رمز العز
18-09-10, 03:06 am
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التفكير (3)
يوسف إسماعيل سليمان (http://www.hassri.com/vb/articles/author/1675.htm)
http://www.lahaonline.com/media/images/articles//lahaauthor/ghtyt6565y5y5y55.jpg
تحدثنا عن قيمة التفكير الموضوعي في التغلب على أعقد المشكلات، وقبل استكمال حديثنا يطيب لي ذكر الموقف التالي؛ لما فيه من دلالات تخص حديثنا اليوم: حدث أن المسلمين في إحدى البلاد منذ زمن تعرضوا لفتنة سببت لهم حرجًا وشُبهة، وخلاصته أن يهوديًا كان يأتي سوق المسلمين فيقول: من يناظرني في نبوة محمد؟ فيأتيه عالم من المسلمين فيقول: أنا. فيقول له اليهودي: أتؤمن بموسى؟ فيقول: نعم، فيقول: أتؤمن بعيسى؟ فيقول: نعم، فيقول: أتؤمن بمحمد؟ فيقول: نعم، فيقول اليهودي: وأنا لا أومن بمحمد، فلنترك ما اختلفنا عليه، ونبدأ المناظرة بما اتفقنا عليه. وبهذا يكون اليهودي غَلَب المسلم من أول المناظرة، واستمر اليهودي على ذلك أيامًا والناس في شدة عظيمة، حتى أتى المدينة عالم كبير، فشكا الناس إليه ما يلقونه من ذلك اليهودي، ففكر ثم قال: أنا له.
فلما أتى اليهودي السوق كعادته قال له العالم: أنا أناظرك، هيا فابدأ، فسأله اليهودي سؤاله المعتاد: أتؤمن بموسى؟ فقال العالم المسلم: إن كان موسى الذي بشر بمحمد فأنا أومن به، فقال اليهودي: أتومن بعيسى؟ فقال: إن كان عيسى الذي بشَّر بمحمد فأنا أومن به. فعلم اليهودي أنه غُلب، فطلب من العالِم المسلم أن يقترب ليقول له كلمة في أذنه، فلما اقترب العالم، همس له اليهودي بكلمات، فتغير وجه العالم، ثم سرعان ما عاد إلى طبيعته وقال بأعلى صوته: إن هذا اليهودي لما غلبته لجأ إلى الحيلة، وإنه لما دعاني سبَّني في أذني بأقبح الشتائم؛ لأرد عليه، فتقولون: إنه غلبني في السر فشتمتُه، فتضيع حجتي وفرحتكم بالنصر عليه. ففرح الناس وكبروا.
ذكرنا في المقال التفكير (2) دور التفكير الموضوعي في الوصول إلى الهداية والاستقامة، والارتقاء فيهما، وذكرنا أن قيمة التفكير الموضوعي في هذه النقطة تشمل عناصر، كان أولها الوصول إلى التوحيد المطلق لله U، وقد أثبتناها بالدليل العقلي الموضوعي، واليوم نتناول العنصر الثاني، والذي يأتي تحت عنوان: التصديق بالرسل.
فهل يمكن حقًّا أن يكون للتفكير الموضوعي، وليس للتقليد أو العصبية أو الهوى، أثر في إيماننا بالرسل؟
لا نريد أن نتعجل الإجابة- وإن كانت أظهر من ضوء الشمس في رابعة النهار- ولندع التفكير الموضوعي يخبرنا بعد أن نجوب معه في دلائل التصديق بالرسل ونبوة محمد r:
سبق أن قلنا- ونكرر ذلك- أن الله جعل الأداة الأولى لإدراك وجوده هي العقل، ولا نقصد هنا عقول العباقرة، بل أي إنسان بسيط لديه عقل سليم، فالعقل هو الذي يدرك وجود الله تعالى بالدليل العقلي الذي وضع الله له في الكون والنفس علاماتٍ لا تُحصى تدلُّ عليه. وقد ضربنا لذلك مثالين في المقال السابق على سبيل التمثيل لا الحصر.
