وليد الطريقي
11-02-04, 05:45 pm
بسم الله الرحمن الرحيم
قصة رجل من أدعياء تحرير المرأة
الحمد لله غافر الذنب ، وقابل التوب . . شديد العقاب ذي الطوَّل . . لا إله إلا الله إلا هو إليه المصير . والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير ، نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدَّين . أما بعد :
أخي القارئ . . . ليس الغرض من سياق هذه القصة هو مجرد التسلية والاستمتاع بما فيها من مغامرات و " بطولات " وأخبار ، كلا ، إنما الغرض هو أخذ العبرة والعظة منها ، والانتفاع بما ورد فيها من دروس وفوائد ، ومن ثم ترجمة ذلك إلى واقع عملي ، تظهر آثاره على السلوك والأخلاق ، كما قال تعالى بعد سياقه لقصة يوسف عليه السلام : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } ، أي عظة وموعظة لأصحاب العقول السليمة المفكرة ، أما أصحاب العقول المريضة والمعطلة فهم لا ينتفعون بمثل هذه المواعظ والعبر ، والسعيد من وُعظ بنفسه .
اللهم اجعلنا من التوابين الأوابين المتطهرين ، ولا تجعلنا من الغافلين ، المعرضين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
* * ذهب فلان إلى أوربا وما ننكر من أمره شيئاً ، فلبث بضع سنين ثم عاد وما بقي مما كنا نعرفه عنه شيء . ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها ، وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة . . وذهب بقلب نقي طاهر ، يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر ، وعاد بقلب مظلم مدخول ، لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها ، والنقمة على السماء وخالقها . وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس [ مسلمة ] فوقها ، وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئاً فوقها ، ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها . ذهب وما على الأرض أحب إليه من دينه وأهله ، وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما .
كنت أرى أن هذه الصورة الغربية التي يتراءى فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغاً تطلع عليه شمس المشرق فتمحوها كأن لم يكن ، وأن مكان المدينة الغربية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة ؛ إذا انحرف عنها زال خياله منها ، فلم أشأ أن أفارقه وفاء لعهده السابق ، ورجاء لغده المنتظر ، محتملاً في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره ما لا طاقة لمثلي باحتمال مثله ، حتى جاءني ذات ليلة بداهية من الدواهي ومصيبة المصائب ، فكانت آخر عهدي به .
دخلت عليه فرأيته واجماً مكتئباً ، فحييته ، فأومأ إليَّ بالتحية إيماءً . فسألته ما باله ؟ فقال : ما زلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء ، لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه ، ولا أدري مصير أمري فيه . . قلت : وأي امرأة تريد ؟ قال : تلك التي يسميها الناس زوجتي ، وأسميها الصخرة العاتية ؛ القائمة في طريق مطالبي وآمالي . . قلت : إنك كثير الآمال ؛ فعن أي آمالك تتحدث ؟ قال : ليس لي في الحياة إلا أمل واحد ، وهو أن أغمض عيني ثم أفتحها فلا أرى غطاءً على وجه امرأة في هذه الأمة . . (!!) قلت : ذلك ما لا تملكه ولا أرى لك فيه ، قال : إن كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي ، ويتمنون في أمره ما أتمنى ولا يحول بينهم وبين تمزيقه عن وجه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد (!!) ، فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً (!!) وأن يتم على يدي من ذلك ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها . . فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته وعظمته ، وخيل إليها أنني جئتها بنكبة من نكبات الدهر أو زرية من زراياه ، وزعمت أنها إن برزت للرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز للنساء من بعد ذلك حياءً وخجلاً . . ولا خجل هناك ولا حياء ولكنه الموت والجمود (!!) فلا بد لي أن أبلغ أمنيتي وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدى الحسنيين (!!) إما بشفائه أو بكسره .
فورد عليّ من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً وقلت له : أعالم أنت أيها الصديق بما تقول ؟! قال نعم ؛ أقول الحقيقة التي أعتقدها وأدين نفسي بها ، واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعاً حيث وقعت .
قلت : هل تأذن لي أن أقول لك : إنك عشت برهة من الزمان في ديار قوم لا حجاب بين رجالهم ونسائهم ، فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه ؟ قال : ربما وقع لي شيء من ذلك ، فماذا تريد ؟
قلت : أريد أن أقول لك أني أخاف على عرضك أن يلم به من الرجال ما ألم بأعراض الرجال منك .
قال : إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها في حصن حصين لا تمتد إليه الأعناق (!!!) .
فتداخلني ما لم أملك نفسي معه ، وقلت له : تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء ، والثلمة التي يعثر بها في رؤوسكم ؛ فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم . . فالشرف كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها ، فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم فإنا لا نجداها . .
