أباالخــــــيل
16-01-04, 08:05 pm
بإيجاز.........
في كثيرٍ من الأحيان يكون هناك من أفلام الكرتون مايعكس حقيقة وضع هنا، أوهناك ولعل من بين الأفلام التي تبعث على التأمل وخاصة في الحالة العربية مسلسل (عائلة فلينغستون) الشهير مع فارق بسيط . هو أن (عائلة فلينغستون) الأصل تنـتمي إلى العصر الحجري في كل شئ عدا الذهن والسلوك. في حين أن ( عائلة فلينغستون)المعاصر ـ أعني العرب ـ ينتمون إلى العصر الحديث في كل شيء عدا الذهن والسلوك . أوبمعنى آخرفإن (عائلةفلينغستون) الأصل. لاتنتمي إلى العصر الحديث إلا من ناحية الذهن والسلوك أما مظاهرها الخارجية فتـنتمي إلى العصرالحجري، بعكس ( عائلة فلينغستون)المعاصر. التي لاتنتمي إلى هذا العصر إلا من ناحية المظاهر الخارجية بخلاف الذهن والسلوك فإنهمالاينتميان إلى هذا العصر .
باختصار شديد عرب اليوم يريدون الاستفادة من مخرجات سياسة العصرولكن دون أن يتنازلوا عن فلسفة ابن مروان والرشيد وابن طولون...
إلى التفصيل...................
______________________________________
حياتنا... فيلم كرتوني طويل
كنت، وما زلت، أستمتع بأفلام الكرتون على اختلاف أنواعها، ففي أفلام الكرتون ثلاث فوائد: معرفة ومتعة وحكمة في ذات الوقت، سواء كانت هذه نية صانعها أو غير ذلك. بل ان أفلام الكرتون في كثير من الأحيان مثل الأحلام، كل شيء فيها ممكن وجائز. فأفلام الكرتون في مثل هذه الحالة، تشكل نوعاً من انتفاء للقيود، وتحقق للحرية بلا حدود ولو في الخيال، وهذا شيء جيد بذاته، خاصة عندما يعيش المرء في عالم القيد فيه هو القاعدة وغيره من الشذوذ. من جهة أخرى، تشكل أفلام الكرتون رسالة معينة تحمل قيم ومثل المرسل بشكل مبطن، كي تستقر في الأذهان بسلاسة ودون مقاومة تذكر، وذلك مثل أفلام «سوبرمان» و«الوطواط» و«رابطة العدل» و«الرجل المطاط» و«العنكبوت»، بل وحتى أفلام «ميكي» و«بطوط» و«بندق» وغيرهم، ولكن هذا ليس موضوعنا هنا. ومن جهة أخرى، فإنه في كثير من الأحيان يكون هناك من هذه الأفلام ما يعكس حقيقة وضع هنا أو هناك، أو تناقضات وضع هنا أو هناك، رغم التناقض الظاهر بين الحقيقة واللامعقول، ولكن ما كل الأمور بظواهرها. فمثلاً، كان العراق في علاقاته مع دول الجوار قبل حرب الخليج الثانية، وما شابهه من دول في منطقتنا العربية، أشبه ما يكون بسلسلة أفلام «باباي»، حيث الصراع الدائم بين «بروتس» و«باباي» على «أوليف أويل»: كل يريدها لنفسه، دون ان يكون لأوليف أويل رأي فيما يجري حولها وبسببها، على افتراض أن أوليف أويل تمثل الأمة العربية. وفي علاقته ببقية العالم، وخاصة الولايات المتحدة، منذ حرب الخليج الثانية، أشبه ما يكون بسلسلة أفلام «توم وجيري»، حيث لا تنتهي المطاردة والمناكفة والمقالب بين القط توم والفأر جيري، حتى انتهى المسلسل أخيراً بحسم توم لأمره وابتلع جيري، ولكن المسلسل لم ينته رغم ذلك، فهنالك اليوم نسخ جديدة من جيري، ولا ندري متى ينتهي المسلسل نهائياً ودون عودة، وربما لن ينتهي أبداً، فلا الفأر سيتوقف عن إزعاجه للقط، ولا القط قادر على القبول بالسلام مع الفأر. وحتى لو انتهى الفأر، فلا بد للقط أن يجد فأراً آخر، أو حتى يصنع فأراً آخر، فحياته لا تستقيم دون فأر يضفي المعنى عليها، رغم إزعاجه وتحرشاته، وهذا ينطبق تمام الانطباق على كثير من الأمور في العلاقات