المسيحي يؤكد حقيقة سوسيولوجية مجربة وهي أن قسر الجموع على مذهب واحد أورأي واحد لا يؤدي في النهاية إلى تذويب الآراء المعارضة في كنه هذا الرأي الواحد على العكس سيؤدي ذلك إلى تقويتها وتخصيب الأرض من تحتها وزيادة القناعة بها باستشعار لاوعي معتنقيها بأنها لو لم تكن حقاً لما حوربت وقمعت.
مع حلول عصر التنوير الأوروبي ابتداءً من القرن السابع عشر وتحت تأثير عملية الإصلاح الديني صدر في فرنسا مرسوم يطلق عليه (مرسوم نانت) ينظم علاقة الكاثوليك بالبروتستانت داخل الأرض الفرنسية، ولكن لأن الأمور كانت تجري بشكل معاكس لإرادة المتعصبين من الخوارنة والمطارنة الكاثوليك وبعد خمسة وثلاثين عاماً من رحيل الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) حامل مشعل لواء التنوير الأوروبي وتحديداً في عام 1685م قام الإمبراطور الفرنسي لويس الرابع عشر بإلغاء هذا المرسوم ممهداً بذلك لأكبر عملية اضطهاد ديني عرفتها أوروبا قام بها الكاثوليك ضد البروتستانت جرت على إثرها مجازر وحشية ضدهم باجتياح قراهم وأحيائهم وقتلهم مع نسائهم وأطفالهم ولم ينج منهم إلا من قدر له الهرب إلى دول الشمال الأوروبي حيث انتشار المذهب البروتستانتي، وكانت تلك المجازر من الوحشية والهمجية مما حدا بالعالِم الفرنسي جورج ديموزيل كما يقول هاشم صالح في تعليقه على نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمد أركون في مركز توماس مور عام 1985عن العلمنة والدين إلى اعتبارها أكبر جرح في تاريخ فرنسا وأنها لم تقم منه حتى الآن.
هذا الاضطهاد الديني المرعب الذي كان يتم بمباركة الدولة وتحت رعايتها سيكون له لاحقاً أكبر الأثر على الشكل العلماني المتبلور فيما بعد والذي سيكون على الدولة الفرنسية تبنيه بما لا يعطي أي إحساس بدعم أي اتجاه معين على حساب بقية الاتجاهات الأخرى بما في ذلك ممارسة الشعائر أو تمثل الرموز في أي من مؤسسات الدولة ومصالحها، هذا النموذج العلماني المبتغى للتدشين داخل الأرض الفرنسية كان من أهم القيم التنويرية التي ابتغاها وضحى من أجلها فلاسفة عصر التنوير الذين أتوا بعد ديكارت أمثال فولتير - ديدرو - جان جاك روسو وآخرين ممن ضحوا بحياتهم من أجل إرساء القيم التنويرية التي كان من أبرز ملامحها إرساء قيمة التعدد الدينية بشرط أن يكون ذلك برعاية الدولة بإحداث انقلاب جذري بالمفهوم القديم بحيث تكون الدولة مسؤولة عن رعاية التعدد بدلاً من رعاية الأحادية، وتوجت تلك الجهود التنويرية بقيام الثورة الفرنسية عام 1789م التي تأسست على مبدأ تحرير الإنسان الأوروبي بتأسيس مشروع العلمانية الحديثة القائمة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تضمنت المادة الثامنة عشرة منه بأن (لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة) والدولة بصفتها نتاج عقد اجتماعي مع شعبها لابد وأن تكون مسؤولة عن هذا الجانب بضمان حق الممارسة للجميع بشكل متساو بدون أية مظاهر أو إيحاءات من شأنها إشعار أي طرف بمحاباتها لأطراف أخرى بدعمها لطقوسها ومن ثم فقد كفلت الممارسة في أماكن العبادة فقط المخصصة لكل ديانة بعيداً عن التمثلات الرسمية، على أن أهم ما يمكن مراعاته في هذا الجانب تذكر أن ظروف نشأة وتطور العلمانية في فرنسا تختلف عن ظروف نشأتها في بلدان الشمال الأوروبي وامريكا الشمالية ذات الأغلبية البروتستانتية المتسامحة نسبياً.
من ثم فإن الحديث عن جانب حظر الرموز الدينية في فرنسا بدون استصحاب التطور التاريخي للعلمانية الفرنسية وظروف تشكلها سيكون له أكبر الأثر فيما بعد على الجالية المسلمة في فرنسا التي ستجد نفسها ربما مع الشحن الأيديولوجي العاطفي متخلفة عن دفع استحقاقات الفلسفة الوحيدة في التاريخ التي وفرت لهم فرصة العيش الكريم مع ضمان ممارستهم لشعائر دينهم بسلطة قانونها نفسه، وبعد فهل كان المدعي على قدر من التساوق مع تراثه القيمي الحداثي عطفاً على مالدى المدعى عليه؟ أترك الحكم للقارئ الكريم
(كاتب سعودي)