((ولكن مهمة العقل بالنسبة لهذا الوجود محدودة، ذلك أننا بالعقل ندرك أن هناك خالقًا مبدعًا قادرًا، ولكننا بالعقل لا نستطيع أن ندرك ماذا يريد الخالق منا، وكيف نعبده، وكيف نشكره، وماذا أعد لنا من جزاء، يثيب به من أطاعه، ويعاقب به من عصاه؟ فهذا كله فوق قدرة العقل. ولذلك كان لابد أن يرسل الله الرسل ليبلغونا عن الله: لماذا خلق الله هذا الكون؟ ولماذا خلقنا؟ وما هو منهج الحياة الذي رسمه لنا لنتبعه؟ وماذا أعد لنا من ثواب وعقاب؟)).
إذن فالتفكير الموضوعي وحده يحتم ضرورة إرسال الرسل، ولكن حتى لا ينخدع الناس بكل أحد يدعي أنه رسول من عند الله، فقد جاء الرسل ومعهم المعجزات من الله بصدق رسالاتهم، على أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر به قومه، وفي هذا وحده دلائل عقلية عديدة على صدقه؛ حيث جعل الله الوصول إلى إثبات صدق الرسالة بالتفكير العقلي الموضوعي، فمن يحكم على هذا الفعل بالإعجاز من عدمه هو في الأصل خبير بالفعل، عليم بخباياه، إذن بمنطق العقل هو أولى من يتعرف على إعجاز المعجزة، فإذا اعترف الخبراء وأهل التخصص بالمعجزة، فموضوعيًا يجب أن يصدق عامة الناس. وهذا ضمن دلالة أن الله جعل المعجزة من جنس ما نبغ فيه القوم.
فعندما آتيك بشيء أو أمر لا علم لك به قد تقول: أنت خدعتني، لأنك أتيت تكلمني في موضوع ليس لي به علم أو خبرة، ولكن أن يأتي شخص لم يتعلم الطب أصلاً- مثلاً- لأطباء حاذقين مهرة وقد عجزوا عن شفاء مرض أثبتت كل الخبرات البشرية الطبية السابقة العجز عن شفائه، بل وحتى السحرة والجن، ثم تشفي أمامهم كل أصحاب الأمراض التي عجزوا عنها شفاء تامًا، فإنهم يحكمون لك بعقولهم أن هذه القدرة ليست بشرية.
ولنأخذ مثالاً على ذلك عيسى عليه السلام، فولادته كانت معجزة، حيث ولد من غير أب، ولكن هذا مما قد تجادل فيه بعض العقول، حيث لا شاهد عليه من البشر سوى السيدة مريم في عصرها، ولكن أن يستطيع عيسى عليه السلام أن يحيي الموتى من قبورهم أمام أنظارهم، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير بإذن الله، وأن يشفي أنواعًا من الأمراض عجز عنها أهل الطب في زمانه، بل والسحرة، ولا زال الطب حتى عصرنا هذا يعجز عن علاج بعضها، ألا يدل هذا على أن هناك قدرة أكبر هي التي تمد عيسى عليه السلام بمددها، وتؤيده بقوتها المطلقة؛ لتؤكد طلاقة قدرة الله، وكأن هذه المعجزة تنطق بلسان الحال لا بالمقال لأهل زمانه: أنتم لم تصدقوا أن أمي ولدتني من غير أب بإذن الله، وها أنا أحيي الموتى بإذن الله، فكيف يستقيم في عقولكم أن الذي أقدرني على أن أحيي الموتى لا يقدر على أن يخلقني من غير أب، كما وخلق آدم من غير أب ولا أم، وكما قد خلق الكون كله من عدم؟
كان هذا مثالاً بسيطًا وسريعا يدل دلالة قاطعة على صدق نبوة عيسى عليه السلام، والذي بشَّر مع غيره من الأنبياء بنبوة محمد r قبل أن يولد بمئات السنين، ولم تكن هذه البشرى شفهية فقط، بل هي مسجلة في الكتب السماوية كالإنجيل والتوراة، بل والقرآن الذي جاء خاتمًا لهذه الكتب ومهيمنًا عليها، قال تعالى: )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ([المائدة:48].
وقد يسأل سائل أين هو الدليل العقلي في نبوة عيسى عليه السلام على إرسال الرسل، فنقول الدليل واضح وجلي، ومع ذلك أحب أن أركز على عدة نقاط في هذا الدليل، وأبرزها:
1- كيف لعيسى عليه السلام أن يقدر على إحياء الموتى، بل وخَلْق حياة في الجماد، كما كان يفعل مع الطير، ولم يثبت أنه تعلم الطب في حياته، ولا اتهم قط قبل نبوته بأنه كان ساحرًا، ناهيك عن أن السحرة لم تدَّعي يومًا قدرتها على إحياء الموتى، فالمتحصل أنها معجزة لا طاقة للبشر بها.
