تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : القابليةلإعادةالبرمجة........


أباالخــــــيل
24-02-04, 07:11 pm
إعادة برمجة الناس المبرمَجين

إن لدى الإنسان قابلية واسعة للتبرمج على الخير وعلى الشر والتبرمج على المنابذة أو المسالمة كما أن لديه قابلية التحول من أقصى الانغلاق إلى أقصى الانفتاح ولا يحول دون تحقيق ذلك سوى معرفة مفاتيح الطبيعة البشرية وكيفية التأثير عليها إن قابلية الإنسان للبرمجة ابتداءً تعني منطقياً قابليته لإعادة البرمجة فالأصل في الناس في كل مكان أنهم مبرمجون منذ طفولتهم على عقائد وتقاليد وعادات وقيم وأنماط من السلوك يمارسونها بشكل عفوي امتصتها عقولهم وتشكلت بها عواطفهم قبل بزوغ وعيهم ويظلون مقتنعين بها ما دامت وتيرة الحياة منتظمة مهما طال الزمن ويعتبرونها النموذج الفريد الذي لا يليق بالإنسان سواه أما نماذج الحياة السائدة في المجتمعات الأخرى فهي في نظرهم الضلال المبين والحمق الصارخ والانحطاط المشهود فالآخرون هم دائماً المنحطون الأغبياء الحمقى أما الانحطاط ذاته فله عند كل مجتمع وصفٌ يختلف به عن أوصاف الآخرين فلا يوجد أي مجتمع يعترف بأنه متخلف أو أنه أدنى ثقافة من غيره ومهما بلغ سوء أوضاعه فإنه يتوهم أنه يملك ما هو أهم من كل الإنجازات الحضارية التي حققها الآخرون أما هذا الشيء الأهم الذي يتوهمونه فإنه ليس أكثر من طوفان من الكلام الذي لا رصيد له في الواقع المعاش... لكن بالأحداث الكبرى يتكشّف الانتفاش الفارغ ويتعرّى الامتياز الموهوم فالصلابة الظاهرية تُخفي تحتها الهشاشة والتناغم المشهود يُخفي بداخله تنافراً غير محسوب فالثقافات المغلقة التي تنشئ أبناءها على نفي الآخر ولا تعترف بتعددية الفهم ترتبك لأي حدث كبير فترتدُّ على ذاتها وتتشظى من داخلها بما يتناسب مع قوة الحدث المربك فحركة الحياة لا تستمر على وتيرة واحدة ومع تجدد الأحداث يختلف الناس في الموقف منها وفي تحديد أسبابها وفيما ينبغي اتخاذه حيالها ولكون الناس غير معتادين على تعدد الآراء فإن اختلافهم يكون حاداً مهما كانت بساطة ووضوح مسائل الخلاف فالمختلفون في الثقافات المغلقة ذات الرؤية الأحادية لا يصغي بعضهم لبعض وإنما كل طرف يتهم الطرف الآخر بالعجز والانحراف والجهل وسوء القصد والعمالة للأعداء ويتصيد عليه الهفوات ويرميه بالعظائم ويجتهد في إدانته ونفيه ومقاطعته وإقصائه... إن الإطار الثقافي مهما كان مغلقاً وضيقاً فإنه لا يمكن أن يحقق الإتفاق فالاختلاف قانون رباني حتمي: "ولا يزالون مختلفين" ولكن الاختلاف داخل الثقافة المغلقة يكون حاداً وجارحاً واستئصالياً لأن كل طرق يزكي ذاته تزكية مطلقة ويجرِّم الآخرين تجريماً مطلقاً وقد يبلغ التنافي أقصاه خصوصاً وقت الأزمات فيجنح بعض الناس للتأكيد الملح على إحدى المسائل مما ينشأ عنه تيار جارف داخل المحيط الثقافي المغلق فيُحدث إرباكاً داخل الثقافة فهو نوع من البرمجة الفرعية الطارئة التي ينبغي أن