قال : أتنكر وجود العفة بين الناس ؟!
قلت : لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة عند كثير من الناس ولكني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب والمرأة الحاذقة المترفقة إذا سقط من بينهما الحجاب وخلا وجه كل منهما لصاحبه .
إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه ، وتطلبون عندها ما لا تجدونه عند أنفسكم ، فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون أتربحونها من بعد ذلك أم تخسرونها ، وما أحسبكم – إن فعلتم – رابحين . .
ما شكت المرأة إليكم ظلماً ، ولا تقدمت طالبة أن تحلوا قيدها وتطلقوها ، إنها لا تشكو إلا فضولكم وإسفافكم ، ولصوقكم بها ، ووقوفكم في وجهها حيثما سارت ، وأينما حلت ، حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها من سبيل إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها ، تبرماً بكم ، وفراراً من فضولكم ، وفواعجباً لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها .
إنكم لا ترثون لها ، بل لا ترثون لأنفسكم ، ولا تبكون عليها ، بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوُّها تبرجاً وسفوراً ، ويتدفق حرية واستهتاراً ، تودون لو ظفرتم هنا بهذا العيش الذي خلفتموه هناك .
عاشت المرأة حقبة من دهرها مطمئنة في بيتها راضية عن نفسها وعن عيشتها ، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها ، أو وقفة بين يدي ربها ، أو عطفة تعطفها على ولدها ، أو جلسة تجلسها إلى جارتها فتبثها ذات نفسها ، وتستبثها سريرة قلبها ، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها ونزولها عند رضاهما ، وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام ، فتحب زوجها لأنه زوجها ، كما تحب ولدها لأنه ولدها ، فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي أن الزواج أساس الحب ، فقلتم لها أن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأياً ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك ، فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك ، فازدرت أباها وتمردت على زوجها ، وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرساً من الأعراس الضاحكة مناحة قائمة لا تهدأ نارها ولا يخبو أوارها .
قلتم لها : لا بد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك ، فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها ، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم .
وقلتم لها إن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها ، وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق ، فأصبحت تطلب في كل يوم زوجاً جديداً يحيي من لوعة الحب ما أمات القديم ، فلا قديماً استبقت ولا جديداً أفادت .
وقلتم لها لابد لك أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك والقيام على شؤون بيتك ، فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها والقيام على شؤون بيتها .
وقلتم لها إنا لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا ، فكان لابد لها أن تعرف مواقع أهوائكم ، ومسارح أنظاركم لتتجمل لكم بما تحبون ، فراجعت فهرس أعمالكم في حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات والمستهترات والضاحكات اللاعبات ، والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن ، فتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم ، وتنزل عند محبتكم ، ثم تقدمت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضاً كما يعرض النخاس أمته في سوق الرقيق ، فأعرضتم عنها ، ونبوتم بها ، وقلتم لها إنا لا نتزوج النساء العاهرات كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم ، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة ، وقد أباها الخليع ، وترفع عنها المحتشم ، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت .
وهكذا انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعها ، وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها . فتحاجز الفريقان ، وأظلم الفضاء بينهما ، وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالاً مترهبين ونساء عانسات .
ذلك بكاؤكم على المرأة أيها الراحمون .
فما زاد الفتى على أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والسخرية ، وقال :تلك حماقات ما جئنا إلا لمعالجتها ، فلنصبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها . فقلت له : لك أمرك في نفسك وأهلك فاصنع بهما ما تشاء وائذن لي أن أقول لك إني لا أستطيع أن أختلف إليك بعد اليوم إبقاء عليك وعلى نفسي ، لأني أعلم أن الساعة التي ينفرج لي جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك في حضرتك تقتلني حياء وخجلاً ، ثم انصرفت ، وكان هذا آخر ما بيني وبينه .
وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه وأصدقائه ، وأنه قد أصبح مغشياً لا تزال النعال خافقة ببابه ، فذرفت عيني دمعة لا أعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المدال أو الحزن على الصديق المفقود .
مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره فيها ولا يزورني ، ولا ألقاه في طريقه إلا قليلاً فأحييه تحية الغريب للغريب ، ثم أنطلق في سبيلي .
