أباالخــــــيل
04-02-03, 10:58 pm
---نقاط بارزة----
- العقل البشري يُسلم قياده للأسبق من المعلومات الخاطئة أو الصحيحة ويتشكل بالانطباعات الأولى سواء طابقت الواقع أم خالفته!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- الإنسان يحن للأسبق حتى لو كان بيتاً من الشَّعر ويتأفف من اللاحق حتى لو كان قصراً باذخاً لمجرد أنه لم يألفه فالمعيار ليس الأهلية وإنما الأسبقية!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- إذا كان التعلق بالمألوف يتحكم في عقل الإنسان وعواطفه إلى هذه الدرجة في الأمور المادية المنفصلة عن الذات فإن ما يتعلق بالأمور المعنوية هو أشد تحكماً وأعمق خطراً وأوسع تأثيراً.!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- بقي التفكير العلمي غريباً عن عقول معظم الناس حتى من يحملون أرفع الشهادات التخصصية فالثقافات التي تتوارثها المجتمعات قبل نشأة العلوم الممحصة هي التي توجه تفكير الناس وترسم اتجاهاتهم وتحدد لهم الاهتمامات واقتصر تأثير العلوم على التخصصات المهنية أو في الغرف المغلقة داخل مراكز البحث!!!!!!!!!!!!!!!!
- المعرفة الأكثر أهمية ما زالت تتعثر بل أسوأ من ذلك أن معظم الثقافات البشرية مشيدة على التخمينات والأهواء فهي مكتملة البناء قبل العلوم كلها والمعضلة ناشئة عن أن تأسيس الثقافات سابق للعلوم كلها بما في ذلك العلوم الإنسانية.. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- ترتيب بناء المعرفة الإنسانية معكوس تماماً فما كان ينبغي أن يكون الأسبق جاء آخراً وما جاء متأخراً كان يجب أن يكون الأول !!!!!!!!!!!!!!!
- النظام الكوني يبدأ من أسفل إلى أعلى ونظام المعرفة يبدأ من أعلى إلى أسفل ومن هناك كان الاختلاف !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
--------------------------------------------------------------------------
العقل يحتلُّه الأسبق إليه
إن إصلاح العقل البشري وإبراءه من الجهالات التي احتلته بطريقة التشرب التلقائي والتنشئة العفوية من المهمات الصعبة الكبرى فقد كان المقدر على الإنسانية أن تبني قبل العلوم تراثاً ضخماً وشديد التعقيد وعام التلبس
العقل البشري يُسلم قياده للأسبق من المعلومات الخاطئة أو الصحيحة ويتشكل بالانطباعات الأولى سواء طابقت الواقع أم خالفته إن المؤثرات الأولى من الخبرات والمعلومات والانطباعات هي التي تحدِّد مسار التفكير وهي التي تصوغ قوالبه وتصنع أُطره، إن البشر يستسلمون لما ألفوه وينقادون لما اعتادوا عليه، ولا يستطيعون الفطنة لطرق التفكير الأخرى المتوفرة إلا إذا تلقوا تدريباً دقيقاً ومراناً صارماً أو إذا شدَّ انتباههم حدث غير عادي ليستوقفهم عن السير التلقائي ويجذبهم إلى الطرق الأخرى المتاحة التي لم تكن التلقائية المهيمنة لتسمح بالانتباه لها، وعن ذلك يقول عالم النفس الشهير ادوارد دي بونو في كتابه (تعليم التفكير): ".. لا توجد لدينا آلية ذاتية من أجل التفكير بالمسارات المناظرة ونحتاج كي نقوم بهذا إلى إطار خارجي إذ بدونه لا يستطيع العقل أن يتخلى بشكل طبيعي عن مسار ليسلك مساراً آخر.." إن بعض النابهين بخبرتهم الذاتية البسيطة قد أدركوا الدور الحاسم للهوى الأول أو لموقف الأسبق أو المعلومة الأولى أو الرأي المستقر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلباً خالياً فتمكنا