2- كيف يفعل تلك المعجزة بقدرة شخصية ثم ينسبها لغيره، ثم هو لا يستفيد منها شيئًا، بل يسخرها فقط للدلالة على وحدانية الله وألوهيته، بل ويلقى بسبب دعوته الاضطهاد الشديد له ولأنصاره الحواريين. والمتحصل أنه مُرسل لهدف هو هداية الناس، ولا يبتغي على ذلك أجرًا إلا ممن أرسله.
3- أما الأهم، فهو أن حوالي 2 مليار نسمة يؤمنون بمريم العذراء وابنها عيسى عليه السلام ومعجزاته، فهل آمنوا بأشخاص لا وجود لهم أصلاً؟ علمًا بأن عيسى عليه السلام هو من بَشَّر بمحمد r.
والمتحصل أن التفكير الموضوعي يلزمنا بأن عيسى عليه السلام رسول من الله، أرسله لدعوة الناس إلى عبادته وحده لا شريك له، وقد أعلمه الله الذي أرسله ويعلم ما كان وما سيكون بأنه سيرسل نبيًا اسمه محمد- أو أحمد كما جاء في سورة الصف- وإلا فليخبرنا أصحاب العقول كيف علم أن نبيًّا سيأتي بعده بمئات السنين؟
وأما الدليل على صدق نبوة محمد r، وإن كانت أدلة نبوة محمد قد كثرت حتى كتبت فيها مؤلفات كاملة منذ قرون وإلى الآن ما زالت الأدلة تترى، ولكن لأننا هنا نتحدث عن الأدلة العقلية فيمكن أن نختصر الحديث بدليلين عقليين فقط، بحيث يكون فيهما إشارة على ما نريده ومن أراد الاستزادة فسيجدها في مظانها من كتب الحديث والتفسير وكتب الإعجاز القرآني وغيرها.
أما الدليل الأول: فهو القرآن مع كونه أميًّا، فكونه لم يتعلم القراءة والكتابة ولا السحر ولا الكهانة، ثم يأتي بكتاب يعجز عنه فصحاء أهل زمانه وبلغاؤهم، وهو القرآن، ويتحداهم هم وغيرهم من الإنس والجن، في جميع الأزمنة والأمكنة، أن يأتوا ولو بسورة من مثله فلا يستطيعون. فأي تفكير موضوعي يقول أن محمدًا هو الذي أتى بهذا الكلام من عنده؟
والقرآن دليل عقلي ملموس مبسوط للعقل ليتدبر فيه، وهو محفوظ وإعجازه وتحديه قائم إلى قيام الساعة. هذا عن إعجاز بلاغة القرآن.
أما الدليل الثاني: فهو ما حواه القرآن من أدلة عقلية في كثير من العلوم الكونية، حيث أكدت العديد من الأبحاث العلمية الحديثة جدًا، وهي من آخر ما توصل إليه العقل البشري مستعينا بأحدث التقنيات العلمية، ولنضرب مثالا واحدًا عليها:
((يقول البروفيسور الكندي "كيث ل. مور"، وهو من أشهر علماء العالم في علم الأجنة، ورئيس قسم التشريح والأجنة في بجامعة تورنتو بكندا، ورئيس الاتحاد الكندي الأمريكي لعلماء الأجنة، وله عدة كتب مترجمة إلى ثماني لغات، وهو الحائز على الجائزة الأولى في العالم عن كتابه "علم الأجنة"، وهي جائزة تعطى لأحسن الكتاب تأليفًا: إن الجنين عندما يبدأ في النمو في بطن أمه يكون شكله يشبه العلقة أو الدودة، وعرض الصورة بالأشعة لبداية خلق الجنين ومعها صورة للعلقة، فظهر التشابه واضحًا بين الاثنين، ولما قيل له: إن العلقة عند العرب معناها الدم المتجمد، ذُهِل وقال: إن ما ذكر في القرآن ليس وصفًا دقيقًا لشكل الجنين الخارجي، ولكنه وصف دقيق لتكوينه، ذلك أنه في مرحلة العلقة تكون الدماء محبوسة في العروق الدقيقة في شكل الدم المتجمد... ولقد عرض العالم الكندي كل أطوار الجنين في بطن أمه، والتي التقطت بأحدث الأجهزة العلمية، فإذا هي تنطبق تمامًا على كل ما ذكر في القرآن الكريم من مراحل تكوين العظام واللحم إلى غير ذلك، ولما قيل للدكتور: هل كان من الممكن أن يعرف رسول الله r كل هذه التفصيلات عن أطوار الجنين؟ قال: مستحيل؛ إن العالم كله في ذلك الوقت لم يكن يعرف أن الجنين يخلق أطوارًا، فما بالكم بتحديد هذه المراحل التي لم يستطع العلم حتى الآن تسمية أطوار الجنين، بل أعطاها أرقامًا بشكل معقد غير مفهوم، في حين جاءت في القرآن بأسماء محددة وبسيطة وغاية في الدقة يتضح لي بأن هذه الأدلة حتمًا جاءت لمحمد من عند الله، وهذا يثبت لي أن محمد رسول الله، فقيل له: بعد أن قلت ما قلت، أفلا تسلم؟ فقال أنه مستعد أن يضع في الطبعات القادمة من كتبه إشارة إلى ما علم)).