الدولية، المعاصر منها والقديم. ومن هذه المسلسلات الكرتونية أيضاً، سلسلة أفلام الضبع والجواب، وهو ذاك الطائر الأميركي السريع الذي يجوب الطرق دون توقف. منذ بداية كل أفلام هذا الكرتون وحتى نهايته، يكون من الواضح أن الضبع لن يستطيع الإمساك بالطائر مهما فعل، ولكنه لا يكف عن المحاولة، ويستمر المسلسل بهذه الطريقة. فيلم كرتون نعم، ولكن فيه من الدروس السياسية وغير السياسية الشيء الكثير، سواء في ملاحقة المستحيل كما قد يُفسر، أو العزم وعدم التوقف عن المحاولة، أو في أن للأشياء طبيعة لا يمكن تجاوزها، أو حتى في عبثية السياسة ذاتها في لحظة من اللحظات، أو طبيعة الحياة من حيث أن هناك أموراً لا تحددها الإرادة بقدر ما هي نوع من سيناريو غير مرئي للأحداث، يظن معه المشارك في الفيلم أن له إرادة مستقلة، ولكن الحقيقة كلها في يد كاتب السيناريو. ولكن من بين أهم أفلام الكرتون التي تبعث على التأمل، وخاصة في حالة مثل الحالة العربية، مسلسل «عائلة فلينغستون» الشهير. في هذه المسلسل، يعيش «فريد فلنغستون» وزوجته «ويلما»، وصديقه «بارني» وزوجته «بيتي»، في مدينة تنتمي إلى العصر الحجري في كل تفصيل من تفاصيلها، كل شيء من حجر، وكل شيء بحجر. ولكن الفرق بين العصر الحجري الحقيقي وهذا العصر الحجري المفترض أو المتخيل، هو أن تقنية اليوم والعقلية الثقافية الأميركية الحديثة، هي السائدة رغم عري الأقدام وحضارة الحجر. كل شيء مصنوع من الحجر: السيارات، المصانع والأدوات التي تعمل بطاقة الحيوانات، وأشياء أخرى كثيرة لا تجدها إلا في العصر الحديث، ولكنها موجودة في تلك المدينة الحجرية. الناس يعيشون في العصر الحجري، ولكنهم يتمتعون بالتقنية الحديثة، ويفكرون بعقلية حديثة، وينظمون حياتهم وفق معايير حديثة. إنها نوع من المفارقة، أو «البارادوكس»، حيث يكون الشيء ونقيضه في ذات الوقت. قد يبدو مثل هذا الوضع غير حقيقي، بل هو تهويمات جامحة لخيال مؤلف يسعى إلى فانتازيا مغرقة في عبثيتها أو لا معقوليتها، مثلها في ذلك مثل قول توفيق الحكيم في أحد مسرحياته: «يا طالع الشجرة، هات لي معاك بقرة، تحلب وتسقيني، بالمعلقة الصيني». ولكن لو دققنا في الأمر أكثر، لوجدنا أن مثل هذه المفارقة الباعثة على الضحك، أو هذا العبث واللامعقول الذي ليس له أن يكون معقولاً، يعيش بيننا ونعيش فيه إلى حد كبير، وإن كان بطريقة معكوسة. فعالم العرب اليوم يمكن أن يُطلق عليه اسم «عالم فلينغستون» إلى حد كبير، مع تفاوت بسيط في الدرجة ربما، بين مجتمع عربي وآخر، ولكن الجميع في ذات العالم يعيشون. عالم فلينغستون الأصلي ينتمي إلى العصر الحجري في كل شيء، عدا الذهن والسلوك. أما عالم فلينغستون المعاصر، أي عالم العرب، فإنه على العكس من ذلك، ينتمي إلى العصر الحديث بكل أبعاده في كل شيء، باستثناء الذهن والسلوك. «فريد» و«ويلما» و«بارني» و«بيتي» في عالم فلينغستون المعاصر، يتعاطون مع الإنترنت ووسائل الإعلام الحديثة، ويلبسون أحدث ما تدفعه دور الأزياء العالمية من صيحات، ويركبون السيارة والطائرة، ويستوردون أحدث منجزات التقنية، ويأكلون «الهامبورغر» و«الرافيولي» و«الأيسكريم»، ويجادلون في الحداثة وما بعد الحداثة، ويفندون أفكار ماركس ونيتشه وفوكو، ولكن كل ذلك يبقى مظهراً خارجياً لا علاقة له بما يعتمل في تجاويف الذهن الحقيقي الكامن من