فإني لعائد إلى منزلي ليلة أمس وقد مضى الشطر الأول من الليل إذ رأيته خارجاً من منزله يمشي مشية المضطرب الحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو يحرسه أو يقتاده ، فأهمني أمره ودنوت منه وسألته عن شأنه فقال : لا علم لي بشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة ، ولا أعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً ، وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب ، فهل أستطيع أن أرجوك يا صديقي القديم بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي هذا علني أحتاج إلى معونتك فيما قد يعرض هناك من الشؤون ؟ قلت : لا أحب إليَّ من ذلك ، ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ولا يقول لي شيئاً ، ثم شعرت كأنه يُزوّر في نفسه كلاماً ما يريد أن يفضي به إليَّ فيمنعه الخجل والحياء ، ففاتحته الحديث وقلت له : ألم تستطع أن تتذكر لهذه الدعوة سبباً ؟ فنظر إليَّ نظرة حائرة وقال : إن أخوف ما أخافه أن يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث مؤلم ، فقد رابني من أمرها الليلة ، وإنها لم تعد إلى منزلها حتى الساعة ، وما كان ذلك من شأنها من قبل . قلت : أما كان يصحبها أحد ؟ قال : لا . قلت : ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه ؟ قال : لا . قلت : ومما تخاف عليها ؟ قال : لا أخاف عليها شيئاً سوى أني أعلم أنها امرأة غيور حمقاء ، فلعل بعض الناس حاول العبث بها في طريقها فشرست عليه فوقعت بينهما خصومة انتهت إلى رجال الشرطة . . وكنا قد وصلنا إلى المخفر فاقتادنا الجندي إلى قاعة المأمور حتى صرنا بين يديه ، فأشار إلى جندي أماه إشارة لم نفهمها ، ثم استدنى الفتى إليه وقال : يسوؤني يا سيدي أن أقول لك إن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من أمكنة الريبة على رجل وامرأة في حال غير صالحة فاقتادوهما إلى المخفر فزعمت المرأة أن لك بها صلة فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها وأمر صاحبها فإذا كانت صادقة أذِنّا لها بالانصراف معك إكراماً لك ، وإبقاء على شرفك ، وإلا فهي امرأة فاجرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات ، وها هما وراءك ، وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى ، فنظر ، فإذا المرأة زوجته ، وإذا الرجل أحد أصدقائه ، فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر وملأت نوافذه وأبوابه عيوناً وآذاناً ثم سقط في مكانه مغشياً عليه . فأشرت على المأمور أن يرسل المرأة إلى منزل أبيها ففعل ، وأمر بصاحبها إلى السجن ، ثم حملنا الفتى في مركبة إلى منزله ودعونا الطبيب فقرر أنه مصاب بحمى دماغية شديدة ، ولبث ساهراً بجانبه بقية الليلة يعالجه حتى دنا الصباح ، فانصرف الطبيب على أن يعود متى دعوناه ، وعهد إليَّ بأمره ، فلبثت بجانبه أرثي لحاله وأنتظر قضاء الله فيه ، حتى رأيته يتحرك في مضجعه ثم فتح عينيه فرآني ، فلبث شاخصاً إليّ هنيهة كأنما يحاول أن يقول لي شيئاً فلا يستطيع ، فدنوت منه وقلت : هل من حاجة يا صديقي ؟ فأجاب بصوت ضعيف خافت : حاجتي أن لا يدخل عليَّ من الناس أحد . قلت : لن يدخل عليك إلا من تريد ، فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه فإذا عيناه مبتلتان بالدموع ، فقلت : ما بكاؤك يا صديقي ؟ قال : لا شيء سوى أقول لها أني عفوت عنها . قلت : إنها في بيت أبيها ، فقال : وارحمتاه لها ولأبيها ولجميع قومها ، فقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء أمجاداً فألبستهم منذ عرفوني ثوباً من العار ولا تبلوه الأيام .
مَن لي بمن يبلغهم جميعاً أنني رجل مريض مشرف وأنني أخشى لقاء الله إذا لقيته بدمائهم وأنني أضرع إليهم أن يصفحوا عني ويغتفروا ذنبي فيغفر لي الله بغفرانه قبل أن يسبق إليَّ أجلي .
لقد كنت أقسمت لأبيها يوم اهتديتها أن أصون عرضها صيانتي لحياتي ، وأن أمنعها مما أمنع منه نفسي ، فحنثت في يميني ، فهل يغفر لي ذنبي فيغفر الله لي بغفرانه .
إنها قتلتني ولكني أنا الذي وضعت في يديها الخنجر الذي أغمدته في صدري فلا يسألها أحد عن ذنبي ، البيت بيتي ، والزوجة زوجتي ، والصديق صديقي ، وأنا الذي فتحت باب بيتي لصديقي إلى زوجتي فلم يذنب لي أحد سواي .
ثم أمسك عن الكلام برهة ، فنظرن إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئاً فشيئاً ، حتى لبست وجهه ، فزفر زفرة خلت أنها خرقت حجاب قلبه ثم أنشأ يقول :
آه . . . ما أشد الظلام أمام عيني ، وما أضيق الدنيا في وجهي . . .