إن احتلال العقل بالأسبق إليه هو حقيقة بشرية عامة تتحكم بتفكير وأوضاع الأفراد والمجتمعات والأمم وبالجنس البشري بأكمله لكنني لا أعرف أحداً في الثقافة العربية حاول تأصيلها معرفياً وأظهر الأساس النفسي العميق لهذه الحقيقة البشرية العامة التي هي من أقوى عوائق الإصلاح ومن أمنع حصون الجهالات الراسخة. إن بعض الناس يعرفون على نحو سطحي وساذج بأن العقل الفارغ يحتله الأسبق إليه ويمنع وصول أو قبول أية معلومات تعارضه ومع أن العقل لا يضيق بالمعلومات مهما كثرت ولديه قدرة هائلة على الاستيعاب إلا أن المشكلة ليست بضيق الذاكرة ولا بامتلاء المكان بل المعضلة الكبرى التي تعطل قدرات العقل هي أن المعلومات الأسبق مهما كانت ضالة أو خاطئة أو قليلة تحتله وتبرمجه وتحدد اتجاهاته وتصوغ مواقفه وتجعله يرفض استقبال ما لا يتفق معه فلا يستجيب لأي تصحيح لاحق إلا إذا ووجه بصدمة قوية تقطع انتظام البرمجة أو في حالات استثنائية عند بعض الأفراد وبجهد شاق، فمن الصعب على الإنسان أن يتوقف للمراجعة ويقطع التلقائية الراسخة ويستبعد ما هو مستقر في أعماقه ويسمح للجديد بأن يحل مكانه مهما كان القديم رخيصاً أو خاطئاً ومهما كان الجديد ثميناً وصحيحاً ومن هنا جاءت مقاومة الأمم للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن هنا أيضاً تستمر الأوهام والخرافات والأباطيل تهيمن على العقول رغم اتساع العلوم وانتشار المعارف وتعميم التعليم..
إن الإنسان يحن للأسبق حتى لو كان بيتاً من الشَّعر ويتأفف من اللاحق حتى لو كان قصراً باذخاً لمجرد أنه لم يألفه فالمعيار ليس الأهلية وإنما الأسبقية في الزمان:
لبيت تخفق الأرياح فيه
أحب إليّ من قصر منيف
إن الشاعرة التي قالت القصيدة التي منها هذا البيت قد جيء بها من لواهب الصحراء ووعثاء الغبراء ومن عناء الظمأ والتعب في القفاز الجدباء ومن الحر والقر ومن بيت شعر تمزقه الرياح وتُطيح به العواصف ومن حرارة تشوي الوجوه وتجفف ماء الحياة ولكنها رغم ذلك تحن إلى حياتها السابقة القاحلة مع أنها استبدلتها بحياة مترفة وعيش رخي ومكانة عالية وقصر منيف وخضرة نضرة وأشجار باسقة ومياه دافقة لقد نفرت وضجرت من قصر دمشق الباذخ وحنت لبيت الشعر الممزق وهي بذلك تستجيب تلقائياً لواحد من القوانين النفسية الراسخة والمتحكمة بالإنسان وهي قوانين عميقة وقوية يصعب التخلص منها سواء على مستوى الأفراد أو الفئات أو المجتمعات:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
فإذا كان التعلق بالمألوف يتحكم في عقل الإنسان وعواطفه إلى هذه الدرجة في الأمور المادية المنفصلة عن الذات فإن ما يتعلق بالأمور المعنوية هو أشد تحكماً وأعمق خطراً وأوسع تأثيراً. إن الخبرة الأولى والهوى الراسخ والانطباع الأول والمعلومة السابقة هي التي تصوغ العقل وتشق مسالك التفكير، إنها ليست شيئاً خارجياً منفصلاً عن النفس وإنما هي ممتزجة بها وتحتل بؤرة العقل وتخالط الوجدان بل إنها العقل ذاته والنفس ذاتها لذلك لا تسمح لأي مزاحم بأن يخرجها ويحل محلها وإذا كان بعض النابهين قد أدركوا طرفاً من هذه الحقيقة البشرية الهامة والعامة فإن هذا الادراك السطحي الساذج بقي أيضاً ادراكاً فردياً محدوداً ومقصوراً على تعليل التعلق بالأشخاص والأشياء والأمكنة ولم يمتد ليشمل تعليل رسوخ الأفكار الخاطئة وانتشار المعارف الزائفة والتعرف على حصون الجهل المنيعة ولم يصبح ادراكاً عاماً ضمن العقل الثقافي المشترك ولم يدرك حتى الأفراد الذين جربوه، أن ذلك يتجاوز التجارب الفردية الخاصة ليحكم أوضاع الأفراد والجماعات والشعوب والأمم لتتسم به ثقافات الأمم بأجمعها فتتلون به القيم والعقائد والعادات والتقاليد وطرق التفكير وأنماط السلوك إن ذلك الادراك في العصور القديمة لم يكن أكثر من إضاءات باهتة ومتقطعة وسط الظلمة الحالكة..