تفاعلات. الذهن هنا يبقى بمعزل عن كل هذه المظاهر الخارجية، بمثل ما أن المظاهر الخارجية تبقى بمعزل عن الذهن في حكاية فلينغستون الأصلية. فإذا كانت المظاهر الخارجية في الحكاية الأصلية تنتمي إلى عصر غير العصر، رغم أن الذهن والسلوك ينتميان إلى العصر، فإن الذهن في الحكاية اللاحقة ينتمي إلى عصر غير العصر، رغم أن المظاهر الخارجية تنتمي إلى العصر، وهنا يكمن لب المفارقة العربية. هذه المفارقة هي المسؤولة إلى حد كبير عن التخبط الذي يعانيه الفرد والجماعة، والدولة والمجتمع في عالم العرب، وفي الداخل والخارج على السواء، في تعامله مع ذاته ومع الآخر، وعن عنق الزجاجة التي ما برح العرب يجدون أنفسهم فيها، منذ أن اقتحمتهم الحداثة، وحتى اليوم الذي غادرتهم فيه غير آسفة، رغم استمرار كل مظاهرها الخارجية، كما في حكاية فريد وويلما. فالتقنية فلسفة تقف وراء الإنجاز قبل أن تكون إنجازاً، ولكن العربي يريد الإنجاز على أن يحتفظ بفلسفة ما قبل الإنجاز، فتحل السيارة محل الدابة، ولكن دون أن يتغير التعامل مع السيارة عن التعامل مع الدابة، وهذه مفارقة لا تستقيم. اليابان وغيرها من الأمم الحية لم تستطع أن تسهم في عمارة الأرض وحضارة الإنسان، إلا حين تبنت الإنجاز وفلسفته، ولذلك نجح الميجي في التجربة وسقط محمد علي، ونحن في حمى الدفاع عن هوية مفترضة غارقون. والسياسة الدولية المعاصرة نهج يقوم على فلسفة معينة، ومفاهيم معينة، ووسائل معينة في الأخذ والرد والاتفاق، ومن يريد أن يمارسها ويستفيد من مخرجاتها، عليه أن يتمثل الفلسفة، ويؤمن بالمفهوم، ويمارس الوسيلة. ولكن عرب العصر يريدون المخرجات دون تبني الفلسفات والمفاهيم، أو اتباع الوسائل. يريدون الاستفادة من مخرجات سياسة العصر، ولكن على أن تبقى فلسفة الأمس السياسية قائمة. يريدون عظمة أميركا وأوروبا ومعها اليابان، ولكن دون أن يتنازلوا عن فلسفة ابن مروان والرشيد وابن طولون، وهذا أمر لا يستقيم. يريدون في أعماقهم حلاً لقضية فلسطين مثلاً، ولكن دون التخلي عن وهم كل فلسطين. كيف يكون ذلك؟ لا أدري، فهي مفارقة لا حل لها. وفي الداخل، يريدون الاستفادة من التنظيم المعاصر في الإدارة وممارسة الحكم المعاصرة مثلاً، ولكنهم غير مستعدين لتبني الفلسفة السياسية التي تقف وراء مثل هذا التنظيم، أو التخلي ولو عن جزء يسير من الفلسفة السياسية والتنظيمية التي تقف وراء إخفاقات الأمس. كيف يكون ذلك؟ لا أدري، فكل شيء جائز في العقل العربي، السياسي منه وغير السياسي. يعلنون أنهم مع حقوق الإنسان، ولكن بشرط ألا يكون هناك إنسان، فعدم الإيمان بالفلسفة التي تقف وراء هذه الحقوق، هو نفي لذات الإنسان في النهاية. فالفلسفة المستقرة في أعماق العربي، إلا من رحم ربك، لا تعترف بمفهوم الإنسان ابتداءً، رغم ضرورة الاعتراف بالإنسان إن كنت تريد أن تكون من بشر هذا الزمان، وهنا تكمن المفارقة. مشكلة العربي التائه في هذا العصر، سواء في تعامله مع ذاته أو مع غيره في الداخل والخارج، إنما تكمن بشكل كبير في هذه المفارقة، والتي يمكن تسميتها بـ«مفارقة فلينغستون»، ودون حل لمثل هذه المفارقة، فإن العرب سيبقون في عنق زجاجة لا ترحم على الدوام، هذا على افتراض أنهم لن يكونوا من المختنقين في النهاية.
د/ تركي الحمد. الشرق الأوسط
_______________________________
للجميع فائق تحيّاتي.....