(( ولقد قرئ معنى الآيات التي جاءت في القرآن الكريم على أكبر علماء الأجنة في العالم، فلم يجرؤ أحد منهم من أن يدعي أن هناك تصادمًا بين ما جاء في القرآن الكريم وأحدث ما وصل إليه العلم)).
كان هذان مثالين فقط من آلاف الأدلة العقلية التي يحتويها القرآن، والتي تثبت لكل ذي عقل أنه ليس من كلام محمد r، وإنما هو من الله الذي أرسل الرسل إلينا، وأيدهم بالمعجزات والأدلة والحجج والبراهين الساطعة على صدق نبوتهم، قال تعالى: )أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها(؟!.
--------------------
المصادر: 1- الأدلة المادية على وجود الله، لفضيلة الشيخ: محمد متولي الشعراوي، مكتبة المصطفى الإلكترونية، على الرابط:
http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot2/gap.php?file=002420.pdf (http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot2/gap.php?file=002420.pdf)
موضوع أعجبني فاحببت مشاركتى في القرأءه
التفكير (3)
يوسف إسماعيل سليمان (http://www.hassri.com/vb/articles/author/1675.htm)
http://www.lahaonline.com/media/images/articles//lahaauthor/ghtyt6565y5y5y55.jpg
تحدثنا عن قيمة التفكير الموضوعي في التغلب على أعقد المشكلات، وقبل استكمال حديثنا يطيب لي ذكر الموقف التالي؛ لما فيه من دلالات تخص حديثنا اليوم: حدث أن المسلمين في إحدى البلاد منذ زمن تعرضوا لفتنة سببت لهم حرجًا وشُبهة، وخلاصته أن يهوديًا كان يأتي سوق المسلمين فيقول: من يناظرني في نبوة محمد؟ فيأتيه عالم من المسلمين فيقول: أنا. فيقول له اليهودي: أتؤمن بموسى؟ فيقول: نعم، فيقول: أتؤمن بعيسى؟ فيقول: نعم، فيقول: أتؤمن بمحمد؟ فيقول: نعم، فيقول اليهودي: وأنا لا أومن بمحمد، فلنترك ما اختلفنا عليه، ونبدأ المناظرة بما اتفقنا عليه. وبهذا يكون اليهودي غَلَب المسلم من أول المناظرة، واستمر اليهودي على ذلك أيامًا والناس في شدة عظيمة، حتى أتى المدينة عالم كبير، فشكا الناس إليه ما يلقونه من ذلك اليهودي، ففكر ثم قال: أنا له.
فلما أتى اليهودي السوق كعادته قال له العالم: أنا أناظرك، هيا فابدأ، فسأله اليهودي سؤاله المعتاد: أتؤمن بموسى؟ فقال العالم المسلم: إن كان موسى الذي بشر بمحمد فأنا أومن به، فقال اليهودي: أتومن بعيسى؟ فقال: إن كان عيسى الذي بشَّر بمحمد فأنا أومن به. فعلم اليهودي أنه غُلب، فطلب من العالِم المسلم أن يقترب ليقول له كلمة في أذنه، فلما اقترب العالم، همس له اليهودي بكلمات، فتغير وجه العالم، ثم سرعان ما عاد إلى طبيعته وقال بأعلى صوته: إن هذا اليهودي لما غلبته لجأ إلى الحيلة، وإنه لما دعاني سبَّني في أذني بأقبح الشتائم؛ لأرد عليه، فتقولون: إنه غلبني في السر فشتمتُه، فتضيع حجتي وفرحتكم بالنصر عليه. ففرح الناس وكبروا.
