وائل
13-03-03, 10:46 pm
ذكر الأديب الكبير علي الطنطاوي رحمه الله في ذكرياته (7/48ـ49 )..
قائلاً : ذهبت سنة ست وأربعين إلى مصر ، وكان الطريق على فلسطين ، فأقمت فيها عشرة أيام ، وكان لي فيها أصدقاء من الوطنيين العاملين فلمتهم على قعودهم وقيام اليهود ، وعلى تقصيرهم بجمع المال وشراء السلاح ،
فقالوا : إن الأيدي منقبضة ، والنفوس شحيحة ،
قلت : لا بل أنتم المقصرون ،
قالوا : هذا تاجر من أغنى التجار ، فهلم بنا إليه ننظر ماذا نأخذ منه ؟
وذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين ، وحوله ولدان له شابان يتفجران صحة ورجولة وجمالا ، وكلمناه .. وحشدت له كل ما أقدر عليه من شواهد الدين ، وأدلة المنطق ، مثيرات الشعور ، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية ، ما أحست بها ، فضلا عن أن ترتج منها .
وقال : أنا لا أقصر .. أعرف واجبي .. وأدفع كل مرة الذي أقدر عليه .
قلت : وهل أعطيت مثل الذي يعطي تجار اليهود ؟
قال : وهل تمثلني باليهود ؟
قلت : وهل أعطيت مرة مالك كله ؟ فشده وفتح عينيه ، وظن أن الذي يخاطبه مجنون ،
وقال : ما لي كله ؟ ولماذا أعطي مالي كله ؟
قلت : إن أبا بكر لما سئل التبرع للتسلح أعطى ماله كله ..
قال : ذاك أبو بكر وهل أنا مثل أبي بكر ؟
قلت : عمر أعطى نصف ماله ، وعثمان جهز ألفاً .. فلم يدعني أكمل
وقال : يا أخي أولئك صحابة رسول الله ، الله يرضى عنهم ، أين نحن منهم ؟
قلت : ألا ترى البلاد في خطر ؟ وإننا إذا لم نعط القليل ذهب القليل والكثير ؟
قال : يا أخي الله يرضى عليك اتركني بحالي .. أنا رجل بياع شراء .. لا أفهم في السياسة ، وليس لي بها صلة ، وهذا مالي حصلته بعرق جبيني ، وكد يميني ، ما سرقته سرقة ، فهل تريد أن أدفعه وأبقى أنا وأولادي وأحفادي بلا شيء ؟
قلت : ما نطلب مالك كله ، ولكن نطلب عشره ..
قال : دفعت ما عليّ .. ما قصرت .. وأعرض عنا وأقبل على عمله ، يا سادة هذه حادثة أرويها لكم كما وقعت ....
ومرت سبع سنوات ، وذهبت من سنتين ـ أي سنة 1953ـ إلى المؤتمر الإسلامي في القدس ، ومررنا في الطريق بمخيم اللاجئين ، وأقبل الناس يسلمون علينا ، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية ، محني الظهر ، غائر الصدغين ، رث الثياب ، أحسست لما التقت العينان ، كأن قد برقت عيناه برقة خاطفة ، وكاد يفتح فمه بالتحية ، ثم تماسك وأغضى .. وارتبك كأنه يريد الفرار .. فلما انتهى السلام راغ مني ودخل في غمار الناس .. ولبثت أفكر فيه من هو ؟ وأين قابلته ؟ فما لبثت أن ذكرته .. وتكشف لي المنسي فجأة ، كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور .. إنه هو .. هو يا سادة .. وكلمته فتجاهلني ، فلما ألححت عليه اعترف ، ولم أشمت به ، ومعاذ الله ، أن يراني أنحدر إلى هذا الدرك ، ولم أزعجه بلوم ، ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام ، لذلك استبقني
فقال : ـ لا تقل شيئا ، هذا هو المقدر ..[ وليت أن الله وفقني ، ووفق ] إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك ..
قلت : أولم يبق لك شيء ..
فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع ،
وقال : بلى بقي الكثير بقيت الصحة والثقة بالله ، وبقي هؤلاء وأشار إلى امرأة عجوز وطفل صغير . قلت : لا تيأس من رحمة الله ، قال : الحمد لله أن جعلنا عبرة ، ولكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا ..)
فهل يعتبر أهل المال والثراء .. فيتصدقوا وينفقوا ويجودوا بالعطاء للمجاهدين الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله يحاربون الكفار .. ويقاتلون الفجار .. فإن السعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ غيره به !!