أما في هذا العصر فإن ذلك الادراك قد وجد تأصيله المعرفي وعرف طبيعة العقل البشري التي تقود إليه فالمعرفة لم تعد تؤخذ بوصفها ادراكاً ناجزاً يجري قبوله دون عوائق وإنما دُرست في علاقتها بما قبلها من تصورات ضالة وأفكار خاطئة وجهالات راسخة لا تفسح المجال للتحاور مع المعارف الممحصة ولا الاصغاء إلى الحقائق الثابتة. وكما يقول الدكتور فاخر عقل في كتاب (سيكولوجية الادراك): ".. إن المعلومات المبدئية تكون إطاراً ومفتاحاً للمعلومات التالية وإذا كانت المعلومات التالية مخالفة للمعلومات الأولى فإنها تُلوى لتُناسب المعلومات المبدئية.." فالأسبق العفوي أو الملقن مهما كان باطلاً أو مخالفاً للحقائق يحتل العقل ويعمل على تحوير المعلومات الجديدة لتتفق معه، إن الأسبق سواء كان خطأ أو صواباً يمثل إطار التفكير ومفتاح العقل ومحدد الاتجاهات وصانع الاهتمامات..
لذلك فإن المفكر الفرنسي الشهير فولتير في القرن الثامن عشر كان يرى أن معضلة البشر أنهم مقودون بالمعلومات السابقة الخاطئة وأن الأوهام والأغلال النفسية والأيديولوجية والآراء والمواقف المسبقة تحتل عقولهم وتقف حصوناً منيعة لتصدهم عن الحقائق وتمنعهم من قبول المعارف الممحصة، وأمام هذه الآفة المشتركة بين الناس تخيل فولتير فتي بالغاً جاء إلى الحياة مكتمل القابليات ولم تفسده معايشة الجهالات فبقي عقله صافياً لم يتبرمج بالتنشئة التلقائية وما تحمله من الأوهام والتحيزات والخرافات والأغاليط والأهواء ولم يمتلئ ذهنه بما لم يخضع لشروط التحقق مما تمتلئ به أذهان الناس في العادة في كل زمان ومكان وهو يتمنى أن يوجد هذا النوع النقي الفارغ من العقول لأنه يعتقد أنه لو وجد فسيكون تعليمه سهلاً وسريعاً إن نقاءه وسلامته من معوقات المعرفة التي تنجم عن المعلومات الأولى الخاطئة التي يتشربها من البيئة دون فحص ولا تمحيص سوف يتيح له أن يلم دون عوائق: ".. بمعارف البشرية جميعاً في غضون أسابيع لأن عقله الخارج تواَّ من دوحة الطبيعة الأولى الصافية ما زال نقياً ومتحرراً من كل الأوهام والأغلال النفسية والأيدولوجية التي تبعثها التعاليم المسبقة.."، إنها صورة متخيلة ولا يمكن وجودها في حياة الناس لكن المفكرين يفتحون بمثل هذه الصور المتخيلة آفاقاً واسعة للتفكير الحر والانطلاق البصير ويحفزون العقول النابهة على تحمل مسؤولياتهم أمام أنفسهم وأمام الحق وبذل الجهد للتخلص من البرمجة واقتحام لجج الفكر وهو المنهج الذي يعبر عنه قوله تعالى:{.. سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق..}، وقوله تعالى: {.. قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا..}، فالانفصال عن البرمجة شرط للتحقق ومدخل ضروري لادراك الحقائق كما هي لا كما يراد لها أن تكون..