في هذه الغرفة . . . على هذا المقعد . . . تحت هذا السقف . . . كنت أراهما جالسين يتحدثان فتمتلئ نفسي غبطة وسروراً ، وأحمد الله على أن رزقني بصديق وفي يؤنس لي زوجتي في وحدتها ، وزوجة كريمة تكرم صديقي في غيبتي ، فقولوا للناس جميعاً إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالأمس بذكائه وفطنته ويزعم أنه أكيس الناس وأحزمهم قد أصبح يعترف أن أبله إلى الغاية من البلاهة ، وغبي إلى الغاية التي لا غاية وراءها .
والهفاء على أم لم تلدني ، وأب عاقر لا نصيب له في البنين !
لعل الناس كانوا يعلمون من أمري ما كنت أجهل ، ولعلهم كانوا إذا مررت بهم يتناظرون ويتغامزون ويبتسم بعضهم إلى البعض ويحدقون النظر إليَّ ويطيلون النظر في وجهي ليروا كيف تتمثل البلاهة في وجود البله ، والغباوة في وجوه الأغبياء ، ولعل الذين كانوا يطيفون بي ويترددون إليَّ ويتوددون إليَّ من أصدقائي إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لا من أجلي ، ولعلهم كانوا يسمونني فيما بينهم وبين أنفسهم قواداً ، ويسمون زوجتي مومساً ، وبيتي ماخوراً ، فوارحمتاه لي إن بقيت على ظهر الأرض بعد اليوم ولو ساعة واحدة ، ووالهفاه على زاوية من زوايا قبر عميق يطويني ويطوي عاري معي .
ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه .
وهنا دخلت الحجرة مرضع ولده تحمله على يدها حتى دنت به من فراشه فتركته وانصرفت ، فما زال الطفل يدب على أطرافه حتى علا على صدر أبيه فأحسَّ به ففتح عينيه فرآه فابتسم لمرآه ، وضمه إليه ضمة الرفق والحنان ، وأدنى فمه من وجهه كأنما يريد أن يقبله ، ثم انتفض فجأة ودفعه بيده دفعاً شديداً فانكفأ عن وجهه يكبي ويصيح ، وقال : أبعدوه عني ، ولا أعرفه ، ليس لي أولاد ولا نساء ، سلوا أمه عن أبيه أين مكانه ، واذهبوا به إليه ، لا ألبس العار في حياتي ، وأتركه أثراً خالداً ورائي بعد مماتي ، وكانت المرضع قد سمعت صياح الطفل فعادت إليه وحملته وذهبت به ، فسمع صوته وهو يبتعد عنه شيئاً فشيئاً ، فأنصت إليه واستعبر باكياً وصاح : أرجعوه إليَّ ، فعادت به المرضع فتناوله وأنشأ يقلب نظره في وجهه ويقول :
في سبيل الله يا بني ما خلف لك أبوك من اليتم وما خلفت لك أمك من العار ، فاغفر لهما ذنبهما إليك ، فقد كانت أمك امرأة ضعيفة فعجزت عن احتمال الأمانة ، فسقطت ، وكان أبوك حسن النية في الجريمة التي اجترمها فأساء من حيث أراد الإحسان .
سواء أكنت ولدي يا بني أم ولد الجريمة فإني قد سعدت بك برهة من الدهر فلا أنسى يدك عندي حياً أو ميتاً .
ثم احتضنه إليه وقبله في جبينه قبلة لا أعلم هل هي قبلة الأب الرحيم أو الرجل الكريم .
وكان قد بلغ منه الجهد فعادوته الحمى وغلت نارها في رأسه وما زال يثقل شيئاً فشيئاً حتى خفتُ عليه التلف فأرسلت وراء الطبيب فجاء وألقى عليه نظرة طويلة ثم استردها مملوءة يأساً وحزناً .
ثم بدأ ينازع نزعاً شديداً ويئن أنيناً مؤلماً ، فلم تبق عين من العيون المحيطة به إلا رفضت كل ما تستطيع أن تجود به من مدامعها .
فإنا لجلوس حوله وقد بدأ الموت يُسبل أستاره السوداء حول سريره فإذا بامرأة متزرة بإزار أسود قد دخلت الحجرة وتقدمت نحوه ببطء حتى ركعت بجانبه ثم أكبت على يده الممتدة فوق صدره فقبلتها وأخذت تقول له :
لا تخرج من الدنيا وأنت مرتاب في ولدك فإن أمه تعترف بين يديك وأنت ذاهب إلى ربك أنها وإن كانت دنت من الجريمة ، فإنها لم ترتكبها ، فاعف عني يا والد ولدي ، واسأل الله – إن متَّ – أن يلحقني بك ، فلا خير لي في الحياة من بعدك .
ثم انفجرت باكية ، ففتح عينيه وألقى على وجهها نظرة باسمة كانت هي آخر عهده بالحياة وقُضي .