في كثيرٍ من الأحيان يكون هناك من أفلام الكرتون مايعكس حقيقة وضع هنا، أوهناك ولعل من بين الأفلام التي تبعث على التأمل وخاصة في الحالة العربية مسلسل (عائلة فلينغستون) الشهير مع فارق بسيط . هو أن (عائلة فلينغستون) الأصل تنـتمي إلى العصر الحجري في كل شئ عدا الذهن والسلوك. في حين أن ( عائلة فلينغستون)المعاصر ـ أعني العرب ـ ينتمون إلى العصر الحديث في كل شيء عدا الذهن والسلوك . أوبمعنى آخرفإن (عائلةفلينغستون) الأصل. لاتنتمي إلى العصر الحديث إلا من ناحية الذهن والسلوك أما مظاهرها الخارجية فتـنتمي إلى العصرالحجري، بعكس ( عائلة فلينغستون)المعاصر. التي لاتنتمي إلى هذا العصر إلا من ناحية المظاهر الخارجية بخلاف الذهن والسلوك فإنهمالاينتميان إلى هذا العصر .
باختصار شديد عرب اليوم يريدون الاستفادة من مخرجات سياسة العصرولكن دون أن يتنازلوا عن فلسفة ابن مروان والرشيد وابن طولون...
إلى التفصيل...................
______________________________________
حياتنا... فيلم كرتوني طويل
كنت، وما زلت، أستمتع بأفلام الكرتون على اختلاف أنواعها، ففي أفلام الكرتون ثلاث فوائد: معرفة ومتعة وحكمة في ذات الوقت، سواء كانت هذه نية صانعها أو غير ذلك. بل ان أفلام الكرتون في كثير من الأحيان مثل الأحلام، كل شيء فيها ممكن وجائز. فأفلام الكرتون في مثل هذه الحالة، تشكل نوعاً من انتفاء للقيود، وتحقق للحرية بلا حدود ولو في الخيال، وهذا شيء جيد بذاته، خاصة عندما يعيش المرء في عالم القيد فيه هو القاعدة وغيره من الشذوذ. من جهة أخرى، تشكل أفلام الكرتون رسالة معينة تحمل قيم ومثل المرسل بشكل مبطن، كي تستقر في الأذهان بسلاسة ودون مقاومة تذكر، وذلك مثل أفلام «سوبرمان» و«الوطواط» و«رابطة العدل» و«الرجل المطاط» و«العنكبوت»، بل وحتى أفلام «ميكي» و«بطوط» و«بندق» وغيرهم، ولكن هذا ليس موضوعنا هنا. ومن جهة أخرى، فإنه في كثير من الأحيان يكون هناك من هذه الأفلام ما يعكس حقيقة وضع هنا أو هناك، أو تناقضات وضع هنا أو هناك، رغم التناقض الظاهر بين الحقيقة واللامعقول، ولكن ما كل الأمور بظواهرها. فمثلاً، كان العراق في علاقاته مع دول الجوار قبل حرب الخليج الثانية، وما شابهه من دول في منطقتنا العربية، أشبه ما يكون بسلسلة أفلام «باباي»، حيث الصراع الدائم بين «بروتس» و«باباي» على «أوليف أويل»: كل يريدها لنفسه، دون ان يكون لأوليف أويل رأي فيما يجري حولها وبسببها، على افتراض أن أوليف أويل تمثل الأمة العربية. وفي علاقته ببقية العالم، وخاصة الولايات المتحدة، منذ حرب الخليج الثانية، أشبه ما يكون بسلسلة أفلام «توم وجيري»، حيث لا تنتهي المطاردة والمناكفة والمقالب بين القط توم والفأر جيري، حتى انتهى المسلسل أخيراً بحسم توم لأمره وابتلع جيري، ولكن المسلسل لم ينته رغم ذلك، فهنالك اليوم نسخ جديدة من جيري، ولا ندري متى ينتهي المسلسل نهائياً ودون عودة، وربما لن ينتهي أبداً، فلا الفأر سيتوقف عن إزعاجه للقط، ولا القط قادر على القبول بالسلام مع الفأر. وحتى لو انتهى الفأر، فلا بد للقط أن يجد فأراً آخر، أو حتى يصنع فأراً آخر، فحياته لا تستقيم دون فأر يضفي المعنى عليها، رغم إزعاجه وتحرشاته، وهذا ينطبق تمام الانطباق على كثير من الأمور في العلاقات الدولية، المعاصر منها والقديم. ومن