إن حتمية العقل بالأسبق إليه قد عممت الجهل المركب سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو على مستوى الجنس البشري بأجمعه فالفرد يتشرب القيم وعادات التفكير وأنماط السلوك تلقائياً فهذا التلقائي غير الممحص يحتل عقله ويقولب تفكيره ويحدد اهتماماته ويشق اتجاهات نشاطه أما على مستوى المجتمعات فإن كل مجتمع مرتهن بالثقافة التي ورثها من الأجيال السابقة له وليس له أي دور في اختيار ثقافته ولا أية قدرة على استبدالها بثقافة مغايرة أما على مستوى الجنس البشري كله فإنه في مجمل أموره مأخوذ بالثقافات التي لم تخضع لأي تحقق موضوعي ثم لما نشأت العلوم في وقت متأخر جداً من التاريخ الإنساني كانت بمثابة الدخيل الذي يحاول أن يجد له موطئ قدم في الثقافات السائدة التي وطدت وجودها قبله، لذلك بقي التفكير العلمي غريباً عن عقول معظم الناس حتى من يحملون أرفع الشهادات التخصصية فالثقافات التي تتوارثها المجتمعات قبل نشأة العلوم الممحصة هي التي توجه تفكير الناس وترسم اتجاهاتهم وتحدد لهم الاهتمامات واقتصر تأثير العلوم على التخصصات المهنية أو في الغرف المغلقة داخل مراكز البحث وحتى الأفراد الذين يمارسون البحوث العلمية يلتزمون بخطوات المنهج العلمي ضمن النطاق الضيق للتخصص أما خارج مراكز البحث فإن تفكيرهم يظل مأسوراً بالبرمجة الثقافية السابقة للعلم..
إنها معضلة بشرية عامة ليست مقصورة على فرد دون غيره ولا على مجتمع دون آخر ولكن المجتمعات المحكومة بثقافة مغلقة وتتوجس من الجديد وتستنكف من المراجعة تكون مصيبتها مضاعفة لأنها تستبقي عقلها كاملاً ومكوماً بثقافة الارتجال والمشافهة وتمنح الجهل المركب حصانة قوية تحميه من كواشف العلم وتصد عنه أضواء التمحيص وتقمع محاولات المراجعة وتغلق أبواب التصحيح..
إن إصلاح العقل البشري وإبراءه من الجهالات التي احتلته بطريقة التشرب التلقائي والتنشئة العفوية من المهمات الصعبة الكبرى فقد كان المقدر على الإنسانية أن تبني قبل العلوم تراثاً ضخماً وشديد التعقيد وعام التلبس وسيبقى هذا الكم المعقد من العقائد الباطلة والتصورات الخرافية صامداً أمام أي زحف علمي لأنه صاحب الأولوية وعميق الجذور وصلب التكوين وسيظل العلم خاضعاً وخادماً للأهواء والرغبات والجهالات التي أقامتها الثقافات السائدة قبله..
وكما يرى المفكر العظيم محمد كامل حسين - رحمه الله - في كتابه الفلسفي الرائع (وحدة المعرفة) فإن أوثق العلوم هي التي تبحث في الأشياء فحين اكتشف العلم مثلاً بأن الماء مكون من عنصري الأوكجسين والأيدروجين فإن هذه المعرفة ستبقى صحيحة مائة بالمائة وغير قابلة للنقض وكذلك حين اكتشف العلم عنصر الكون وقوانينه وطبيعة الأشياء فهذه المعارف قابلة لأقصى درجات التحقق لذلك فهي الأساس السليم لتشييد المعرفة الممحصة تليها علوم الحياة التي حققت نجاحات هائلة وأثبتت بذلك قدرتها الفائقة على التحقق والتثبت وإن لم تصل إلى مستوى علوم الماديات فإذا كانت العلوم المادية بمثابة الأساس القوي فإن علوم الحياة بمثابة أعمدة البناء أما العلوم الإنسانية فرغم أنها أهم العلوم إلا أنها لم تستطع أن توفر درجة كافية من التحقق لذلك فهي ما زالت تتطلب جهوداً عظيمة من أجل الارتقاء بها إلى الدرجة التي تتلاءم مع تأثيرها الحاسم في حياة البشر ومن هنا جاء الخلل فالمعرفة الأكثر أهمية ما زالت تتعثر بل أسوأ من ذلك أن معظم الثقافات البشرية مشيدة على التخمينات والأهواء فهي مكتملة البناء قبل العلوم كلها ومعضلتها ليست ناجمة عن قصور العلوم الإنسانية التي هي الآن تسعى حثيثة لاكتشاف مجاهل الإنسان وعوائق تطوره وإنما المعضلة ناشئة عن أن تأسيس الثقافات سابق للعلوم كلها بما في ذلك العلوم الإنسانية.. ولكن حتى بعد قيام العلوم فإن ترتيب بناء المعرفة الإنسانية معكوس تماماً فما كان ينبغي أن يكون الأسبق جاء آخراً وما جاء متأخراً كان يجب أن يكون الأول فقد كون الإنسان معرفته السائدة خلال تاريخه الطويل من التخمينات والخيالات والتخرصات والتلبيسات حتى تراكمت جبال من الثقافات المتناقضة، وقد تعهد الله سبحانه البشرية بالرسالات: {.. وإن من أمة إلا خلا فيها نذير..}، لكن الأهواء لا تترك الحكمة الربانية تترسخ في العقل البشري بل تسارع إلى الانحراف وتصد الناس عن الهداية الإلهية لذلك جاءت المعرفة البشرية بهذا الشكل المفكك المضطرب..
