رسمي
04-11-12, 01:49 pm
حكاية حب لا أملّها لما فيها من عبر
صاحب القصة هو بشر العابد الذي كان مثل حمامة المسجد لا يبرحه ولا يكف عن العبادة.
و هي هند بنت فهد التي كانت متزوجة من تاجر موسر الحال بالمدينة المنورة و من هنا تكمن المشكلة
إذاً بشر شاب لم يتزوج بعد ومن رواد المساجد
وهند إمرأة ذات بعل
اللقاء الأول
جلست هند تنظر من نافذة بيتها
وإذ بها تلحظ بشر الشاب الحسن العابد يتفجر الضياء من وجهه ذاهبا للمسجد.
ولم تكد تقع عيناها عليه حتى خفق قلبها وأظلمت الدنيا حولها .
ولم يعد بصيص ضوء إلا وجه بشر.
الذي لم يغب عن خاطرها لحظه،
وأحست أنها أسيرة هواه ،
فلم يعد لها بالبيت مكان في إلا النافذة
التي تطل منها عليه عند مسيره إلى المسجد وعودته منه
ولأنها متزوجة حاولت كتمان ما يعتمد في صدرها ولن تستطع البوح به
إلا بتغنيها بهذه الأبيات :
أهواك يا بشر دون الناس كلهم
وغيرك يهواني فيمنعه صدي
تمر ببابي لست تعرف الذي
أكابد من شوقي إليك ومن بعدي
فياليتني ارض وأنت أمامها
تدوس بنعليك الكرام على خدي
وياليتني نعلا أقيك من ألحفا
وياليتني ثوبا أقيك من البرد
تبات خلى البال من ألم الجوى
وقلبي كواه الحب من شدة الوجد
وأنك إن قصرت عني ولم تزر
فلابد بعد الصد أدفن في لحدي
ولكن كتمانها وتغنيها بهوى بشر لم يطفئ جواها ،
بل زاده اشتعالا وبرح بها واستنفد ما بقي عندها من صبر وكان لابد من البوح.
ولكن لمن؟
وبعد تقليب أمرها استقر رأيها أن تأخذ العهد على جاريتها أن تكتم أمرها،
وان تخبر بشرا بأمرها فأقسمت الجارية .
ولما استوثقت من صدقها كتبت ما يعتلج في نفسها في كتاب وأرسلته معها إلى بشر،
فلما قرأه ووقف على النار المشتعلة في صدرها
سال الجارية: هل هي بكر ؟
فقالت :إن لها زوجا بالمدينة.
فكأنما ألقت على رأسه صخرة ترنح بسببها لحظه،ثم تماسك وزفر:
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم كتب في الكتاب هذه الأبيات:
عليك بتقوى الله لا تقربي الزنا
ولا تطلبي الفحشاء فذلك مفسد
واستغفري مما هممـــت بفعله،
نهى الله عــــــنه والنبي محمد
أما تذكري يوم الحساب وهوله
وما للفتى مــال ولا شئ يفتدي
وان تطلبي قربي فبــعدي أجود
فخافي عقاب الله والتمسي الهدي
وما أن قرأت هند كلام بشر حتى اشتعلت جذوة الحب داخلها أكثر وأكثر ،
وسالت دموعها،
ونسيت نصائحه المذكورة بالله ،
وكتبت ما تحس به إليه وهو:
أما تخشى الإلــــــــــه فأنني لفي
حسرة من لوعـــــــتي وتسهدي
فأن زرتني يا بشر أحييت مهجتي
وربي غفور بالعطــايا باسط اليد
وعادت جاريتها إلى بشر،وفي وجهها استعطاف مما ترى من حال سيدتها،
لكن ذلك لم يزده إلا عفة وتذكرا لله فكتب لها:
أيا هند هذا لا يلـــــــــــــيق بمســـــــلم
ومسلمة في عصمة الزوج فأبعـــــــدي
أما تعلمي إن الســـــــــــــــــفاح محرم
،فحولي عن الفحشاء والعيب وأرشدي
