المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : {--- سر الكاتب---}


الأهلب
23-02-04, 05:15 pm
خائر القوى وسعيداً .

مع ذلك لم ألمس قاع البئر بعد، يتبقى لي هامش صغير أضيعه، وأمل أن أتمكن من التمتع به، فضلاً عن ذلك، بلغت سناً متقدمة بحيث إنه من المرجح كوني لن أعيش طويلاً.

منذ سنوات عديدة، كنت أتمتع بسمعة - سمعة مؤكدة أولاً بأول- كاتب مرموق، إذ ن الانحدار كامل وحتمي. مع كل نتاج أصدرته، قالوا، أو على الأقل فكروا، أنني هبطت درجة. وهكذا من سقطة إلى أخرى، حتى الرواية الحالية.

هذا نتاجي. هذه المحصلة الكارثية، بحثتها بصبر وعناد طوال ثلاثين عاماً، حسب خطة مقررة سلفاً بعناية. لكن- تساءلوا- هذا السقوط، أليس ما رغبتموه؟

بالضبط، أيها السادة والسيدات. حزتُ، بما أنني كاتب، على نجاحات خيالية، وتمتعت بشهرة واسعة للغاية، على وجه الإجمال، كنت إنساناً محظوظاً، لكنني أستطيع الوصول إلى البعيد، يكفي أن أريده، لكيْ أتحصل دون صعوبة تذكر على مجد عالمي. وبعد، لا! لم أرد.

على العكس، فضلت، عند النقطة التي أدركتها- ساحلاً رائعا، قمة، من الممكن القول مونتاروزا بل والهيمالايا- ، أن أهبط تدريجياً، أجوب ثانية الطريق العكسية بخطوات واسعة، أحيا أطوار الانحطاط المثير للشفقة، المثير للشفقة ظاهرياً فقط، يا أصدقائي، لأنني جذبت كافة أشكال الرثاء، وهذا المساء، في هذه الصفعات - التي دسستها في مظروف مختوم لن يفض إلا بعد موتي- شرحت السبب كاشفاً سري الطويل.

وقتذاك، كنت أبلغ أربعين عاماً وأبحر ناشراً جميع القلوع على بحر النجاحات، حينما سطع الضوء في وجهي فجأة ذات يوم، المصير الذي أعددته، الذي اتجهت صوبه، مصير المجد العالمي- أكرر - للإثباتات المثيرة، الشرف، الشعبية، الانتصارات المؤكدة في العالم بأسره، تبدى لي في خرابه البائس.

لم ينثر العنصر المادي اهتمامي إذ كنت أكثر ثراء مما تمنيت. والباقي؟ ضجة التصفيق، نشوة الانتصار، الضوء الجذاب الذي باع الكثير من الرجال والنساء أرواحهم بسببه إلى الشيطان؟ في كل مرة أتذوق فتات خبز، يلبث في فمي طعماً مراً وشيئاً من الجفاف. بعد كل شيء - أقول في نفسي- ما هو الظهور الكبير للمجد؟ ببساطة: أحد ما يمشي في الشارع والناس يلتفتون ناحيته ويهمهمون: هل رأيت؟ إنه هو! كل شيء هنا. ولا شيء أكثر، آه! حقاً إنه رضى رائع! وهذا دونوه جيداً، لا يتأتى إلا في حالات استثنائية، حالة الشخصيات السياسية الهامة أو الفنانين المشهورين. إذا كان الأمر يتعلق بكاتب بسيط من النادر، في أيامنا، أن يعرفه أحد في الشارع.

لكن هناك الجانب السلبي. ليست صور الملل اليومي التي تقابلونها، الخطابات، مخابرات المعجبين الهاتفية، المقابلات الصحفية، الالتزامات، المؤتمرات الصحفية، الصور، الإذاعة، إلخ. التي تثير الغضب لكن الفعل الذي جلب لي سروراً عريضاً، سبب كدراً عميقاً لدى بعض الأفراد. آه! رؤوس بعض الأصدقاء والزملاء في أيامي السعيدة! كم أصابتني بالألم! كانوا أولاداً طيبين، شرفاء ومجتهدين، ارتبطت معهم بروابط قديمة من المحبة، وبذا لم أجعلهم يقاسون!

على حين غرة سأحدد الآلام التي بعثرتها حولي بسبب جنوني المضحك عند القدوم، أعترف أنني لم أفكر فيها البتة، وكابدت من تبكيت الضمير.