ويعلل ذلك المفكر محمد كامل حسين بقوله: ".. كان جديراً بالمعرفة الإنسانية أن تكون ثابتة مستقرة منظمة ما دام النظام الكوني ثابتاً مستقراً منظماً ولكنها مضطربة مفككة وفيها شوائب كثيرة ليس أصلها خلافاً بين النظامين (نظام الكون ونظام المعرفة) وإنما أصل الاضطراب أنه لم يقدر للعقل حين أخذ نفسه بالبحث في أسرار هذا العالم أن يبدأ حيث يجب البدء ولم يقدر لعلمه أن ينمو نمواً طبيعياً ولم يقدر له أن يلم بأشتات هذا العلم فيراه جملة واحدة.. هذه عيوب ثلاثة لم يكن منها مناص قضى بها تاريخ التفكير وهي أصل كل ما في المعرفة من اضطراب ولولاها لكانت المعرفة اليوم وحدة تامة النظام كاملة الترتيب شأنها في ذلك شأن النظام الكوني الذي هي صورته في العقل.."، ثم يقول: ".. ومن أوضح الأمور أن الترتيب الطبيعي للقوانين الكونية يبدأ بأبسطها وأعمها وأدناها وهي قوانين المادة ثم تتلو ذلك قوانين الحياة وهي أكثر تعقيداً ورقياً ثم تأتي بعدها قوانين الإنسان وهي أخص وأرقى وأكثر تعقيداً من قوانين الحياة ولو أن المعرفة بدأت على هذا النحو وتقدمت على هذا الترتيب ما أصابها من الاضطراب ما نراه اليوم ولكنها بدأت بالإنسانيات ثم أتبعتها بعلوم الحياة ثم بالماديات.. النظام الكوني يبدأ من أسفل إلى أعلى ونظام المعرفة يبدأ من أعلى إلى أسفل ومن هناك كان الاختلاف.."، إن هذه الحقائق عن الخلل التكويني للمعرفة الإنسانية وشدة اضطرابها وأسباب هذا الاضطراب وحقيقة احتلال العقل الفردي والجماعي بالأسبق إليه مهما كان محتوى هذا الأسبق وتعلق الإنسان بهذا المحتل ودفاعه عنه واعتباره هو الذات نفسها وهو العقل ذاته وادراك أن كل المعارف تتلون بهذا الأسبق وتخضع له إن كل هذه الحقائق جديرة بأن تمنح الإنسان استبصارات جوهرية تحقق له الصلاح في الدنيا والفوز بالدار الآخر
----------------------------------------
للجميع فائق تحيَّاتي...
- العقل البشري يُسلم قياده للأسبق من المعلومات الخاطئة أو الصحيحة ويتشكل بالانطباعات الأولى سواء طابقت الواقع أم خالفته!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- الإنسان يحن للأسبق حتى لو كان بيتاً من الشَّعر ويتأفف من اللاحق حتى لو كان قصراً باذخاً لمجرد أنه لم يألفه فالمعيار ليس الأهلية وإنما الأسبقية!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- إذا كان التعلق بالمألوف يتحكم في عقل الإنسان وعواطفه إلى هذه الدرجة في الأمور المادية المنفصلة عن الذات فإن ما يتعلق بالأمور المعنوية هو أشد تحكماً وأعمق خطراً وأوسع تأثيراً.!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- بقي التفكير العلمي غريباً عن عقول معظم الناس حتى من يحملون أرفع الشهادات التخصصية فالثقافات التي تتوارثها المجتمعات قبل نشأة العلوم الممحصة هي التي توجه تفكير الناس وترسم اتجاهاتهم وتحدد لهم الاهتمامات واقتصر تأثير العلوم على التخصصات المهنية أو في الغرف المغلقة داخل مراكز البحث!!!!!!!!!!!!!!!!