قائلاً : ذهبت سنة ست وأربعين إلى مصر ، وكان الطريق على فلسطين ، فأقمت فيها عشرة أيام ، وكان لي فيها أصدقاء من الوطنيين العاملين فلمتهم على قعودهم وقيام اليهود ، وعلى تقصيرهم بجمع المال وشراء السلاح ،
فقالوا : إن الأيدي منقبضة ، والنفوس شحيحة ،
قلت : لا بل أنتم المقصرون ،
قالوا : هذا تاجر من أغنى التجار ، فهلم بنا إليه ننظر ماذا نأخذ منه ؟
وذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين ، وحوله ولدان له شابان يتفجران صحة ورجولة وجمالا ، وكلمناه .. وحشدت له كل ما أقدر عليه من شواهد الدين ، وأدلة المنطق ، مثيرات الشعور ، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية ، ما أحست بها ، فضلا عن أن ترتج منها .
وقال : أنا لا أقصر .. أعرف واجبي .. وأدفع كل مرة الذي أقدر عليه .
قلت : وهل أعطيت مثل الذي يعطي تجار اليهود ؟
قال : وهل تمثلني باليهود ؟
قلت : وهل أعطيت مرة مالك كله ؟ فشده وفتح عينيه ، وظن أن الذي يخاطبه مجنون ،
وقال : ما لي كله ؟ ولماذا أعطي مالي كله ؟
قلت : إن أبا بكر لما سئل التبرع للتسلح أعطى ماله كله ..
قال : ذاك أبو بكر وهل أنا مثل أبي بكر ؟
قلت : عمر أعطى نصف ماله ، وعثمان جهز ألفاً .. فلم يدعني أكمل
وقال : يا أخي أولئك صحابة رسول الله ، الله يرضى عنهم ، أين نحن منهم ؟
قلت : ألا ترى البلاد في خطر ؟ وإننا إذا لم نعط القليل ذهب القليل والكثير ؟
قال : يا أخي الله يرضى عليك اتركني بحالي .. أنا رجل بياع شراء .. لا أفهم في السياسة ، وليس لي بها صلة ، وهذا مالي حصلته بعرق جبيني ، وكد يميني ، ما سرقته سرقة ، فهل تريد أن أدفعه وأبقى أنا وأولادي وأحفادي بلا شيء ؟
قلت : ما نطلب مالك كله ، ولكن نطلب عشره ..
قال : دفعت ما عليّ .. ما قصرت .. وأعرض عنا وأقبل على عمله ، يا سادة هذه حادثة أرويها لكم كما وقعت ....
ومرت سبع سنوات ، وذهبت من سنتين ـ أي سنة 1953ـ إلى المؤتمر الإسلامي في القدس ، ومررنا في الطريق بمخيم اللاجئين ، وأقبل الناس يسلمون علينا ، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية ، محني الظهر ، غائر الصدغين ، رث الثياب ، أحسست لما التقت العينان ، كأن قد برقت عيناه برقة خاطفة ، وكاد يفتح فمه بالتحية ، ثم تماسك وأغضى .. وارتبك كأنه يريد الفرار .. فلما انتهى السلام راغ مني ودخل في غمار الناس .. ولبثت أفكر فيه من هو ؟ وأين قابلته ؟ فما لبثت أن ذكرته .. وتكشف لي المنسي فجأة ، كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور .. إنه هو .. هو يا سادة .. وكلمته فتجاهلني ، فلما ألححت عليه اعترف ، ولم أشمت به ، ومعاذ الله ، أن يراني أنحدر إلى هذا الدرك ، ولم أزعجه بلوم ، ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام ، لذلك استبقني
فقال : ـ لا تقل شيئا ، هذا هو المقدر ..[ وليت أن الله وفقني ، ووفق ] إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك ..
قلت : أولم يبق لك شيء ..
فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع ،
وقال : بلى بقي الكثير بقيت الصحة والثقة بالله ، وبقي هؤلاء وأشار إلى امرأة عجوز وطفل صغير . قلت : لا تيأس من رحمة الله ، قال : الحمد لله أن جعلنا عبرة ، ولكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا ..)
فهل يعتبر أهل المال والثراء .. فيتصدقوا وينفقوا ويجودوا بالعطاء للمجاهدين الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله يحاربون الكفار .. ويقاتلون الفجار .. فإن السعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ غيره به !!