هذه المسلسلات الكرتونية أيضاً، سلسلة أفلام الضبع والجواب، وهو ذاك الطائر الأميركي السريع الذي يجوب الطرق دون توقف. منذ بداية كل أفلام هذا الكرتون وحتى نهايته، يكون من الواضح أن الضبع لن يستطيع الإمساك بالطائر مهما فعل، ولكنه لا يكف عن المحاولة، ويستمر المسلسل بهذه الطريقة. فيلم كرتون نعم، ولكن فيه من الدروس السياسية وغير السياسية الشيء الكثير، سواء في ملاحقة المستحيل كما قد يُفسر، أو العزم وعدم التوقف عن المحاولة، أو في أن للأشياء طبيعة لا يمكن تجاوزها، أو حتى في عبثية السياسة ذاتها في لحظة من اللحظات، أو طبيعة الحياة من حيث أن هناك أموراً لا تحددها الإرادة بقدر ما هي نوع من سيناريو غير مرئي للأحداث، يظن معه المشارك في الفيلم أن له إرادة مستقلة، ولكن الحقيقة كلها في يد كاتب السيناريو. ولكن من بين أهم أفلام الكرتون التي تبعث على التأمل، وخاصة في حالة مثل الحالة العربية، مسلسل «عائلة فلينغستون» الشهير. في هذه المسلسل، يعيش «فريد فلنغستون» وزوجته «ويلما»، وصديقه «بارني» وزوجته «بيتي»، في مدينة تنتمي إلى العصر الحجري في كل تفصيل من تفاصيلها، كل شيء من حجر، وكل شيء بحجر. ولكن الفرق بين العصر الحجري الحقيقي وهذا العصر الحجري المفترض أو المتخيل، هو أن تقنية اليوم والعقلية الثقافية الأميركية الحديثة، هي السائدة رغم عري الأقدام وحضارة الحجر. كل شيء مصنوع من الحجر: السيارات، المصانع والأدوات التي تعمل بطاقة الحيوانات، وأشياء أخرى كثيرة لا تجدها إلا في العصر الحديث، ولكنها موجودة في تلك المدينة الحجرية. الناس يعيشون في العصر الحجري، ولكنهم يتمتعون بالتقنية الحديثة، ويفكرون بعقلية حديثة، وينظمون حياتهم وفق معايير حديثة. إنها نوع من المفارقة، أو «البارادوكس»، حيث يكون الشيء ونقيضه في ذات الوقت. قد يبدو مثل هذا الوضع غير حقيقي، بل هو تهويمات جامحة لخيال مؤلف يسعى إلى فانتازيا مغرقة في عبثيتها أو لا معقوليتها، مثلها في ذلك مثل قول توفيق الحكيم في أحد مسرحياته: «يا طالع الشجرة، هات لي معاك بقرة، تحلب وتسقيني، بالمعلقة الصيني». ولكن لو دققنا في الأمر أكثر، لوجدنا أن مثل هذه المفارقة الباعثة على الضحك، أو هذا العبث واللامعقول الذي ليس له أن يكون معقولاً، يعيش بيننا ونعيش فيه إلى حد كبير، وإن كان بطريقة معكوسة. فعالم العرب اليوم يمكن أن يُطلق عليه اسم «عالم فلينغستون» إلى حد كبير، مع تفاوت بسيط في الدرجة ربما، بين مجتمع عربي وآخر، ولكن الجميع في ذات العالم يعيشون. عالم فلينغستون الأصلي ينتمي إلى العصر الحجري في كل شيء، عدا الذهن والسلوك. أما عالم فلينغستون المعاصر، أي عالم العرب، فإنه على العكس من ذلك، ينتمي إلى العصر الحديث بكل أبعاده في كل شيء، باستثناء الذهن والسلوك. «فريد» و«ويلما» و«بارني» و«بيتي» في عالم فلينغستون المعاصر، يتعاطون مع الإنترنت ووسائل الإعلام الحديثة، ويلبسون أحدث ما تدفعه دور الأزياء العالمية من صيحات، ويركبون السيارة والطائرة، ويستوردون أحدث منجزات التقنية، ويأكلون «الهامبورغر» و«الرافيولي» و«الأيسكريم»، ويجادلون في الحداثة وما بعد الحداثة، ويفندون أفكار ماركس ونيتشه وفوكو، ولكن كل ذلك يبقى مظهراً خارجياً لا علاقة له بما يعتمل في تجاويف الذهن الحقيقي الكامن من تفاعلات. الذهن هنا