- المعرفة الأكثر أهمية ما زالت تتعثر بل أسوأ من ذلك أن معظم الثقافات البشرية مشيدة على التخمينات والأهواء فهي مكتملة البناء قبل العلوم كلها والمعضلة ناشئة عن أن تأسيس الثقافات سابق للعلوم كلها بما في ذلك العلوم الإنسانية.. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- ترتيب بناء المعرفة الإنسانية معكوس تماماً فما كان ينبغي أن يكون الأسبق جاء آخراً وما جاء متأخراً كان يجب أن يكون الأول !!!!!!!!!!!!!!!
- النظام الكوني يبدأ من أسفل إلى أعلى ونظام المعرفة يبدأ من أعلى إلى أسفل ومن هناك كان الاختلاف !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
--------------------------------------------------------------------------
العقل يحتلُّه الأسبق إليه
إن إصلاح العقل البشري وإبراءه من الجهالات التي احتلته بطريقة التشرب التلقائي والتنشئة العفوية من المهمات الصعبة الكبرى فقد كان المقدر على الإنسانية أن تبني قبل العلوم تراثاً ضخماً وشديد التعقيد وعام التلبس
العقل البشري يُسلم قياده للأسبق من المعلومات الخاطئة أو الصحيحة ويتشكل بالانطباعات الأولى سواء طابقت الواقع أم خالفته إن المؤثرات الأولى من الخبرات والمعلومات والانطباعات هي التي تحدِّد مسار التفكير وهي التي تصوغ قوالبه وتصنع أُطره، إن البشر يستسلمون لما ألفوه وينقادون لما اعتادوا عليه، ولا يستطيعون الفطنة لطرق التفكير الأخرى المتوفرة إلا إذا تلقوا تدريباً دقيقاً ومراناً صارماً أو إذا شدَّ انتباههم حدث غير عادي ليستوقفهم عن السير التلقائي ويجذبهم إلى الطرق الأخرى المتاحة التي لم تكن التلقائية المهيمنة لتسمح بالانتباه لها، وعن ذلك يقول عالم النفس الشهير ادوارد دي بونو في كتابه (تعليم التفكير): ".. لا توجد لدينا آلية ذاتية من أجل التفكير بالمسارات المناظرة ونحتاج كي نقوم بهذا إلى إطار خارجي إذ بدونه لا يستطيع العقل أن يتخلى بشكل طبيعي عن مسار ليسلك مساراً آخر.." إن بعض النابهين بخبرتهم الذاتية البسيطة قد أدركوا الدور الحاسم للهوى الأول أو لموقف الأسبق أو المعلومة الأولى أو الرأي المستقر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلباً خالياً فتمكنا
إن احتلال العقل بالأسبق إليه هو حقيقة بشرية عامة تتحكم بتفكير وأوضاع الأفراد والمجتمعات والأمم وبالجنس البشري بأكمله لكنني لا أعرف أحداً في الثقافة العربية حاول تأصيلها معرفياً وأظهر الأساس النفسي العميق لهذه الحقيقة البشرية العامة التي هي من أقوى عوائق الإصلاح ومن أمنع حصون الجهالات الراسخة. إن بعض الناس يعرفون على نحو سطحي وساذج بأن العقل الفارغ يحتله الأسبق إليه ويمنع وصول أو قبول أية معلومات تعارضه ومع أن العقل لا يضيق بالمعلومات مهما كثرت ولديه قدرة هائلة على الاستيعاب إلا أن المشكلة ليست بضيق الذاكرة ولا بامتلاء المكان بل المعضلة الكبرى التي تعطل قدرات العقل هي أن المعلومات الأسبق مهما كانت ضالة أو خاطئة أو قليلة تحتله وتبرمجه وتحدد اتجاهاته وتصوغ مواقفه وتجعله يرفض استقبال ما لا يتفق معه فلا يستجيب لأي تصحيح لاحق إلا إذا ووجه بصدمة قوية تقطع انتظام البرمجة أو في حالات استثنائية عند بعض الأفراد وبجهد شاق، فمن الصعب على الإنسان أن يتوقف للمراجعة ويقطع التلقائية الراسخة ويستبعد ما هو مستقر في أعماقه ويسمح للجديد بأن يحل مكانه مهما كان القديم رخيصاً أو خاطئاً ومهما كان الجديد ثميناً وصحيحاً ومن هنا جاءت مقاومة الأمم للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن هنا أيضاً تستمر الأوهام والخرافات والأباطيل تهيمن على العقول رغم اتساع العلوم وانتشار المعارف وتعميم التعليم..