عيون القصيم:for12::for12:
قصة رجل من أدعياء تحرير المرأة
الحمد لله غافر الذنب ، وقابل التوب . . شديد العقاب ذي الطوَّل . . لا إله إلا الله إلا هو إليه المصير . والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير ، نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدَّين . أما بعد :
أخي القارئ . . . ليس الغرض من سياق هذه القصة هو مجرد التسلية والاستمتاع بما فيها من مغامرات و " بطولات " وأخبار ، كلا ، إنما الغرض هو أخذ العبرة والعظة منها ، والانتفاع بما ورد فيها من دروس وفوائد ، ومن ثم ترجمة ذلك إلى واقع عملي ، تظهر آثاره على السلوك والأخلاق ، كما قال تعالى بعد سياقه لقصة يوسف عليه السلام : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } ، أي عظة وموعظة لأصحاب العقول السليمة المفكرة ، أما أصحاب العقول المريضة والمعطلة فهم لا ينتفعون بمثل هذه المواعظ والعبر ، والسعيد من وُعظ بنفسه .
اللهم اجعلنا من التوابين الأوابين المتطهرين ، ولا تجعلنا من الغافلين ، المعرضين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
* * ذهب فلان إلى أوربا وما ننكر من أمره شيئاً ، فلبث بضع سنين ثم عاد وما بقي مما كنا نعرفه عنه شيء . ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها ، وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة . . وذهب بقلب نقي طاهر ، يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر ، وعاد بقلب مظلم مدخول ، لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها ، والنقمة على السماء وخالقها . وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس [ مسلمة ] فوقها ، وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئاً فوقها ، ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها . ذهب وما على الأرض أحب إليه من دينه وأهله ، وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما .
كنت أرى أن هذه الصورة الغربية التي يتراءى فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغاً تطلع عليه شمس المشرق فتمحوها كأن لم يكن ، وأن مكان المدينة الغربية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة ؛ إذا انحرف عنها زال خياله منها ، فلم أشأ أن أفارقه وفاء لعهده السابق ، ورجاء لغده المنتظر ، محتملاً في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره ما لا طاقة لمثلي باحتمال مثله ، حتى جاءني ذات ليلة بداهية من الدواهي ومصيبة المصائب ، فكانت آخر عهدي به .
دخلت عليه فرأيته واجماً مكتئباً ، فحييته ، فأومأ إليَّ بالتحية إيماءً . فسألته ما باله ؟ فقال : ما زلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء ، لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه ، ولا أدري مصير أمري فيه . . قلت : وأي امرأة تريد ؟ قال : تلك التي يسميها الناس زوجتي ، وأسميها الصخرة العاتية ؛ القائمة في طريق مطالبي وآمالي . . قلت : إنك كثير الآمال ؛ فعن أي آمالك تتحدث ؟ قال : ليس لي في الحياة إلا أمل واحد ، وهو أن أغمض عيني ثم أفتحها فلا أرى غطاءً على وجه امرأة في هذه الأمة . . (!!) قلت : ذلك ما لا تملكه ولا أرى لك فيه ، قال : إن كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي ، ويتمنون في أمره ما أتمنى ولا يحول بينهم وبين تمزيقه عن وجه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد (!!) ، فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً (!!) وأن يتم على يدي من ذلك ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها . . فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته وعظمته ، وخيل إليها أنني جئتها بنكبة من نكبات الدهر أو زرية من زراياه ، وزعمت أنها إن برزت للرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز للنساء من بعد ذلك حياءً وخجلاً . . ولا خجل هناك ولا حياء ولكنه الموت والجمود (!!) فلا بد لي أن أبلغ أمنيتي وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدى الحسنيين (!!) إما بشفائه أو بكسره .
فورد عليّ من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً وقلت له : أعالم أنت أيها الصديق بما تقول ؟! قال نعم ؛ أقول الحقيقة التي أعتقدها وأدين نفسي بها ، واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعاً حيث وقعت .
قلت : هل تأذن لي أن أقول لك : إنك عشت برهة من الزمان في ديار قوم لا حجاب بين رجالهم ونسائهم ، فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه ؟ قال : ربما وقع لي شيء من ذلك ، فماذا تريد ؟
قلت : أريد أن أقول لك أني أخاف على عرضك أن يلم به من الرجال ما ألم بأعراض الرجال منك .
قال : إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها في حصن حصين لا تمتد إليه الأعناق (!!!) .
فتداخلني ما لم أملك نفسي معه ، وقلت له : تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء ، والثلمة التي يعثر بها في رؤوسكم ؛ فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم . . فالشرف كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها ، فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم فإنا لا نجداها . .
قال : أتنكر وجود العفة بين الناس ؟!