بهــــــــــــذا نهى النبــــــــــــي محمد
،فتوبي إلى مــــولاك يا هند وارشدي
فلما وصلتها هذه الأبيات التي لم تخرج عن دائرة العفة وتقوى الله،
كتبت رسالة فيها استعطاف وشكوى وألم تذيب قلب الصخر
أمرت بتقوى الله والصــــبر والتقى
فكيف وما لي من سبيل إلى الصبر
وهل تستطيع الصبر حـرى حزينة
معذبة بالحب موقـــــــــرة الظهر
والله ما أدعــــــــوك يا حب للذي
تظن ولكن للــــــــحديث وللشعر
وكي نتـــــــــــــــداوى ما تراكـــد داؤه
من الشوق والحب الذي لك في صدري
ولست فدتك النفـــــــــس أبغيك محرما
وما ذاك من شـأني ولا ذاك من أمري
وما حاجتي إلا الحــــــــــديث ومجلس
يسكن دمعا قد يســـــــــيل على النحر
،لكنها لم تزحزح قلب بشر عن العفاف والخوف من الله قيد شعرة،وظل متمسكا بعلاقته بربه
وكتب لها:
ان الذي منـــــــع الزيارة فأعلمي
خوف الفساد علـــــيك ألا تعتدي
وأخاف أن يهواك قلبي في الهوى
فأكون قــــــــد خالفت دين محمد
فالصبر خير وســـــــــيلة لتشفىي
والى الإله فسارعي وتــــــعبدي
وكانت تلك الرسالة بمثابة الطعنة في قلبها،
فلم تكن تتوقعها بعدما أفرغت كل مكنون في رسالتها أليه لذا لم تحتمل فسقطت مريضه وساءت حالتها ،
وهي تمني النفس بأن تستميل بشر،ولكنها لم تستطع الصبر
فكتبت تقول له:
أيا بشر ما أقسى فؤادك في الهوى
ما هكذا الحب في مذهـــب الإسلام
إني بليت وقد تجافــــــــاني الصفا
فارحم خضوعي ثــــــم زد بسلام
ضاقت قراطيس الــــــتراسل بيننا
،وجف المداد وحفيـــــــت الأقلام
رغم ذلك التذلل والاستعطاف من هند فان بشرا لما قرأ رسالتها لم يلن قلبه ،
واعتبر أن أي ميل حرام مخالف لشريعة الإسلام،ومهما صنعت فلن يخالف دينه،
لذا كتب لها :
لا والذي رفـــــــع السماء بأمره
ودحي بساط الأرض باستحكام
و هو الذي بعث النـــــبي محمد
بشريعة الإيمـــــــان والإسلام
لم اعص ربي في هواك وأنني
،لمطهر من سائــر الآثام
وطار عقل هند عندما قرأت الرسالة ،وسقطت مغشيا عليها،
وعندما أفاقت جمعت غيظها في أبيات تدعو فيها على بشر أن يناله من الهوى
ما نالها،
ولا يغيث لهفته من يحب وكتبتها :
أدعوك رب كما صبرتني شجنا
أن يبتليك بهول من لا يوافيك
وتشتكي محنة في الحب نازلة
وتطلب الماء ممن ليس يسقيك
بلاك ربي بأمراض مسلسلة
،وبامتناع طبيب لا يداويك
ولا سرورا ولا يوم ترى فرحا ،
،وكل ضر من الرحمن يبتليك
وبكت بكاء حارا ودفعت بالأبيات إلى جاريتها ،وطلبت منها أن تعود بالرد
فلما قرأه بشر تملكه الغيظ من دعائها عليه وكتب يرد عليها:
يا خالق الخلق أني لست أعصيك
أبات ارعي النجوم الليل ادعوك
فأرحم دموع ذليل بات مبتهلا
،ولا تخييب رجا من بات يدعوك
ويجني من هوى هند وما صنعت
،يا من لكشف كروب الناس يدعوك
ثم طوي الرسالة ونهر الجارية ،
وهددها إن عادت إليه برسائل أن يضربها ويخبر سيدها.