إن الإنسان يحن للأسبق حتى لو كان بيتاً من الشَّعر ويتأفف من اللاحق حتى لو كان قصراً باذخاً لمجرد أنه لم يألفه فالمعيار ليس الأهلية وإنما الأسبقية في الزمان:
لبيت تخفق الأرياح فيه
أحب إليّ من قصر منيف
إن الشاعرة التي قالت القصيدة التي منها هذا البيت قد جيء بها من لواهب الصحراء ووعثاء الغبراء ومن عناء الظمأ والتعب في القفاز الجدباء ومن الحر والقر ومن بيت شعر تمزقه الرياح وتُطيح به العواصف ومن حرارة تشوي الوجوه وتجفف ماء الحياة ولكنها رغم ذلك تحن إلى حياتها السابقة القاحلة مع أنها استبدلتها بحياة مترفة وعيش رخي ومكانة عالية وقصر منيف وخضرة نضرة وأشجار باسقة ومياه دافقة لقد نفرت وضجرت من قصر دمشق الباذخ وحنت لبيت الشعر الممزق وهي بذلك تستجيب تلقائياً لواحد من القوانين النفسية الراسخة والمتحكمة بالإنسان وهي قوانين عميقة وقوية يصعب التخلص منها سواء على مستوى الأفراد أو الفئات أو المجتمعات:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
فإذا كان التعلق بالمألوف يتحكم في عقل الإنسان وعواطفه إلى هذه الدرجة في الأمور المادية المنفصلة عن الذات فإن ما يتعلق بالأمور المعنوية هو أشد تحكماً وأعمق خطراً وأوسع تأثيراً. إن الخبرة الأولى والهوى الراسخ والانطباع الأول والمعلومة السابقة هي التي تصوغ العقل وتشق مسالك التفكير، إنها ليست شيئاً خارجياً منفصلاً عن النفس وإنما هي ممتزجة بها وتحتل بؤرة العقل وتخالط الوجدان بل إنها العقل ذاته والنفس ذاتها لذلك لا تسمح لأي مزاحم بأن يخرجها ويحل محلها وإذا كان بعض النابهين قد أدركوا طرفاً من هذه الحقيقة البشرية الهامة والعامة فإن هذا الادراك السطحي الساذج بقي أيضاً ادراكاً فردياً محدوداً ومقصوراً على تعليل التعلق بالأشخاص والأشياء والأمكنة ولم يمتد ليشمل تعليل رسوخ الأفكار الخاطئة وانتشار المعارف الزائفة والتعرف على حصون الجهل المنيعة ولم يصبح ادراكاً عاماً ضمن العقل الثقافي المشترك ولم يدرك حتى الأفراد الذين جربوه، أن ذلك يتجاوز التجارب الفردية الخاصة ليحكم أوضاع الأفراد والجماعات والشعوب والأمم لتتسم به ثقافات الأمم بأجمعها فتتلون به القيم والعقائد والعادات والتقاليد وطرق التفكير وأنماط السلوك إن ذلك الادراك في العصور القديمة لم يكن أكثر من إضاءات باهتة ومتقطعة وسط الظلمة الحالكة..
أما في هذا العصر فإن ذلك الادراك قد وجد تأصيله المعرفي وعرف طبيعة العقل البشري التي تقود إليه فالمعرفة لم تعد تؤخذ بوصفها ادراكاً ناجزاً يجري قبوله دون عوائق وإنما دُرست في علاقتها بما قبلها من تصورات ضالة وأفكار خاطئة وجهالات راسخة لا تفسح المجال للتحاور مع المعارف الممحصة ولا الاصغاء إلى الحقائق الثابتة. وكما يقول الدكتور فاخر عقل في كتاب (سيكولوجية الادراك): ".. إن المعلومات المبدئية تكون إطاراً ومفتاحاً للمعلومات التالية وإذا كانت المعلومات التالية مخالفة للمعلومات الأولى فإنها تُلوى لتُناسب المعلومات المبدئية.." فالأسبق العفوي أو الملقن مهما كان باطلاً أو مخالفاً للحقائق يحتل العقل ويعمل على تحوير المعلومات الجديدة لتتفق معه، إن الأسبق سواء كان خطأ أو صواباً يمثل إطار التفكير ومفتاح العقل ومحدد الاتجاهات وصانع الاهتمامات..