قلت : لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة عند كثير من الناس ولكني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب والمرأة الحاذقة المترفقة إذا سقط من بينهما الحجاب وخلا وجه كل منهما لصاحبه .
إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه ، وتطلبون عندها ما لا تجدونه عند أنفسكم ، فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون أتربحونها من بعد ذلك أم تخسرونها ، وما أحسبكم – إن فعلتم – رابحين . .
ما شكت المرأة إليكم ظلماً ، ولا تقدمت طالبة أن تحلوا قيدها وتطلقوها ، إنها لا تشكو إلا فضولكم وإسفافكم ، ولصوقكم بها ، ووقوفكم في وجهها حيثما سارت ، وأينما حلت ، حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها من سبيل إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها ، تبرماً بكم ، وفراراً من فضولكم ، وفواعجباً لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها .
إنكم لا ترثون لها ، بل لا ترثون لأنفسكم ، ولا تبكون عليها ، بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوُّها تبرجاً وسفوراً ، ويتدفق حرية واستهتاراً ، تودون لو ظفرتم هنا بهذا العيش الذي خلفتموه هناك .
عاشت المرأة حقبة من دهرها مطمئنة في بيتها راضية عن نفسها وعن عيشتها ، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها ، أو وقفة بين يدي ربها ، أو عطفة تعطفها على ولدها ، أو جلسة تجلسها إلى جارتها فتبثها ذات نفسها ، وتستبثها سريرة قلبها ، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها ونزولها عند رضاهما ، وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام ، فتحب زوجها لأنه زوجها ، كما تحب ولدها لأنه ولدها ، فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي أن الزواج أساس الحب ، فقلتم لها أن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأياً ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك ، فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك ، فازدرت أباها وتمردت على زوجها ، وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرساً من الأعراس الضاحكة مناحة قائمة لا تهدأ نارها ولا يخبو أوارها .
قلتم لها : لا بد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك ، فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها ، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم .
وقلتم لها إن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها ، وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق ، فأصبحت تطلب في كل يوم زوجاً جديداً يحيي من لوعة الحب ما أمات القديم ، فلا قديماً استبقت ولا جديداً أفادت .
وقلتم لها لابد لك أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك والقيام على شؤون بيتك ، فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها والقيام على شؤون بيتها .
وقلتم لها إنا لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا ، فكان لابد لها أن تعرف مواقع أهوائكم ، ومسارح أنظاركم لتتجمل لكم بما تحبون ، فراجعت فهرس أعمالكم في حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات والمستهترات والضاحكات اللاعبات ، والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن ، فتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم ، وتنزل عند محبتكم ، ثم تقدمت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضاً كما يعرض النخاس أمته في سوق الرقيق ، فأعرضتم عنها ، ونبوتم بها ، وقلتم لها إنا لا نتزوج النساء العاهرات كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم ، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة ، وقد أباها الخليع ، وترفع عنها المحتشم ، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت .
وهكذا انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعها ، وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها . فتحاجز الفريقان ، وأظلم الفضاء بينهما ، وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالاً مترهبين ونساء عانسات .
ذلك بكاؤكم على المرأة أيها الراحمون .
فما زاد الفتى على أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والسخرية ، وقال :تلك حماقات ما جئنا إلا لمعالجتها ، فلنصبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها . فقلت له : لك أمرك في نفسك وأهلك فاصنع بهما ما تشاء وائذن لي أن أقول لك إني لا أستطيع أن أختلف إليك بعد اليوم إبقاء عليك وعلى نفسي ، لأني أعلم أن الساعة التي ينفرج لي جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك في حضرتك تقتلني حياء وخجلاً ، ثم انصرفت ، وكان هذا آخر ما بيني وبينه .
وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه وأصدقائه ، وأنه قد أصبح مغشياً لا تزال النعال خافقة ببابه ، فذرفت عيني دمعة لا أعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المدال أو الحزن على الصديق المفقود .
مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره فيها ولا يزورني ، ولا ألقاه في طريقه إلا قليلاً فأحييه تحية الغريب للغريب ، ثم أنطلق في سبيلي .