فكتبت تقول له
لا تطردن رسولي وارثين له
إن الرسول قليل الذنب مأمور
واعلم باني أبيت الليل ساهرة
ودمع عيني على خدي محدور
أما بشر فقد خاف على نفسه من الفضيحة فارتحل إلى بطحاء تراب ليلاً. ووقفت
جارية هند على أمره فأعلمت سيدتها، فاشتد عليها ذلك ومرضت مرضاً شديداً
فبعث زوجها إلى الأطباء فقالت له:
"لا تبعث إليّ طبيباً فإني عرفت دائي، قهرني جني في مغتسلي فقال لي: تحولي
عن هذه الدار فليس لك في جوارنا خير".
فأجابها الزوج: ما أهون هذا فقالت: إني رأيت في منامي أن أسكن بطحاء تراب
فقال: "اسكني بنا حيث شئت".
فاتخذت هناك داراً على طريق بشر وجعلت تمضي الأيام في النظر إليه كل غداة
إذا غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برئت من مرضها وعادت إلى حسنها، فقال لها
زوجها: "إني لأرجو أن يكون لك عند الله خير لما رأيت في منامك أن أسكني
بطحاء تراب فاكثري من الدعاء".
وكانت مع هند في الدار عجوز فأفشت إليها أمرها وشكت إليها ما أبتليت به
وأخبرتها أنها خائفة أن يعلم بشر بمكانها فيترك الممر ويأخذ طريقاً آخر
فقالت لها العجوز: لا تخافي فإني أعلم لك أمر الفتى كله وإن شئت أقعدتك معه
ولا يشعر بمكانك فقالت "ليت ذاك قد كان. ولما همّت العجوز بالإنصراف قالت
لها هند:
ساعديني واكشفي عني الكروب
ثم نوحي عند نوحي ياجنوبْ
واندبي حظي ونوحي علناً
إن حاليَ بَعْده شيءٌ غريبْ
ما رأت مثلي زليخا يوسفٍ
لا ولا يعقوب بالحزنِ العجيبْ
فقعدت العجوز على باب الدار حتى أقبل بشر فسألته أن يكتب لها رسالة إلى
إبنها في العراق فقعد وراحت تملي عليه وهند تسمع كلامهما. فلما فرغ قالت
العجوز لبشر: يا فتى، إني أراك مسحوراً فقال لها: ما أعلمك بذلك؟ فأجابته:
ما قلت لك إلا وأنا متيقنة فانصرف عني اليوم حتى أنظر في أمرك.
ثم دخلت إلى هند وبشّرتها قائلة: إني أراه فتى حدثاً ولا عهد له بالنساء
ومتى ما أتى وزيّنتك وطيّبتك وأدخلتك عليه غلبت شهوته وهواه دينه.
وفي مرة كانت قدإاتفقت فيها مع هند، دعته لتنظر له نجمه فأدخلته إليها
وأغلقت الباب عليهما فلم يشعر إلاّ والباب أقفل ووقفت أمامه حسناء كأنها
البدر وقد إرتمت عليه وأخذته إليها وهي تقول:
يا بشر واصلني وكنْ بي لطيفاً
إني رأيتك بالكمالِ ظريفا
وانظر إلى جسمي وما قد حلّ بي
فتراه صار من الغرام نحيفا
فلما رأها راعه جمالها وعلم ببراعته أنها هند التي هجر مقره من أجلها
فتباعد عنها متعطفاً وأنشد متلطفاً:
ليس المليحُ بكاملٍ في حسنهِ
حتى يكونُ عن الحرامِ عفيفَا
فإذا تجنب عن معاصي ربه
فهنالك يدعى عاشقا وظريفا
فجاء زوج هند في غير عادته في كل يوم فوجد مع إمرأته رجلاً في البيت فطلقها
ولبب الفتى أي طوقه وجره وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فكبى بشر أمام الرسول وحلف بأنه ما كذبه منذ صدقه وما كفر بالله منذ آمن به
وقص على النبي صلى الله عليه وسلم قصته. فبعث النبي إلى العجوز وهند فأقرتا بين يديه فقال:
"الحمد لله الذي جعل من أمتي نظير يوسف الصديق". فأدب العجوز وأعاد هند إلى
منزلها.