ندرك أنه يمكن نقضها بإعادة البرمجة عن طريق الحوار العقلاني المفتوح والحرص على تفحُّص الأوضاع للتعرف الأمين على مصدر الخلل ولكن هذا الهدف الكبير لا يمكن أن يتحقق إلا في جو من رحابة الصدر وصدق النوايا والتسامح المعلن والإرادة الصادقة في قبول الحقائق والتخلي عن غطرسة الرؤية الأحادية المغلقة... إن أحوال المجتمعات تبقى مستقرة وتستمر الأوضاع متماسكة مهما بلغت من السوء حتى تحصل أحداثٌ مزلزلة تخرج بالمجتمع من التلقائية وتدفعه دفعاً إلى التململ وفي مثل هذه الظروف يبرز بعض الأشخاص ويُقدّمون أنفسهم بأن لديهم الحل ويتهافت الناس عليهم يسألونهم التوجيه فتنشأ توجُّهات جديدة ضمن الإطار الثقافي السائد ولكن في ظل التوتر والتكتم وضحالة التجربة وضيق الأفق وانعدام المرونة الفكرية وغياب التكامل المعرفي وعدم توفر آليات المراجعة فإن كُلا من الاتجاهات يوغل في الاهتمام بجانب واحد من جواب الحياة ويهمل الجوانب الأخرى التي قد يكون كل واحد منها لا يقل أهمية أو هو أحياناً أحق بالاهتمام من ذلك الجانب الذي نال التضخيم والتركيز ولكن هذا التبسيط للأمور يجتذب الشباب وبادئ الرأي لأنه الاتجاه الأكثر تشدُّداً ووعداً بالحسم والأسهل فهماً والأقرب لأفكار العامة وبذلك يكون هؤلاء المنجذبون قد تعرضوا لنوع من إعادة البرمجة ولكن ضمن الإطار الثقافي السائد لذلك فإنهم قابلون أيضاً لإعادة البرمجة عن طريق الحوار العلني الأمين الشامل... إن بلبلة التململ تفتح المجال للمتسرعين ليوهموا الناس بأن لديهم الحل الناجع لكل القضايا الكبرى فيختصرون الأسباب الكثيرة بسبب واحد ويختزلون العوامل المعقدة بعامل واحد ويبالغون في تضخيم قيمة من القيم السائدة ويتكوَّن من ذلك تيارٌ يجتذب الاتباع عن طريق النفخ في هذه المسألة أو تلك فيتضاعف الاهتمام بها وتتحول إلى محور رئيسي لتفكير ونشاط فئة من الناس وقد يبلغ بهم الشطط مفارقة المجتمع والحكم عليه بالضلال لكن يجب أن لا يغيب عن البال بأن الناس الذين تكون لديهم مثل هذه القابلية للتحول يبقون مهيئين لتحولات أخرى معاكسة عن طريق الإقناع وإعادة البرمجة خصوصاً إذا كانوا قد أرخصوا حياتهم وأصبحوا مستعدين لإهدار حياة الآخرين بسبب فهم خاطئ لتعاليم الدين فطالِبُ الآخرة مهما كان مخطئاً يكون مُخلصاً وصادقاً ولكنه ضحية الجهل والتغرير لذلك فمن السهل كشف الخطأ له وإعادة البصيرة إليه أما منابذته وتشديد الحصار عليه فما يزيده إلا استمساكاً برأيه وإصراراً على موقفه واقتناعاً بأنه على الحق المبين فيتوهم أنه يقوم بمهمة عظيمة لإنقاذ الأمة وإرضاء الله وإحياء مجد الإسلام... إن من يقرأ التاريخ بإمعان ويتأمل الأحداث والتقلبات السياسية والاجتماعية في العالم ويتفهم الطبيعة البشرية يكتشف أن الناس يسعون لمصالحهم وليس لمصالح غيرهم وأنهم حين ينقادون ويندفعون خلف هذا القائد أو ذاك فإنما مصالحهم هي وحدها التي تحركهم سواء كانت مصالح دنيوية عاجلة أو مصالح أخروية