ذكرنا في المقال التفكير (2) دور التفكير الموضوعي في الوصول إلى الهداية والاستقامة، والارتقاء فيهما، وذكرنا أن قيمة التفكير الموضوعي في هذه النقطة تشمل عناصر، كان أولها الوصول إلى التوحيد المطلق لله U، وقد أثبتناها بالدليل العقلي الموضوعي، واليوم نتناول العنصر الثاني، والذي يأتي تحت عنوان: التصديق بالرسل.
فهل يمكن حقًّا أن يكون للتفكير الموضوعي، وليس للتقليد أو العصبية أو الهوى، أثر في إيماننا بالرسل؟
لا نريد أن نتعجل الإجابة- وإن كانت أظهر من ضوء الشمس في رابعة النهار- ولندع التفكير الموضوعي يخبرنا بعد أن نجوب معه في دلائل التصديق بالرسل ونبوة محمد r:
سبق أن قلنا- ونكرر ذلك- أن الله جعل الأداة الأولى لإدراك وجوده هي العقل، ولا نقصد هنا عقول العباقرة، بل أي إنسان بسيط لديه عقل سليم، فالعقل هو الذي يدرك وجود الله تعالى بالدليل العقلي الذي وضع الله له في الكون والنفس علاماتٍ لا تُحصى تدلُّ عليه. وقد ضربنا لذلك مثالين في المقال السابق على سبيل التمثيل لا الحصر.
((ولكن مهمة العقل بالنسبة لهذا الوجود محدودة، ذلك أننا بالعقل ندرك أن هناك خالقًا مبدعًا قادرًا، ولكننا بالعقل لا نستطيع أن ندرك ماذا يريد الخالق منا، وكيف نعبده، وكيف نشكره، وماذا أعد لنا من جزاء، يثيب به من أطاعه، ويعاقب به من عصاه؟ فهذا كله فوق قدرة العقل. ولذلك كان لابد أن يرسل الله الرسل ليبلغونا عن الله: لماذا خلق الله هذا الكون؟ ولماذا خلقنا؟ وما هو منهج الحياة الذي رسمه لنا لنتبعه؟ وماذا أعد لنا من ثواب وعقاب؟)).
إذن فالتفكير الموضوعي وحده يحتم ضرورة إرسال الرسل، ولكن حتى لا ينخدع الناس بكل أحد يدعي أنه رسول من عند الله، فقد جاء الرسل ومعهم المعجزات من الله بصدق رسالاتهم، على أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر به قومه، وفي هذا وحده دلائل عقلية عديدة على صدقه؛ حيث جعل الله الوصول إلى إثبات صدق الرسالة بالتفكير العقلي الموضوعي، فمن يحكم على هذا الفعل بالإعجاز من عدمه هو في الأصل خبير بالفعل، عليم بخباياه، إذن بمنطق العقل هو أولى من يتعرف على إعجاز المعجزة، فإذا اعترف الخبراء وأهل التخصص بالمعجزة، فموضوعيًا يجب أن يصدق عامة الناس. وهذا ضمن دلالة أن الله جعل المعجزة من جنس ما نبغ فيه القوم.
فعندما آتيك بشيء أو أمر لا علم لك به قد تقول: أنت خدعتني، لأنك أتيت تكلمني في موضوع ليس لي به علم أو خبرة، ولكن أن يأتي شخص لم يتعلم الطب أصلاً- مثلاً- لأطباء حاذقين مهرة وقد عجزوا عن شفاء مرض أثبتت كل الخبرات البشرية الطبية السابقة العجز عن شفائه، بل وحتى السحرة والجن، ثم تشفي أمامهم كل أصحاب الأمراض التي عجزوا عنها شفاء تامًا، فإنهم يحكمون لك بعقولهم أن هذه القدرة ليست بشرية.