بعد هذه الحادثة هاج بشر بحب هند وإنتظر إنتهاء عدتها ليخطبها، لكن هند
رفضت أن تتزوجه بعد أن فضحها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءها رسول من أهله يعلمها
بأنه طريح الفراش وقد يموت إن هي لم ترض به فقالت: أماته الله فطالما
أمرضني فكتب إليها يقول:
أرى القلب بعد الصبر أضحى مضيّعا
وأبقيت مالي في هواك مضيّعا
فلا تبخلي يا هندُ بالوصل وارحمي
أسير هوى بالحبِ صارَ مَضْيّعَا
فلما وصلتها الأبيات كتبت تحتها تقول:
أتطلب يا غدَّار وصلي بعدما
أسأت ووصلي منك أضحى مضيّعَا
ولما رجوتُ الوصلَ منك قطعته
وأسقيتني كأساً من الحزن مُتْرَعا
واخجلتني عند النبي محمد
فكادت عيوني أن تسيل وتطلعا
وزادت هذه الأبيات من لوعته وأضرمت نيران الحب في قلبه فكتب إليها:
سلام الله من بعد البعاد
على الشمس المنيرةِ في البلادِ
سلام الله يا هندُ عليك
ورحمته إلى ييومِ التنادي
وحقِّ الله لا ينساك قلبي
إلى يوم القيامةِ يا مرادي
فرقّي وارحمي مضنى كَئيباً
فبشر صار ملقى في الوسادِ
فداوي سقمه بالقرب يوماً
فقلبي ذابَ من ألم البعادِ
لكن جرحها كان أكبر من أن تبلسمه الكلمات وفضيحتها كانت أوسع من أن تحصرها
الزفرات فردت عليه تقول:
سلامُ الله من شمسِ البلادِ
على الصبَّ الموسد في المهادِ
فإن ترجُ الوصال وتشتهيه
فأنت من الوصالِ على بعادِ
فلست بنائلٍ منّي وصالاً
ولا يدنو بياضك من سوادي
ولا تبلغ مرادك من وصالي
إلى يوم القيامةِ والتنادي
فلما وصل إليه الكتاب إمتنع عن الطعام والشراب حتى إشتدت علّته وكانت له
أخت تواسيه فطلب منها أن تأتيه بهند. فلما علمت هند بأنه على آخر رمق من
الحياة سارت معها إليه فوجدته يقول:
إلهي إني قد بُليت من الهوى
وأصبحتُ ياذا العرش في أشغل الشغلِ
أكابد نفساً قد تولّى بها الهوى
وقد ملّ إخواني وقد ملّني أهلي
وقد أيقنتْ نفسي بأني هالكٌ
بهندٍ وأني قد وهبتُ لها قتلي
وأني وإن كانت إلي مُسيئة
يشقُّ عليَّ أن تعذّب من أجلي
فبكت هند وبكى معها كل من كان حاضراً وأنشدت:
أيا بشر حالك قد فنى جسدي
وألهب النار في جسمي وفي كبدي
وفاض دمعي على الخدين منسكباً
وخانني الدهر فيكم وانقضى رشدي
ما كان قصدي بهذا الحال أنظركم
لا والذي خلقَ الإنسانَ من كمدِ
فما سمع كلامها أوما إليها وأنشد:
أيا هند إذا مرّت عليك جنازتي
فنوحي بحزنٍ ثم في النوح رنّمي
وقولي إذا مرّت عليك جنازتي
وشيري بعينيك عليَّ وسلّمي
وقولي رعاكَ اللهُ يا ميَّّتَ الهوى
وأسكنكَ الفردوسَ إن كنتَ مسلم
ثم شهق شهقة وفارقت روحه الدنيا فلما رأته إرتمت عليه وأنشدت:
أيا عينُ نوحي على بشر بتغرير
ألا ترويه من دمعي بتقديرِ
يا عينُ أبكي من بعد الدموعِ دماً
لأنه كان في الطاعات محبورِ
لفقدِ بشرٍ بكيتُ اليومَ من كمدٍ
لا خير في عيشةٍ تأتي بتكديرِ
ألقاك ربك في الجناتِ في غُرَفٍ
تلقى النعيم بها بالخير موفورِ
وعندما توفت هند دفت بجانب قبر بشر
صاحب القصة هو بشر العابد الذي كان مثل حمامة المسجد لا يبرحه ولا يكف عن العبادة.