آجلة يًعدُهم بها القادة في حياة أبدية لا ينفد نعيمها ولا تبلى مباهجها ولا يخالطها كدرٌ ولا يعتريها مرضٌ ولا يشوبها نقصٌ فالذي يفجِّر نفسه مسروراً ويزهق أرواح الآخرين الأبرياء ليست حياته رخيصة عنده ولكنه مقتنعٌ بأنه يحقق لها ما هو خيرٌ وأبقى لأن أحداً أقنعه بذلك وأوهمه بأن الموت هو طريق الجنة وبأن قتل المخالفين عملٌ شريف وعظيم ويحقق رضا الله لذلك لا تكون المواجهة مع هؤلاء بالعنف الذي لا يخيفهم فهم قد سعوا إلى الموت واستبدروه قبل أن يبادرهم طمعاً فيما لا عينٌ رأت ولاأذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر... إننا نغفل عن حقيقة أن البشر يبرمَجون على الخير أو على الشر وعلى الصواب أو على الخطأ وأن اقتناع المبرمَج على الخطأ لا يقل عن اقتناع المبرمَج على الصواب وأنه لا سبيل إلى تحويل المخطئين إلى الحق إلا بإعادة برمجتهم لينتقلوا من الاقتناع بالخطأ إلى الاقتناع بالصوات مع استصحاب حقيقة أن كل فرد تهمه مصالحه الذاتية سواء كانت مصالح دنيوية عاجلة أم مصالح أخروية آجلة وإذا كان الناس يتوقعون أنه من السهل التأثير على طُلاب المصالح الدنيوية بتوفيرها لهم فإنهم يغفلون عن أن الساعين إلى المكاسب الأخروية أولى بالإقناع وأقرب إلى الاستجابة وأسرع في التحول متى صدقت النوايا في اجتذابهم وشرح الحق لهم وكشف مصدر الخطأ في تفكيرهم... إن عقل الفرد مكرَّس لخدمة صاحبه وهو في غالب الأحوال يخطئ في معرفة ما هو أفضل له ولا يملك إمكانات التحقُّق بنفسه فينقاد لغيره وفي الغالب يقوم هذا الانقياد على ظروف وأوضاع لا قدرة للفرد في دفعها فالذي يولد في أسرة يهودية سينشأ يهودياً والذي يولد من أبوين من المافيا ربما يواصل مسيرة والديه في هذا المسار المظلم الخطير والذي تتلقفه إحدى المنظمات الإرهابية تبرمجه على كره الآخرين والاستبسال في نشر الأفكار التي اقتنع بها ومحاربة كل من لا يستجيب لها، وليس الاستبسال مقصوراً على طلاب الآخرة وإنما أكدّت أحداث القرن العشرين أن أفراد التنظيمات الماركسية كانوا من أشد الناس استبسالاً وأقدرهم على الاستخفاف بالحياة ومواجهة الموت بمنتهى الشجاعة والإقدام فقد وَعَدتهم القياداتُ الشيوعية بالفردوس الأرضي وملأت نفوسهم بكره الآخر والحقد عليه والرغبة العارمة في استئصاله من أجل الظفر بالوعد الكاذب... إن الإنسان يبحث دائماً عن مصالحه فكل تفكيره وسلوكه مكرَّس لهذه المصالح الذاتية سواء كانت عاجلة أو آجلة وهو يستجيب لمن يقتنع بأنه يحقق له هذه المصالح سواء كانت هذه الاستجابة تتناغم مع الوضع السائد أم تتصادم معه وهو قابل بأن يتحول من النقيض إلى النقيض متى اقتنع بأن مصلحته العاجلة أو الآجلة تقتضي ذلك التحول . إن المتصارعين في الماضي والحاضر يغفلون في الغالب عن هذه الحقيقة قيستبعدون إمكانات التحول ويستمرون في دروب المناجزة والاستئصال ولو استخدموا هذا المفتاح الأساسي من مفاتيح الطبيعة البشرية لجنَّبوا أنفسهم وجنَّبوا