فهمت أيضاً أنه بمتابعة طريقي، سأجني أخباراً وانتصارات أكثر ثراء، لكن من ناحية مقابلة عذبت قلوباً عديدة لا تستحق ما فعلته بها. العالم غني بالأحزان غير أن لدغات الحسد وسط الجراح الدامية والعميقة صعبة الشفاء وجديرة بإثارة الشفقة.

أتدارك، هو ذا ما يجب أن أفعله. وهكذا أخذت قراري الكبير. على القمة التي بلغتها، تملكت الإمكانية، شكراً للرب، لكيْ أنجز الكثير من الأعمال الخيرة. أكثر من ذلك، سحقت نظرائي في زجاجاتي، وكانت المواساة عظيمة بحيث أستطيع الآن، عبر انحطاطي، أن أقدمها لهم. في الواقع، هاهي اللذة وإلا تلاشى الألم؟ واللذة، أليست متناسبة طردياً مع التوجع الذي سبقه؟

إذاً من الضروري الاستمرار في الكتابة، ألا أخفف من إيقاع عملي، ألا أعطي الإحساس باعتكاف إرادي، كيْ يكون مواساة رهيفة لزملائي، لكن، بالمخادعة العجيبة، أكتم موهبتي، أكتب أشياء أقل روعة، أخفي ضعف ملكاتي الإبداعية وأزود من ينتظر مني ضربات عنيفة بالمفاجأة السارة لانهياري.

المشروع بسيط ظاهريا، لأن فعل إنجاز الأشياء التافهة أو الشريرة لا يكلف أي تعب عادة، وفي الحقيقة صعب لسببين. بداية، يجب اقتلاع الأحكام السلبية من النقاد. الآن، أنتسب إلى فئة الكتاب المشهورين، الموسومين بصلاة في السوق الجمالي. من الآن فصاعداً، يدخل الكلام الطيب عني إلى امتثالية الإرشاد الصارم. والنقاد، كما نعرف. عندما يضعون فناناً على مقعد الاتهام، تلك مسألة لكي يغيروا رأيهم.

إجمالاً، على افتراض أنهم لاحظوا أنني أنشأت أكتب تفاهات- هل لاحظوها؟- يظل النقاد منغلقين في أماكنهم، وقد استمروا في تغطيتي بكافة أشكال المديح.

النقطة الثانية: الدم ليس ماء وهذا يكلفني جهداً كبيراً حتى أكبح جماح اندفاع عبقريتي المضحك. بين الأسطر، وإن كنت مرغماً على الخسة والوضاعة. هذا النور ذو القوة الهائلة من الممكن أن يضعف. إرتداء شخصية أخرى، بالنسبة للفنان، بقعة كبيرة، وإن كانت نيته التقليد الرديء.

مع ذلك أدركتها. طوال سنوات عديدة، قمعت طبيعتي المتهورة، عرفت أن أكتم رغبتي، بدقة تكفي مستقبلاً أن تشهد على عظمة موهبتي، كتبت كتباً لا تشبهني، ضعيفة أكثر فأكثر، فاقدة نفحة الإلهام، بلا ذيل ولا رأس، ذات حبكات رديئة، سمات مفككة وأسلوب صعب. انتحار أدبي بطيء.

ووجوه الأصدقاء والزملاء، مع كل كتاب جديد، صافية ومرتاحة نوعاً ما. تدريجياً تخففت من الثقل المقلق للحسد، يا للبؤساء! استعادوا ثقتهم بأنفسهم، تلاقوا في سلام مع الحياة، أنشأوا يختبرون التعلق الحقيقي بي. فرحوا من جديد. ظللت لفترة طويلة شوكة نامية في أعماق جسدهم. الآن، رحت اقتلع هذه الشوكة المسمومة وهاهم جميعاً مرتاحون.

ضعف التصفيق، والظل سقط عليّ، ومع ذلك أعيش سعيداً، لا أحس بالنفس الخداع للأحباب لكن به موجة من الصلاح الدافىء والامتنان. وجدت في أصوات الزملاء هذه النبرة الواضحة، الغضة، السخية منذ القدم حينما كنا صغاراً لا نعرف شيئاً عن بؤس الحياة.