و هي هند بنت فهد التي كانت متزوجة من تاجر موسر الحال بالمدينة المنورة و من هنا تكمن المشكلة
إذاً بشر شاب لم يتزوج بعد ومن رواد المساجد
وهند إمرأة ذات بعل
اللقاء الأول
جلست هند تنظر من نافذة بيتها
وإذ بها تلحظ بشر الشاب الحسن العابد يتفجر الضياء من وجهه ذاهبا للمسجد.
ولم تكد تقع عيناها عليه حتى خفق قلبها وأظلمت الدنيا حولها .
ولم يعد بصيص ضوء إلا وجه بشر.
الذي لم يغب عن خاطرها لحظه،
وأحست أنها أسيرة هواه ،
فلم يعد لها بالبيت مكان في إلا النافذة
التي تطل منها عليه عند مسيره إلى المسجد وعودته منه
ولأنها متزوجة حاولت كتمان ما يعتمد في صدرها ولن تستطع البوح به
إلا بتغنيها بهذه الأبيات :
أهواك يا بشر دون الناس كلهم
وغيرك يهواني فيمنعه صدي
تمر ببابي لست تعرف الذي
أكابد من شوقي إليك ومن بعدي
فياليتني ارض وأنت أمامها
تدوس بنعليك الكرام على خدي
وياليتني نعلا أقيك من ألحفا
وياليتني ثوبا أقيك من البرد
تبات خلى البال من ألم الجوى
وقلبي كواه الحب من شدة الوجد
وأنك إن قصرت عني ولم تزر
فلابد بعد الصد أدفن في لحدي
ولكن كتمانها وتغنيها بهوى بشر لم يطفئ جواها ،
بل زاده اشتعالا وبرح بها واستنفد ما بقي عندها من صبر وكان لابد من البوح.
ولكن لمن؟
وبعد تقليب أمرها استقر رأيها أن تأخذ العهد على جاريتها أن تكتم أمرها،
وان تخبر بشرا بأمرها فأقسمت الجارية .
ولما استوثقت من صدقها كتبت ما يعتلج في نفسها في كتاب وأرسلته معها إلى بشر،
فلما قرأه ووقف على النار المشتعلة في صدرها
سال الجارية: هل هي بكر ؟
فقالت :إن لها زوجا بالمدينة.
فكأنما ألقت على رأسه صخرة ترنح بسببها لحظه،ثم تماسك وزفر:
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم كتب في الكتاب هذه الأبيات:
عليك بتقوى الله لا تقربي الزنا
ولا تطلبي الفحشاء فذلك مفسد
واستغفري مما هممـــت بفعله،
نهى الله عــــــنه والنبي محمد
أما تذكري يوم الحساب وهوله
وما للفتى مــال ولا شئ يفتدي
وان تطلبي قربي فبــعدي أجود
فخافي عقاب الله والتمسي الهدي
وما أن قرأت هند كلام بشر حتى اشتعلت جذوة الحب داخلها أكثر وأكثر ،
وسالت دموعها،
ونسيت نصائحه المذكورة بالله ،
وكتبت ما تحس به إليه وهو:
أما تخشى الإلــــــــــه فأنني لفي
حسرة من لوعـــــــتي وتسهدي
فأن زرتني يا بشر أحييت مهجتي
وربي غفور بالعطــايا باسط اليد
وعادت جاريتها إلى بشر،وفي وجهها استعطاف مما ترى من حال سيدتها،
لكن ذلك لم يزده إلا عفة وتذكرا لله فكتب لها:
أيا هند هذا لا يلـــــــــــــيق بمســـــــلم
ومسلمة في عصمة الزوج فأبعـــــــدي
أما تعلمي إن الســـــــــــــــــفاح محرم
،فحولي عن الفحشاء والعيب وأرشدي
بهــــــــــــذا نهى النبــــــــــــي محمد
،فتوبي إلى مــــولاك يا هند وارشدي