ولنأخذ مثالاً على ذلك عيسى عليه السلام، فولادته كانت معجزة، حيث ولد من غير أب، ولكن هذا مما قد تجادل فيه بعض العقول، حيث لا شاهد عليه من البشر سوى السيدة مريم في عصرها، ولكن أن يستطيع عيسى عليه السلام أن يحيي الموتى من قبورهم أمام أنظارهم، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير بإذن الله، وأن يشفي أنواعًا من الأمراض عجز عنها أهل الطب في زمانه، بل والسحرة، ولا زال الطب حتى عصرنا هذا يعجز عن علاج بعضها، ألا يدل هذا على أن هناك قدرة أكبر هي التي تمد عيسى عليه السلام بمددها، وتؤيده بقوتها المطلقة؛ لتؤكد طلاقة قدرة الله، وكأن هذه المعجزة تنطق بلسان الحال لا بالمقال لأهل زمانه: أنتم لم تصدقوا أن أمي ولدتني من غير أب بإذن الله، وها أنا أحيي الموتى بإذن الله، فكيف يستقيم في عقولكم أن الذي أقدرني على أن أحيي الموتى لا يقدر على أن يخلقني من غير أب، كما وخلق آدم من غير أب ولا أم، وكما قد خلق الكون كله من عدم؟
كان هذا مثالاً بسيطًا وسريعا يدل دلالة قاطعة على صدق نبوة عيسى عليه السلام، والذي بشَّر مع غيره من الأنبياء بنبوة محمد r قبل أن يولد بمئات السنين، ولم تكن هذه البشرى شفهية فقط، بل هي مسجلة في الكتب السماوية كالإنجيل والتوراة، بل والقرآن الذي جاء خاتمًا لهذه الكتب ومهيمنًا عليها، قال تعالى: )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ([المائدة:48].
وقد يسأل سائل أين هو الدليل العقلي في نبوة عيسى عليه السلام على إرسال الرسل، فنقول الدليل واضح وجلي، ومع ذلك أحب أن أركز على عدة نقاط في هذا الدليل، وأبرزها:
1- كيف لعيسى عليه السلام أن يقدر على إحياء الموتى، بل وخَلْق حياة في الجماد، كما كان يفعل مع الطير، ولم يثبت أنه تعلم الطب في حياته، ولا اتهم قط قبل نبوته بأنه كان ساحرًا، ناهيك عن أن السحرة لم تدَّعي يومًا قدرتها على إحياء الموتى، فالمتحصل أنها معجزة لا طاقة للبشر بها.
2- كيف يفعل تلك المعجزة بقدرة شخصية ثم ينسبها لغيره، ثم هو لا يستفيد منها شيئًا، بل يسخرها فقط للدلالة على وحدانية الله وألوهيته، بل ويلقى بسبب دعوته الاضطهاد الشديد له ولأنصاره الحواريين. والمتحصل أنه مُرسل لهدف هو هداية الناس، ولا يبتغي على ذلك أجرًا إلا ممن أرسله.
3- أما الأهم، فهو أن حوالي 2 مليار نسمة يؤمنون بمريم العذراء وابنها عيسى عليه السلام ومعجزاته، فهل آمنوا بأشخاص لا وجود لهم أصلاً؟ علمًا بأن عيسى عليه السلام هو من بَشَّر بمحمد r.
والمتحصل أن التفكير الموضوعي يلزمنا بأن عيسى عليه السلام رسول من الله، أرسله لدعوة الناس إلى عبادته وحده لا شريك له، وقد أعلمه الله الذي أرسله ويعلم ما كان وما سيكون بأنه سيرسل نبيًا اسمه محمد- أو أحمد كما جاء في سورة الصف- وإلا فليخبرنا أصحاب العقول كيف علم أن نبيًّا سيأتي بعده بمئات السنين؟
وأما الدليل على صدق نبوة محمد r، وإن كانت أدلة نبوة محمد قد كثرت حتى كتبت فيها مؤلفات كاملة منذ قرون وإلى الآن ما زالت الأدلة تترى، ولكن لأننا هنا نتحدث عن الأدلة العقلية فيمكن أن نختصر الحديث بدليلين عقليين فقط، بحيث يكون فيهما إشارة على ما نريده ومن أراد الاستزادة فسيجدها في مظانها من كتب الحديث والتفسير وكتب الإعجاز القرآني وغيرها.