فإني لعائد إلى منزلي ليلة أمس وقد مضى الشطر الأول من الليل إذ رأيته خارجاً من منزله يمشي مشية المضطرب الحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو يحرسه أو يقتاده ، فأهمني أمره ودنوت منه وسألته عن شأنه فقال : لا علم لي بشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة ، ولا أعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً ، وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب ، فهل أستطيع أن أرجوك يا صديقي القديم بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي هذا علني أحتاج إلى معونتك فيما قد يعرض هناك من الشؤون ؟ قلت : لا أحب إليَّ من ذلك ، ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ولا يقول لي شيئاً ، ثم شعرت كأنه يُزوّر في نفسه كلاماً ما يريد أن يفضي به إليَّ فيمنعه الخجل والحياء ، ففاتحته الحديث وقلت له : ألم تستطع أن تتذكر لهذه الدعوة سبباً ؟ فنظر إليَّ نظرة حائرة وقال : إن أخوف ما أخافه أن يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث مؤلم ، فقد رابني من أمرها الليلة ، وإنها لم تعد إلى منزلها حتى الساعة ، وما كان ذلك من شأنها من قبل . قلت : أما كان يصحبها أحد ؟ قال : لا . قلت : ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه ؟ قال : لا . قلت : ومما تخاف عليها ؟ قال : لا أخاف عليها شيئاً سوى أني أعلم أنها امرأة غيور حمقاء ، فلعل بعض الناس حاول العبث بها في طريقها فشرست عليه فوقعت بينهما خصومة انتهت إلى رجال الشرطة . . وكنا قد وصلنا إلى المخفر فاقتادنا الجندي إلى قاعة المأمور حتى صرنا بين يديه ، فأشار إلى جندي أماه إشارة لم نفهمها ، ثم استدنى الفتى إليه وقال : يسوؤني يا سيدي أن أقول لك إن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من أمكنة الريبة على رجل وامرأة في حال غير صالحة فاقتادوهما إلى المخفر فزعمت المرأة أن لك بها صلة فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها وأمر صاحبها فإذا كانت صادقة أذِنّا لها بالانصراف معك إكراماً لك ، وإبقاء على شرفك ، وإلا فهي امرأة فاجرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات ، وها هما وراءك ، وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى ، فنظر ، فإذا المرأة زوجته ، وإذا الرجل أحد أصدقائه ، فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر وملأت نوافذه وأبوابه عيوناً وآذاناً ثم سقط في مكانه مغشياً عليه . فأشرت على المأمور أن يرسل المرأة إلى منزل أبيها ففعل ، وأمر بصاحبها إلى السجن ، ثم حملنا الفتى في مركبة إلى منزله ودعونا الطبيب فقرر أنه مصاب بحمى دماغية شديدة ، ولبث ساهراً بجانبه بقية الليلة يعالجه حتى دنا الصباح ، فانصرف الطبيب على أن يعود متى دعوناه ، وعهد إليَّ بأمره ، فلبثت بجانبه أرثي لحاله وأنتظر قضاء الله فيه ، حتى رأيته يتحرك في مضجعه ثم فتح عينيه فرآني ، فلبث شاخصاً إليّ هنيهة كأنما يحاول أن يقول لي شيئاً فلا يستطيع ، فدنوت منه وقلت : هل من حاجة يا صديقي ؟ فأجاب بصوت ضعيف خافت : حاجتي أن لا يدخل عليَّ من الناس أحد . قلت : لن يدخل عليك إلا من تريد ، فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه فإذا عيناه مبتلتان بالدموع ، فقلت : ما بكاؤك يا صديقي ؟ قال : لا شيء سوى أقول لها أني عفوت عنها . قلت : إنها في بيت أبيها ، فقال : وارحمتاه لها ولأبيها ولجميع قومها ، فقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء أمجاداً فألبستهم منذ عرفوني ثوباً من العار ولا تبلوه الأيام .
مَن لي بمن يبلغهم جميعاً أنني رجل مريض مشرف وأنني أخشى لقاء الله إذا لقيته بدمائهم وأنني أضرع إليهم أن يصفحوا عني ويغتفروا ذنبي فيغفر لي الله بغفرانه قبل أن يسبق إليَّ أجلي .
لقد كنت أقسمت لأبيها يوم اهتديتها أن أصون عرضها صيانتي لحياتي ، وأن أمنعها مما أمنع منه نفسي ، فحنثت في يميني ، فهل يغفر لي ذنبي فيغفر الله لي بغفرانه .
إنها قتلتني ولكني أنا الذي وضعت في يديها الخنجر الذي أغمدته في صدري فلا يسألها أحد عن ذنبي ، البيت بيتي ، والزوجة زوجتي ، والصديق صديقي ، وأنا الذي فتحت باب بيتي لصديقي إلى زوجتي فلم يذنب لي أحد سواي .
ثم أمسك عن الكلام برهة ، فنظرن إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئاً فشيئاً ، حتى لبست وجهه ، فزفر زفرة خلت أنها خرقت حجاب قلبه ثم أنشأ يقول :
آه . . . ما أشد الظلام أمام عيني ، وما أضيق الدنيا في وجهي . . .