فلما وصلتها هذه الأبيات التي لم تخرج عن دائرة العفة وتقوى الله،
كتبت رسالة فيها استعطاف وشكوى وألم تذيب قلب الصخر
أمرت بتقوى الله والصــــبر والتقى
فكيف وما لي من سبيل إلى الصبر
وهل تستطيع الصبر حـرى حزينة
معذبة بالحب موقـــــــــرة الظهر
والله ما أدعــــــــوك يا حب للذي
تظن ولكن للــــــــحديث وللشعر
وكي نتـــــــــــــــداوى ما تراكـــد داؤه
من الشوق والحب الذي لك في صدري
ولست فدتك النفـــــــــس أبغيك محرما
وما ذاك من شـأني ولا ذاك من أمري
وما حاجتي إلا الحــــــــــديث ومجلس
يسكن دمعا قد يســـــــــيل على النحر
،لكنها لم تزحزح قلب بشر عن العفاف والخوف من الله قيد شعرة،وظل متمسكا بعلاقته بربه
وكتب لها:
ان الذي منـــــــع الزيارة فأعلمي
خوف الفساد علـــــيك ألا تعتدي
وأخاف أن يهواك قلبي في الهوى
فأكون قــــــــد خالفت دين محمد
فالصبر خير وســـــــــيلة لتشفىي
والى الإله فسارعي وتــــــعبدي
وكانت تلك الرسالة بمثابة الطعنة في قلبها،
فلم تكن تتوقعها بعدما أفرغت كل مكنون في رسالتها أليه لذا لم تحتمل فسقطت مريضه وساءت حالتها ،
وهي تمني النفس بأن تستميل بشر،ولكنها لم تستطع الصبر
فكتبت تقول له:
أيا بشر ما أقسى فؤادك في الهوى
ما هكذا الحب في مذهـــب الإسلام
إني بليت وقد تجافــــــــاني الصفا
فارحم خضوعي ثــــــم زد بسلام
ضاقت قراطيس الــــــتراسل بيننا
،وجف المداد وحفيـــــــت الأقلام
رغم ذلك التذلل والاستعطاف من هند فان بشرا لما قرأ رسالتها لم يلن قلبه ،
واعتبر أن أي ميل حرام مخالف لشريعة الإسلام،ومهما صنعت فلن يخالف دينه،
لذا كتب لها :
لا والذي رفـــــــع السماء بأمره
ودحي بساط الأرض باستحكام
و هو الذي بعث النـــــبي محمد
بشريعة الإيمـــــــان والإسلام
لم اعص ربي في هواك وأنني
،لمطهر من سائــر الآثام
وطار عقل هند عندما قرأت الرسالة ،وسقطت مغشيا عليها،
وعندما أفاقت جمعت غيظها في أبيات تدعو فيها على بشر أن يناله من الهوى
ما نالها،
ولا يغيث لهفته من يحب وكتبتها :
أدعوك رب كما صبرتني شجنا
أن يبتليك بهول من لا يوافيك
وتشتكي محنة في الحب نازلة
وتطلب الماء ممن ليس يسقيك
بلاك ربي بأمراض مسلسلة
،وبامتناع طبيب لا يداويك
ولا سرورا ولا يوم ترى فرحا ،
،وكل ضر من الرحمن يبتليك
وبكت بكاء حارا ودفعت بالأبيات إلى جاريتها ،وطلبت منها أن تعود بالرد
فلما قرأه بشر تملكه الغيظ من دعائها عليه وكتب يرد عليها:
يا خالق الخلق أني لست أعصيك
أبات ارعي النجوم الليل ادعوك
فأرحم دموع ذليل بات مبتهلا
،ولا تخييب رجا من بات يدعوك
ويجني من هوى هند وما صنعت
،يا من لكشف كروب الناس يدعوك
ثم طوي الرسالة ونهر الجارية ،
وهددها إن عادت إليه برسائل أن يضربها ويخبر سيدها.
فكتبت تقول له
لا تطردن رسولي وارثين له
إن الرسول قليل الذنب مأمور
واعلم باني أبيت الليل ساهرة
ودمع عيني على خدي محدور
أما بشر فقد خاف على نفسه من الفضيحة فارتحل إلى بطحاء تراب ليلاً. ووقفت
جارية هند على أمره فأعلمت سيدتها، فاشتد عليها ذلك ومرضت مرضاً شديداً
فبعث زوجها إلى الأطباء فقالت له:
"لا تبعث إليّ طبيباً فإني عرفت دائي، قهرني جني في مغتسلي فقال لي: تحولي
عن هذه الدار فليس لك في جوارنا خير".
فأجابها الزوج: ما أهون هذا فقالت: إني رأيت في منامي أن أسكن بطحاء تراب
فقال: "اسكني بنا حيث شئت".
فاتخذت هناك داراً على طريق بشر وجعلت تمضي الأيام في النظر إليه كل غداة
إذا غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برئت من مرضها وعادت إلى حسنها، فقال لها
زوجها: "إني لأرجو أن يكون لك عند الله خير لما رأيت في منامك أن أسكني
بطحاء تراب فاكثري من الدعاء".
وكانت مع هند في الدار عجوز فأفشت إليها أمرها وشكت إليها ما أبتليت به
وأخبرتها أنها خائفة أن يعلم بشر بمكانها فيترك الممر ويأخذ طريقاً آخر
فقالت لها العجوز: لا تخافي فإني أعلم لك أمر الفتى كله وإن شئت أقعدتك معه
ولا يشعر بمكانك فقالت "ليت ذاك قد كان. ولما همّت العجوز بالإنصراف قالت
لها هند:
ساعديني واكشفي عني الكروب
ثم نوحي عند نوحي ياجنوبْ
واندبي حظي ونوحي علناً
إن حاليَ بَعْده شيءٌ غريبْ
ما رأت مثلي زليخا يوسفٍ
لا ولا يعقوب بالحزنِ العجيبْ
فقعدت العجوز على باب الدار حتى أقبل بشر فسألته أن يكتب لها رسالة إلى
إبنها في العراق فقعد وراحت تملي عليه وهند تسمع كلامهما. فلما فرغ قالت
العجوز لبشر: يا فتى، إني أراك مسحوراً فقال لها: ما أعلمك بذلك؟ فأجابته:
ما قلت لك إلا وأنا متيقنة فانصرف عني اليوم حتى أنظر في أمرك.
ثم دخلت إلى هند وبشّرتها قائلة: إني أراه فتى حدثاً ولا عهد له بالنساء
ومتى ما أتى وزيّنتك وطيّبتك وأدخلتك عليه غلبت شهوته وهواه دينه.
وفي مرة كانت قدإاتفقت فيها مع هند، دعته لتنظر له نجمه فأدخلته إليها
وأغلقت الباب عليهما فلم يشعر إلاّ والباب أقفل ووقفت أمامه حسناء كأنها
البدر وقد إرتمت عليه وأخذته إليها وهي تقول:
يا بشر واصلني وكنْ بي لطيفاً
إني رأيتك بالكمالِ ظريفا
وانظر إلى جسمي وما قد حلّ بي
فتراه صار من الغرام نحيفا
فلما رأها راعه جمالها وعلم ببراعته أنها هند التي هجر مقره من أجلها
فتباعد عنها متعطفاً وأنشد متلطفاً:
ليس المليحُ بكاملٍ في حسنهِ
حتى يكونُ عن الحرامِ عفيفَا
فإذا تجنب عن معاصي ربه
فهنالك يدعى عاشقا وظريفا
فجاء زوج هند في غير عادته في كل يوم فوجد مع إمرأته رجلاً في البيت فطلقها
ولبب الفتى أي طوقه وجره وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فكبى بشر أمام الرسول وحلف بأنه ما كذبه منذ صدقه وما كفر بالله منذ آمن به
وقص على النبي صلى الله عليه وسلم قصته. فبعث النبي إلى العجوز وهند فأقرتا بين يديه فقال:
"الحمد لله الذي جعل من أمتي نظير يوسف الصديق". فأدب العجوز وأعاد هند إلى
منزلها.
بعد هذه الحادثة هاج بشر بحب هند وإنتظر إنتهاء عدتها ليخطبها، لكن هند
رفضت أن تتزوجه بعد أن فضحها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءها رسول من أهله يعلمها
بأنه طريح الفراش وقد يموت إن هي لم ترض به فقالت: أماته الله فطالما
أمرضني فكتب إليها يقول:
أرى القلب بعد الصبر أضحى مضيّعا
وأبقيت مالي في هواك مضيّعا
فلا تبخلي يا هندُ بالوصل وارحمي
أسير هوى بالحبِ صارَ مَضْيّعَا
فلما وصلتها الأبيات كتبت تحتها تقول:
أتطلب يا غدَّار وصلي بعدما
أسأت ووصلي منك أضحى مضيّعَا
ولما رجوتُ الوصلَ منك قطعته
وأسقيتني كأساً من الحزن مُتْرَعا
واخجلتني عند النبي محمد
فكادت عيوني أن تسيل وتطلعا
وزادت هذه الأبيات من لوعته وأضرمت نيران الحب في قلبه فكتب إليها:
سلام الله من بعد البعاد
على الشمس المنيرةِ في البلادِ
سلام الله يا هندُ عليك
ورحمته إلى ييومِ التنادي
وحقِّ الله لا ينساك قلبي
إلى يوم القيامةِ يا مرادي
فرقّي وارحمي مضنى كَئيباً
فبشر صار ملقى في الوسادِ
فداوي سقمه بالقرب يوماً
فقلبي ذابَ من ألم البعادِ
لكن جرحها كان أكبر من أن تبلسمه الكلمات وفضيحتها كانت أوسع من أن تحصرها
الزفرات فردت عليه تقول:
سلامُ الله من شمسِ البلادِ
على الصبَّ الموسد في المهادِ
فإن ترجُ الوصال وتشتهيه
فأنت من الوصالِ على بعادِ
فلست بنائلٍ منّي وصالاً
ولا يدنو بياضك من سوادي
ولا تبلغ مرادك من وصالي
إلى يوم القيامةِ والتنادي
فلما وصل إليه الكتاب إمتنع عن الطعام والشراب حتى إشتدت علّته وكانت له
أخت تواسيه فطلب منها أن تأتيه بهند. فلما علمت هند بأنه على آخر رمق من
الحياة سارت معها إليه فوجدته يقول:
إلهي إني قد بُليت من الهوى
وأصبحتُ ياذا العرش في أشغل الشغلِ
أكابد نفساً قد تولّى بها الهوى
وقد ملّ إخواني وقد ملّني أهلي
وقد أيقنتْ نفسي بأني هالكٌ
بهندٍ وأني قد وهبتُ لها قتلي
وأني وإن كانت إلي مُسيئة
يشقُّ عليَّ أن تعذّب من أجلي
فبكت هند وبكى معها كل من كان حاضراً وأنشدت:
أيا بشر حالك قد فنى جسدي
وألهب النار في جسمي وفي كبدي
وفاض دمعي على الخدين منسكباً
وخانني الدهر فيكم وانقضى رشدي
ما كان قصدي بهذا الحال أنظركم
لا والذي خلقَ الإنسانَ من كمدِ
فما سمع كلامها أوما إليها وأنشد:
أيا هند إذا مرّت عليك جنازتي
فنوحي بحزنٍ ثم في النوح رنّمي
وقولي إذا مرّت عليك جنازتي
وشيري بعينيك عليَّ وسلّمي
وقولي رعاكَ اللهُ يا ميَّّتَ الهوى
وأسكنكَ الفردوسَ إن كنتَ مسلم
ثم شهق شهقة وفارقت روحه الدنيا فلما رأته إرتمت عليه وأنشدت:
أيا عينُ نوحي على بشر بتغرير
ألا ترويه من دمعي بتقديرِ
يا عينُ أبكي من بعد الدموعِ دماً
لأنه كان في الطاعات محبورِ
لفقدِ بشرٍ بكيتُ اليومَ من كمدٍ
لا خير في عيشةٍ تأتي بتكديرِ
ألقاك ربك في الجناتِ في غُرَفٍ
تلقى النعيم بها بالخير موفورِ
وعندما توفت هند دفت بجانب قبر بشر