أما الدليل الأول: فهو القرآن مع كونه أميًّا، فكونه لم يتعلم القراءة والكتابة ولا السحر ولا الكهانة، ثم يأتي بكتاب يعجز عنه فصحاء أهل زمانه وبلغاؤهم، وهو القرآن، ويتحداهم هم وغيرهم من الإنس والجن، في جميع الأزمنة والأمكنة، أن يأتوا ولو بسورة من مثله فلا يستطيعون. فأي تفكير موضوعي يقول أن محمدًا هو الذي أتى بهذا الكلام من عنده؟
والقرآن دليل عقلي ملموس مبسوط للعقل ليتدبر فيه، وهو محفوظ وإعجازه وتحديه قائم إلى قيام الساعة. هذا عن إعجاز بلاغة القرآن.
أما الدليل الثاني: فهو ما حواه القرآن من أدلة عقلية في كثير من العلوم الكونية، حيث أكدت العديد من الأبحاث العلمية الحديثة جدًا، وهي من آخر ما توصل إليه العقل البشري مستعينا بأحدث التقنيات العلمية، ولنضرب مثالا واحدًا عليها:
((يقول البروفيسور الكندي "كيث ل. مور"، وهو من أشهر علماء العالم في علم الأجنة، ورئيس قسم التشريح والأجنة في بجامعة تورنتو بكندا، ورئيس الاتحاد الكندي الأمريكي لعلماء الأجنة، وله عدة كتب مترجمة إلى ثماني لغات، وهو الحائز على الجائزة الأولى في العالم عن كتابه "علم الأجنة"، وهي جائزة تعطى لأحسن الكتاب تأليفًا: إن الجنين عندما يبدأ في النمو في بطن أمه يكون شكله يشبه العلقة أو الدودة، وعرض الصورة بالأشعة لبداية خلق الجنين ومعها صورة للعلقة، فظهر التشابه واضحًا بين الاثنين، ولما قيل له: إن العلقة عند العرب معناها الدم المتجمد، ذُهِل وقال: إن ما ذكر في القرآن ليس وصفًا دقيقًا لشكل الجنين الخارجي، ولكنه وصف دقيق لتكوينه، ذلك أنه في مرحلة العلقة تكون الدماء محبوسة في العروق الدقيقة في شكل الدم المتجمد... ولقد عرض العالم الكندي كل أطوار الجنين في بطن أمه، والتي التقطت بأحدث الأجهزة العلمية، فإذا هي تنطبق تمامًا على كل ما ذكر في القرآن الكريم من مراحل تكوين العظام واللحم إلى غير ذلك، ولما قيل للدكتور: هل كان من الممكن أن يعرف رسول الله r كل هذه التفصيلات عن أطوار الجنين؟ قال: مستحيل؛ إن العالم كله في ذلك الوقت لم يكن يعرف أن الجنين يخلق أطوارًا، فما بالكم بتحديد هذه المراحل التي لم يستطع العلم حتى الآن تسمية أطوار الجنين، بل أعطاها أرقامًا بشكل معقد غير مفهوم، في حين جاءت في القرآن بأسماء محددة وبسيطة وغاية في الدقة يتضح لي بأن هذه الأدلة حتمًا جاءت لمحمد من عند الله، وهذا يثبت لي أن محمد رسول الله، فقيل له: بعد أن قلت ما قلت، أفلا تسلم؟ فقال أنه مستعد أن يضع في الطبعات القادمة من كتبه إشارة إلى ما علم)).
(( ولقد قرئ معنى الآيات التي جاءت في القرآن الكريم على أكبر علماء الأجنة في العالم، فلم يجرؤ أحد منهم من أن يدعي أن هناك تصادمًا بين ما جاء في القرآن الكريم وأحدث ما وصل إليه العلم)).
كان هذان مثالين فقط من آلاف الأدلة العقلية التي يحتويها القرآن، والتي تثبت لكل ذي عقل أنه ليس من كلام محمد r، وإنما هو من الله الذي أرسل الرسل إلينا، وأيدهم بالمعجزات والأدلة والحجج والبراهين الساطعة على صدق نبوتهم، قال تعالى: )أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها(؟!.
--------------------
المصادر: 1- الأدلة المادية على وجود الله، لفضيلة الشيخ: محمد متولي الشعراوي، مكتبة المصطفى الإلكترونية، على الرابط:
http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot2/gap.php?file=002420.pdf (http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot2/gap.php?file=002420.pdf)
موضوع أعجبني فاحببت مشاركتى في القرأءه