يبقى بمعزل عن كل هذه المظاهر الخارجية، بمثل ما أن المظاهر الخارجية تبقى بمعزل عن الذهن في حكاية فلينغستون الأصلية. فإذا كانت المظاهر الخارجية في الحكاية الأصلية تنتمي إلى عصر غير العصر، رغم أن الذهن والسلوك ينتميان إلى العصر، فإن الذهن في الحكاية اللاحقة ينتمي إلى عصر غير العصر، رغم أن المظاهر الخارجية تنتمي إلى العصر، وهنا يكمن لب المفارقة العربية. هذه المفارقة هي المسؤولة إلى حد كبير عن التخبط الذي يعانيه الفرد والجماعة، والدولة والمجتمع في عالم العرب، وفي الداخل والخارج على السواء، في تعامله مع ذاته ومع الآخر، وعن عنق الزجاجة التي ما برح العرب يجدون أنفسهم فيها، منذ أن اقتحمتهم الحداثة، وحتى اليوم الذي غادرتهم فيه غير آسفة، رغم استمرار كل مظاهرها الخارجية، كما في حكاية فريد وويلما. فالتقنية فلسفة تقف وراء الإنجاز قبل أن تكون إنجازاً، ولكن العربي يريد الإنجاز على أن يحتفظ بفلسفة ما قبل الإنجاز، فتحل السيارة محل الدابة، ولكن دون أن يتغير التعامل مع السيارة عن التعامل مع الدابة، وهذه مفارقة لا تستقيم. اليابان وغيرها من الأمم الحية لم تستطع أن تسهم في عمارة الأرض وحضارة الإنسان، إلا حين تبنت الإنجاز وفلسفته، ولذلك نجح الميجي في التجربة وسقط محمد علي، ونحن في حمى الدفاع عن هوية مفترضة غارقون. والسياسة الدولية المعاصرة نهج يقوم على فلسفة معينة، ومفاهيم معينة، ووسائل معينة في الأخذ والرد والاتفاق، ومن يريد أن يمارسها ويستفيد من مخرجاتها، عليه أن يتمثل الفلسفة، ويؤمن بالمفهوم، ويمارس الوسيلة. ولكن عرب العصر يريدون المخرجات دون تبني الفلسفات والمفاهيم، أو اتباع الوسائل. يريدون الاستفادة من مخرجات سياسة العصر، ولكن على أن تبقى فلسفة الأمس السياسية قائمة. يريدون عظمة أميركا وأوروبا ومعها اليابان، ولكن دون أن يتنازلوا عن فلسفة ابن مروان والرشيد وابن طولون، وهذا أمر لا يستقيم. يريدون في أعماقهم حلاً لقضية فلسطين مثلاً، ولكن دون التخلي عن وهم كل فلسطين. كيف يكون ذلك؟ لا أدري، فهي مفارقة لا حل لها. وفي الداخل، يريدون الاستفادة من التنظيم المعاصر في الإدارة وممارسة الحكم المعاصرة مثلاً، ولكنهم غير مستعدين لتبني الفلسفة السياسية التي تقف وراء مثل هذا التنظيم، أو التخلي ولو عن جزء يسير من الفلسفة السياسية والتنظيمية التي تقف وراء إخفاقات الأمس. كيف يكون ذلك؟ لا أدري، فكل شيء جائز في العقل العربي، السياسي منه وغير السياسي. يعلنون أنهم مع حقوق الإنسان، ولكن بشرط ألا يكون هناك إنسان، فعدم الإيمان بالفلسفة التي تقف وراء هذه الحقوق، هو نفي لذات الإنسان في النهاية. فالفلسفة المستقرة في أعماق العربي، إلا من رحم ربك، لا تعترف بمفهوم الإنسان ابتداءً، رغم ضرورة الاعتراف بالإنسان إن كنت تريد أن تكون من بشر هذا الزمان، وهنا تكمن المفارقة. مشكلة العربي التائه في هذا العصر، سواء في تعامله مع ذاته أو مع غيره في الداخل والخارج، إنما تكمن بشكل كبير في هذه المفارقة، والتي يمكن تسميتها بـ«مفارقة فلينغستون»، ودون حل لمثل هذه المفارقة، فإن العرب سيبقون في عنق زجاجة لا ترحم على الدوام، هذا على افتراض أنهم لن يكونوا من المختنقين في النهاية.
د/ تركي الحمد. الشرق الأوسط
_______________________________
للجميع فائق تحيّاتي.....