الدنيا الكثير من الصراعات الدامية والاضطرابات المخيفة... إن لدى الإنسان قابلية واسعة للتبرمج على الخير وعلى الشر والتبرمج على المنابذة أو المسالمة كما أن لديه قابلية التحول من أقصى الانغلاق إلى أقصى الانفتاح ولا يحول دون تحقيق ذلك سوى معرفة مفاتيح الطبيعة البشرية وكيفية التأثير عليها والقدرة على تحريك مواطن الاستجابة لدى الإنسان ولو أننا ملكنا مهارات التعامل مع الناس لتلاشت أكثر أسباب الصدام والمواجهة فالذين ينخرطون مثلاً في معمعة العنف هم في الغالب من الأغرار الذين يسهل التأثير عليهم والتغرير بهم فإذا ووجهوا بالحقائق وليس بالمزيد من الصدام فإنهم مهيأون للتحول من أقصى حالات العنف إلى أقصى درجات المسالمة لأن دوافع حب الحياة أقوى من دوافع الطيش لكن مشكلة البشر أنهم يقابلون الصدام بصدام مضاد ولا يحاولون استخدام أسلوب الإقناع ولا تجربة إعادة البرمجة مع أنها أسهل وأنجع فمثلما أن الإنسان قابلٌ للبرمجة فإنه قابلٌ أيضاً بنفس السهولة لإعادة البرمجة والتحول من النقيض إلى النقيض... فمن المعروف أنه من السهل التغرير بالناس خصوصاً الأغرار الذين لم تنضجهم تجارب الحياة وما زالوا في مرحلة الفجاجة والتوقُّد العاطفي المشحون بالحماس لكن الشيء المؤكّد أن الكثيرين منهم لا يستمرون مأخوذين بالعمى العاطفي وإنما يفيقون بسرعة من الغفلة ويفطنون بأنهم قد وقعوا في فخ الاستدراج فأعمتهم الفورة وفي هذه اليقظة النادمة لا بد أنهم يتمنون أن يتاح لهم التراجع لكنهم يخافون نتائج الرجعة فيضطرون لمواصلة الدرب الشائك الخطير ولو وثقوا برغبة الأطراف الأخرى في التلاقي لكانوا أسرع إليه لأن من يعيش الحصار النفسي والمادي لابد أن يبتهج بأي انفراج وهنا يكون الربح للجميع وكما يقول مؤلف كتاب (الدعاية والأدب): "تستطيع أن تحوِّل الأمة (بالإقناع) من خلال الثورة العقلية فتكسب المعارضين إلى جانبك بدلاً من إبادتهم" إن امتياز الإنسان بعقله وليس بعضلاته وبقدرته على الإقناع وليس بامتلاكه وسائل الإخضاع لكنه ينسى هذا الامتياز وينساق مع انفعالاته الفظة فيُفاقم الخلاف بدلاً من أن يحتويه ويُشعل المزيد من الحرائق بدلاً من أن يطفئها... إن الكثير من الأخطاء المأساوية التي شهدها التاريخ البشري خلال القرون ويشهدها العالم في كل مكان ناتجة عن نسيان أن الإنسان قابل للبرمجة في أي اتجاه وأن لديه قابلية الطاعة العمياء لأية سلطة وأنه يمكن بسهولة نقل ولائه من اتجاه إلى نقيضه متى ظهر له أن ذلك في صالحه سواء كان هذا الصالح عاجلاً كبقاء مصالحه الدنيوية القائمة أو تحقيق مصالح مرغوبة كان يسعى إليها لم تكن متحققة له من قبل أو كان هذا الصالح آجلاً كحالة الذين ينخرطون خطأ في مجال العنف باسم الجهاد في سبيل الله فإذا اتضح لهم الخطأ فإنهم لن يستمروا عليه أبداً فالحياة غالية ولا يمكن التفريط بها إلا لشيء أغل.

كتب: إبراهيم البليهي
http://writers.alriyadh.com.sa/prin...ype=1&art=17486