لكن - تتساءلون - أكتتب لدزينة من الزملاء؟ أهذا مصيرك؟ والجمهور؟ الحشد العريض من المعاصرين والأجيال القادمة الذي ستخفف عنه؟ إذاً، هل كان فنك رديئاً؟
أجيب: حقاً، الالتزام الذي أعنيه تجاه أصدقائي وزملائي لا يعد سوى حماقة مقارنة بالحماقة التي وجهتها تجاه الإنسانية جمعاء. لكنني لم أنقذ شيئاً لمستقبلي، لم أثر الجمهور الغريب المشتت على سطح الكون، وكذا أجيال العام (2000). خفية، خلال هذه السنوات، فعلت كل ما أملى عليّ، حررت كتبي الحقيقية، تلك التي رفعتني إلى سماء المجد. حررتها وأودعتها الصندوق الكبير القابع في غرفة نومي. هناك اثنا عشر جزءاً. ستقرءونها بعد موتي. هكذا، لن يجد أصدقائي أسباباً للتذمر. نصفح بطيبة خاطر عن أي شيء للمتوفي، وإن أبدع نتاجات رائعة باقية على مدى الزمن. سيضحك، أصدقائي، وهم يهزون الرأس برفق. " فعل لنا أمراً طيباً، هذا الجمل العجوز! ونحن الذين اعتقدناه سقط في الطفولة!".
أيا كان الأمر، أنا ..

في هذا المكان، انتهت المخطوطة، لم يستطع الكاتب العجوز أن يذهب بعيداً لأن الموت باغته، وجدناه جالساً على مقعده. رأسه الأبيض ساكن، في استسلام عال، إلى جانبه قلمه منكسراً على الورقة. أقرباؤه، بعد أن قرأوا، أخذوا يفتشون الصندوق. أحصوا اثني عشر قميصاً: في كل قميص مئات القصاصات. وعلى كل قصاصة، لا توجد علامة.


دينو بوتزاتي
-----------
دينو بوتزاتي .. روائي وقاص إيطالي شهير. ولد في العام 1906م وتوفي بميلانو في العام 1972 في بداية حياته العملية، عمل صحافياً - مراسلا حربيا لـ"رسالة المساء" الإيطالية.
متأثراً بكافكا، اتجه نحو الأدب. روايته الشهيرة " صحراء التتار" 1940م حازت نجاحات عالمية غير مسبوقة لكاتب إيطالي، حتى عندما حولت إلى فيلم من إخراج فاليريو روزليني 1976م، تحصلت على جائزة لوي لوميير في نفس العام. وكذا مجموعة " LEK" التي تحتوي على أشهر قصصه أثارت العديد من الكتابات النقدية حولها.
من نتاجه الروائي" برنابو الجبال- سر بوسكر" ، " صور الحجارة" ، " حب" والقصصي مثل : " الليالي الصعبة"، " حلم الدرج" .

الأهلب
10-03-04, 09:27 am
أيه الأخوة:


لا تغضبوا فما هو إلا نزق قلم، واختلاج خاطر، واقتطاف من مكتبة ، واعتقد ولا شك أنه لا ثمة فارق بين القطف من المكتبة أو الشارع أو من محل الخضار.

لك الله ايه الموضوع لم يمر أحد، ولم يكلف نفسه بتعليق، أورد ، أو نقد، أو شكر .

إذا كيف نطالب بالاستمرارية وكل كتاباتنا كما يزعمون منقولة .

الرمادي
10-03-04, 09:00 pm
السلام عليكم ,,,

أخي العزيز الأهلب ...

ليس العيب في نقلك الرائع ولكن العيب في أقلامنا الجافة !!

ففي أحايين كثيرة أتجاوز مثل هذه المشاركة دون تعليق لأني لاأجد في جعبتي مايوفيها حقها من الكلمات فأتحاشى أن أسئ إليها ببعض فضفضتي المعتاده ...

ولك تحياتي وتقديري ,,,

الأهلب
14-03-04, 05:25 pm
الرمادي:



أهلا وسهلا بك في مساحتي ولك العذر بعدم التعليق كونه يسيء لمشاركتي المتواضعة على حد زعمك ولكن كيف تعرف أنطباع من حولك إلا من خلال الكتابة أما سياسة أن لا اتلفت لموضوع عضو من الأعضاء فاسمح لي لا تفسر إلا تفسير واحد .



آمل أن تكون ظنوني غير صحيحة حتى لا أصاب بالإحباط لمنتدى أكن لكل أعضائه كل تقدير .



لك الحب أولاً وأخير.