في هذه الغرفة . . . على هذا المقعد . . . تحت هذا السقف . . . كنت أراهما جالسين يتحدثان فتمتلئ نفسي غبطة وسروراً ، وأحمد الله على أن رزقني بصديق وفي يؤنس لي زوجتي في وحدتها ، وزوجة كريمة تكرم صديقي في غيبتي ، فقولوا للناس جميعاً إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالأمس بذكائه وفطنته ويزعم أنه أكيس الناس وأحزمهم قد أصبح يعترف أن أبله إلى الغاية من البلاهة ، وغبي إلى الغاية التي لا غاية وراءها .
والهفاء على أم لم تلدني ، وأب عاقر لا نصيب له في البنين !
لعل الناس كانوا يعلمون من أمري ما كنت أجهل ، ولعلهم كانوا إذا مررت بهم يتناظرون ويتغامزون ويبتسم بعضهم إلى البعض ويحدقون النظر إليَّ ويطيلون النظر في وجهي ليروا كيف تتمثل البلاهة في وجود البله ، والغباوة في وجوه الأغبياء ، ولعل الذين كانوا يطيفون بي ويترددون إليَّ ويتوددون إليَّ من أصدقائي إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لا من أجلي ، ولعلهم كانوا يسمونني فيما بينهم وبين أنفسهم قواداً ، ويسمون زوجتي مومساً ، وبيتي ماخوراً ، فوارحمتاه لي إن بقيت على ظهر الأرض بعد اليوم ولو ساعة واحدة ، ووالهفاه على زاوية من زوايا قبر عميق يطويني ويطوي عاري معي .
ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه .
وهنا دخلت الحجرة مرضع ولده تحمله على يدها حتى دنت به من فراشه فتركته وانصرفت ، فما زال الطفل يدب على أطرافه حتى علا على صدر أبيه فأحسَّ به ففتح عينيه فرآه فابتسم لمرآه ، وضمه إليه ضمة الرفق والحنان ، وأدنى فمه من وجهه كأنما يريد أن يقبله ، ثم انتفض فجأة ودفعه بيده دفعاً شديداً فانكفأ عن وجهه يكبي ويصيح ، وقال : أبعدوه عني ، ولا أعرفه ، ليس لي أولاد ولا نساء ، سلوا أمه عن أبيه أين مكانه ، واذهبوا به إليه ، لا ألبس العار في حياتي ، وأتركه أثراً خالداً ورائي بعد مماتي ، وكانت المرضع قد سمعت صياح الطفل فعادت إليه وحملته وذهبت به ، فسمع صوته وهو يبتعد عنه شيئاً فشيئاً ، فأنصت إليه واستعبر باكياً وصاح : أرجعوه إليَّ ، فعادت به المرضع فتناوله وأنشأ يقلب نظره في وجهه ويقول :
في سبيل الله يا بني ما خلف لك أبوك من اليتم وما خلفت لك أمك من العار ، فاغفر لهما ذنبهما إليك ، فقد كانت أمك امرأة ضعيفة فعجزت عن احتمال الأمانة ، فسقطت ، وكان أبوك حسن النية في الجريمة التي اجترمها فأساء من حيث أراد الإحسان .
سواء أكنت ولدي يا بني أم ولد الجريمة فإني قد سعدت بك برهة من الدهر فلا أنسى يدك عندي حياً أو ميتاً .
ثم احتضنه إليه وقبله في جبينه قبلة لا أعلم هل هي قبلة الأب الرحيم أو الرجل الكريم .
وكان قد بلغ منه الجهد فعادوته الحمى وغلت نارها في رأسه وما زال يثقل شيئاً فشيئاً حتى خفتُ عليه التلف فأرسلت وراء الطبيب فجاء وألقى عليه نظرة طويلة ثم استردها مملوءة يأساً وحزناً .
ثم بدأ ينازع نزعاً شديداً ويئن أنيناً مؤلماً ، فلم تبق عين من العيون المحيطة به إلا رفضت كل ما تستطيع أن تجود به من مدامعها .
فإنا لجلوس حوله وقد بدأ الموت يُسبل أستاره السوداء حول سريره فإذا بامرأة متزرة بإزار أسود قد دخلت الحجرة وتقدمت نحوه ببطء حتى ركعت بجانبه ثم أكبت على يده الممتدة فوق صدره فقبلتها وأخذت تقول له :
لا تخرج من الدنيا وأنت مرتاب في ولدك فإن أمه تعترف بين يديك وأنت ذاهب إلى ربك أنها وإن كانت دنت من الجريمة ، فإنها لم ترتكبها ، فاعف عني يا والد ولدي ، واسأل الله – إن متَّ – أن يلحقني بك ، فلا خير لي في الحياة من بعدك .
ثم انفجرت باكية ، ففتح عينيه وألقى على وجهها نظرة باسمة كانت هي آخر عهده بالحياة وقُضي .
عيون القصيم:for12::for12: