عبدالعزيزالتويجـر
14-03-11, 09:54 pm
لقد آثرت أن أتكلم في هذه الخاطرة عن طفولتي والزمن الماضي :
لقد رأت عيناي النور أول ما رأته في ذلك البيت الطيني في أحد الأرياف من مدينة بريدة وقد عشت طفولةً مليئةً بالحب والسعادة والطهر والبراءة .
كنت في الصباح الباكر مع ضياء النور وشقشقة الطيور أخرج مع أترابي إلى المزارع المحيطة بقريتنا فنلهو ونسرح ونمرح بين النخيل ونرقب الطيور وهي تغادر أعشاشها بحثاً عن الرزق فإذا أشرقت الشمس وقد أنهكنا التعب من كثرة الجري والسير بين المزارع نذهب إلى الساقي وننهل منه ما يروي ظمأنا ثم نتفيأ ظل أحد النخيل ونجلس نرقب أصحاب المزارع الذين وضعوا مساحيهم على أكتافهم واتجهوا لمزارعهم فبعضهم قد أخذ (الكر) وبعضهم منكب على حصد البرسيم وقد سال الدم من يده بسبب سرعة حصده بالمنجل (المخلب) فإذا مللنا من هذه المناظر بدأنا المسير من جديد فنرى بعض الكبار قد ذهب إلى القنص فمنهم من معه بندقية ومنهم من معه (النبيطة) فنذهب معهم وكانت أعيننا الصغيرة كالرادار لهم فنخبرهم بمواقع الطيور وأماكن تواجدها فيصطادونها ثم نتسابق إلى أخذها وإتيان الكبار بها فيهبونها لنا فنرجع إلى أهلنا فرحين بهذا الصيد الصغير ونبدأ الكذب عليهم بقولنا إنا نحن الذين اصطدناها بجانب الساقي وقد زحفنا على بطوننا حتى اقتربنا منه فحذفناه ببعض الحجارة فسقط صريعاً فأخذناه فإذا أتى وقت الظهيرة أتى أخي محملاً بالصيد من القميري والصفار والدخل ثم يسألني عن هذا الطير الذي بحوزتي وهو الذي أعطاني إياه في أول الصباح فأخبره بما أخبرت به أهلي من طريقة صيدي له فيضحك على كذبي .
وأحياناً نذهب إلى الكبار في الليلة الشاتية الماطرة فنجدهم قد لاذوا بذلك الحضار المغلق من جوانبه الثلاث الذي صنعوه بجانب الأثل المصطف بعضه إلى بعض فنجلس معهم ونتناول الشاي وسط صوت الرعد ورذاذ المطر ونور البرق فإذا جهز الشواء تناولناه بسعادة غامرة ولذة عارمة .
مضت حياتي على هذا المنوال وكان يدور بخلدي الصغير دوام هذه الأيام السعيدة والحياة الجميلة حتى حدث ما لم يكن بالحسبان فماذا حدث يا ترى حتى تغيرت نظرتي وعرفت أن دوام الحال من المحال ولابد من يوم تزول فيه هذه الطفولة ويتفرق أترابي وأصبح وحيداً أتشوق إلى الماضي وأحن إلى الصبا كما هو حالي اليوم .
كنت ألعب مع إحدى الصبايا يومياً ألعاب الصغار فمن (الدنينة) إلى (الكعابة) إلى غيرها من ألعاب الطفولة .
كنا نتقابل مع شروق الشمس ولا نفترق إلا عند الغروب .
مضت حياتي على هذا المنوال حتى صحوت ذات يوم مع شروق الشمس وانتظرت الصبية فلم تحضر فذهبت ولعبت مع أترابي وعندما أتيت سألت أمي عن الصبية فأخبرتني أنها انتقلت مع أهلها إلى حي آخر فصمت وذهبت أجر قدميّ جرّاً حزناً عليها وحنيناً إليها .
أتت أمي إلي وواستني ببعض الكلمات ولم تعلم ما يعانيه قلبي الغض من ألم الفراق وحر الجوى .
لقد تجرعت مرارة أول فراق قبل ما يزيد على العشرين عاماً وكان عمري إذْ ذاك خمس سنوات ولم يحتمل قلبي الغض ألم الفراق فكنت أذهب في بعض الأحايين إذا اضطرمت بقلبي الذكرى والتهبت نار الأشواق إلى ذلك المنزل الذي رحل عنه ساكنوه فأستعيد بعض ذكرياتي فيه وقد رآني أخي الكبير في إحدى المرات وأنا أجول في المنزل المهجور فانتهرني وسألني عن الذي أتى بي إلى هنا فأخبرته أني مشتاق إلى تلك الصبية وأريد رؤياها واللعب معها كما كنت قبل أشهر قليلة .
دمعت عينا أخي وضمني إلى صدره وقال لي : يا لك من إنسان جياش العاطفة وسترى في مقتبل عمرك آلاماً وأشجاناً ما دمت هكذا .
أمسكت يد أخي الكبير ومضيت معه إلى البيت وبعد أشهر قليلة رحلنا عن ذلك البيت إلى المدينة وانتهت تلك الأيام الجميلة التي ما زلت أحن إليها وأذوب شوقاً لرجوعها .
وبعد أعوامٍ طويلة ذهبت إلى ذلك البيت لأستعيد الذكرى فرأيته متهدم الأرجاء فبحثت بنواحيه عن أولئك الذين عمروه وشيدوا بنيانه حتى أصبح شامخاً فلم أر منهم أحداً بل رأيت في بقعة نائية أحجاراً متناثرة قد وقع عليها بعض الطيور ولم تكن غير المقبرة التي رقد فيها أولئك الناس .
ذهبت إلى تلك المزارع التي كانت فيما مضى جناناً خضراء وارفة الظلال كثيرة الثمار دانية القطوف فوجدتها يباباً فالنخل قد مات من الظمأ والساقي نضب معينه بعد إهماله فألم بي من الحزن ما عجز قلبي عن احتماله فذهبت إلى مزرعة جدي فلم تكن أحسن حالاً من سابقاتها فتجولت بها قليلاً فوجدت منجل جدي قد علاه الصدأ وبجانبه تلك (الغرشة) التي كانوا يحلبون بها فاتجهت إلى البئر الذي كنا نستعذب منه الماء فلم أجد به نقطة ماء بل وجدته مأوى للحشرات والهوام ووجدت ذلك (الدلو) الذي طالما استخرجت به الماء مستقراً في قاع البئر فعدت أدراجي إلى البيت المتهدم فوجدت تلك الأثلة التي طالما تفيأها جدي ورقد تحتها قد تساقط هدبها وتغيرت حالها فلم تكن كما عهدتها خضراء ريانة الأغصان وتلك الشرفة التي كنت فيما مضى أطل منها على المارة أصبحت وكراً للطير وأفراخه فخانتني عبرتي ولم أملك نفسي من البكاء وأيقنت بأن ذلك الزمان ولى إلى غير رجعة وأن علي أن أنسى الماضي وأمسح ذكراه من قلبي وأنى لي بهذا وقد خالط الماضي شغاف قلبي وسرى حبه بدمي .
عندما أظلم الليل صليت وحدي بتلك البقعة التي كنت أصلي بها فيما مضى مع أولئك الناس ثم عدت أدراجي بجسمي إلى المدينة وأبقيت قلبي ومشاعري وأحاسيسي في القرية في ذلك البيت المتهدم ومع أولئك الناس الذين واراهم الثرى .
لقد رأت عيناي النور أول ما رأته في ذلك البيت الطيني في أحد الأرياف من مدينة بريدة وقد عشت طفولةً مليئةً بالحب والسعادة والطهر والبراءة .
كنت في الصباح الباكر مع ضياء النور وشقشقة الطيور أخرج مع أترابي إلى المزارع المحيطة بقريتنا فنلهو ونسرح ونمرح بين النخيل ونرقب الطيور وهي تغادر أعشاشها بحثاً عن الرزق فإذا أشرقت الشمس وقد أنهكنا التعب من كثرة الجري والسير بين المزارع نذهب إلى الساقي وننهل منه ما يروي ظمأنا ثم نتفيأ ظل أحد النخيل ونجلس نرقب أصحاب المزارع الذين وضعوا مساحيهم على أكتافهم واتجهوا لمزارعهم فبعضهم قد أخذ (الكر) وبعضهم منكب على حصد البرسيم وقد سال الدم من يده بسبب سرعة حصده بالمنجل (المخلب) فإذا مللنا من هذه المناظر بدأنا المسير من جديد فنرى بعض الكبار قد ذهب إلى القنص فمنهم من معه بندقية ومنهم من معه (النبيطة) فنذهب معهم وكانت أعيننا الصغيرة كالرادار لهم فنخبرهم بمواقع الطيور وأماكن تواجدها فيصطادونها ثم نتسابق إلى أخذها وإتيان الكبار بها فيهبونها لنا فنرجع إلى أهلنا فرحين بهذا الصيد الصغير ونبدأ الكذب عليهم بقولنا إنا نحن الذين اصطدناها بجانب الساقي وقد زحفنا على بطوننا حتى اقتربنا منه فحذفناه ببعض الحجارة فسقط صريعاً فأخذناه فإذا أتى وقت الظهيرة أتى أخي محملاً بالصيد من القميري والصفار والدخل ثم يسألني عن هذا الطير الذي بحوزتي وهو الذي أعطاني إياه في أول الصباح فأخبره بما أخبرت به أهلي من طريقة صيدي له فيضحك على كذبي .
وأحياناً نذهب إلى الكبار في الليلة الشاتية الماطرة فنجدهم قد لاذوا بذلك الحضار المغلق من جوانبه الثلاث الذي صنعوه بجانب الأثل المصطف بعضه إلى بعض فنجلس معهم ونتناول الشاي وسط صوت الرعد ورذاذ المطر ونور البرق فإذا جهز الشواء تناولناه بسعادة غامرة ولذة عارمة .
مضت حياتي على هذا المنوال وكان يدور بخلدي الصغير دوام هذه الأيام السعيدة والحياة الجميلة حتى حدث ما لم يكن بالحسبان فماذا حدث يا ترى حتى تغيرت نظرتي وعرفت أن دوام الحال من المحال ولابد من يوم تزول فيه هذه الطفولة ويتفرق أترابي وأصبح وحيداً أتشوق إلى الماضي وأحن إلى الصبا كما هو حالي اليوم .
كنت ألعب مع إحدى الصبايا يومياً ألعاب الصغار فمن (الدنينة) إلى (الكعابة) إلى غيرها من ألعاب الطفولة .
كنا نتقابل مع شروق الشمس ولا نفترق إلا عند الغروب .
مضت حياتي على هذا المنوال حتى صحوت ذات يوم مع شروق الشمس وانتظرت الصبية فلم تحضر فذهبت ولعبت مع أترابي وعندما أتيت سألت أمي عن الصبية فأخبرتني أنها انتقلت مع أهلها إلى حي آخر فصمت وذهبت أجر قدميّ جرّاً حزناً عليها وحنيناً إليها .
أتت أمي إلي وواستني ببعض الكلمات ولم تعلم ما يعانيه قلبي الغض من ألم الفراق وحر الجوى .
لقد تجرعت مرارة أول فراق قبل ما يزيد على العشرين عاماً وكان عمري إذْ ذاك خمس سنوات ولم يحتمل قلبي الغض ألم الفراق فكنت أذهب في بعض الأحايين إذا اضطرمت بقلبي الذكرى والتهبت نار الأشواق إلى ذلك المنزل الذي رحل عنه ساكنوه فأستعيد بعض ذكرياتي فيه وقد رآني أخي الكبير في إحدى المرات وأنا أجول في المنزل المهجور فانتهرني وسألني عن الذي أتى بي إلى هنا فأخبرته أني مشتاق إلى تلك الصبية وأريد رؤياها واللعب معها كما كنت قبل أشهر قليلة .
دمعت عينا أخي وضمني إلى صدره وقال لي : يا لك من إنسان جياش العاطفة وسترى في مقتبل عمرك آلاماً وأشجاناً ما دمت هكذا .
أمسكت يد أخي الكبير ومضيت معه إلى البيت وبعد أشهر قليلة رحلنا عن ذلك البيت إلى المدينة وانتهت تلك الأيام الجميلة التي ما زلت أحن إليها وأذوب شوقاً لرجوعها .
وبعد أعوامٍ طويلة ذهبت إلى ذلك البيت لأستعيد الذكرى فرأيته متهدم الأرجاء فبحثت بنواحيه عن أولئك الذين عمروه وشيدوا بنيانه حتى أصبح شامخاً فلم أر منهم أحداً بل رأيت في بقعة نائية أحجاراً متناثرة قد وقع عليها بعض الطيور ولم تكن غير المقبرة التي رقد فيها أولئك الناس .
ذهبت إلى تلك المزارع التي كانت فيما مضى جناناً خضراء وارفة الظلال كثيرة الثمار دانية القطوف فوجدتها يباباً فالنخل قد مات من الظمأ والساقي نضب معينه بعد إهماله فألم بي من الحزن ما عجز قلبي عن احتماله فذهبت إلى مزرعة جدي فلم تكن أحسن حالاً من سابقاتها فتجولت بها قليلاً فوجدت منجل جدي قد علاه الصدأ وبجانبه تلك (الغرشة) التي كانوا يحلبون بها فاتجهت إلى البئر الذي كنا نستعذب منه الماء فلم أجد به نقطة ماء بل وجدته مأوى للحشرات والهوام ووجدت ذلك (الدلو) الذي طالما استخرجت به الماء مستقراً في قاع البئر فعدت أدراجي إلى البيت المتهدم فوجدت تلك الأثلة التي طالما تفيأها جدي ورقد تحتها قد تساقط هدبها وتغيرت حالها فلم تكن كما عهدتها خضراء ريانة الأغصان وتلك الشرفة التي كنت فيما مضى أطل منها على المارة أصبحت وكراً للطير وأفراخه فخانتني عبرتي ولم أملك نفسي من البكاء وأيقنت بأن ذلك الزمان ولى إلى غير رجعة وأن علي أن أنسى الماضي وأمسح ذكراه من قلبي وأنى لي بهذا وقد خالط الماضي شغاف قلبي وسرى حبه بدمي .
عندما أظلم الليل صليت وحدي بتلك البقعة التي كنت أصلي بها فيما مضى مع أولئك الناس ثم عدت أدراجي بجسمي إلى المدينة وأبقيت قلبي ومشاعري وأحاسيسي في القرية في ذلك البيت المتهدم ومع أولئك الناس الذين واراهم الثرى .