لذلك فإن المفكر الفرنسي الشهير فولتير في القرن الثامن عشر كان يرى أن معضلة البشر أنهم مقودون بالمعلومات السابقة الخاطئة وأن الأوهام والأغلال النفسية والأيديولوجية والآراء والمواقف المسبقة تحتل عقولهم وتقف حصوناً منيعة لتصدهم عن الحقائق وتمنعهم من قبول المعارف الممحصة، وأمام هذه الآفة المشتركة بين الناس تخيل فولتير فتي بالغاً جاء إلى الحياة مكتمل القابليات ولم تفسده معايشة الجهالات فبقي عقله صافياً لم يتبرمج بالتنشئة التلقائية وما تحمله من الأوهام والتحيزات والخرافات والأغاليط والأهواء ولم يمتلئ ذهنه بما لم يخضع لشروط التحقق مما تمتلئ به أذهان الناس في العادة في كل زمان ومكان وهو يتمنى أن يوجد هذا النوع النقي الفارغ من العقول لأنه يعتقد أنه لو وجد فسيكون تعليمه سهلاً وسريعاً إن نقاءه وسلامته من معوقات المعرفة التي تنجم عن المعلومات الأولى الخاطئة التي يتشربها من البيئة دون فحص ولا تمحيص سوف يتيح له أن يلم دون عوائق: ".. بمعارف البشرية جميعاً في غضون أسابيع لأن عقله الخارج تواَّ من دوحة الطبيعة الأولى الصافية ما زال نقياً ومتحرراً من كل الأوهام والأغلال النفسية والأيدولوجية التي تبعثها التعاليم المسبقة.."، إنها صورة متخيلة ولا يمكن وجودها في حياة الناس لكن المفكرين يفتحون بمثل هذه الصور المتخيلة آفاقاً واسعة للتفكير الحر والانطلاق البصير ويحفزون العقول النابهة على تحمل مسؤولياتهم أمام أنفسهم وأمام الحق وبذل الجهد للتخلص من البرمجة واقتحام لجج الفكر وهو المنهج الذي يعبر عنه قوله تعالى:{.. سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق..}، وقوله تعالى: {.. قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا..}، فالانفصال عن البرمجة شرط للتحقق ومدخل ضروري لادراك الحقائق كما هي لا كما يراد لها أن تكون..
إن حتمية العقل بالأسبق إليه قد عممت الجهل المركب سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو على مستوى الجنس البشري بأجمعه فالفرد يتشرب القيم وعادات التفكير وأنماط السلوك تلقائياً فهذا التلقائي غير الممحص يحتل عقله ويقولب تفكيره ويحدد اهتماماته ويشق اتجاهات نشاطه أما على مستوى المجتمعات فإن كل مجتمع مرتهن بالثقافة التي ورثها من الأجيال السابقة له وليس له أي دور في اختيار ثقافته ولا أية قدرة على استبدالها بثقافة مغايرة أما على مستوى الجنس البشري كله فإنه في مجمل أموره مأخوذ بالثقافات التي لم تخضع لأي تحقق موضوعي ثم لما نشأت العلوم في وقت متأخر جداً من التاريخ الإنساني كانت بمثابة الدخيل الذي يحاول أن يجد له موطئ قدم في الثقافات السائدة التي وطدت وجودها قبله، لذلك بقي التفكير العلمي غريباً عن عقول معظم الناس حتى من يحملون أرفع الشهادات التخصصية فالثقافات التي تتوارثها المجتمعات قبل نشأة العلوم الممحصة هي التي توجه تفكير الناس وترسم اتجاهاتهم وتحدد لهم الاهتمامات واقتصر تأثير العلوم على التخصصات المهنية أو في الغرف المغلقة داخل مراكز البحث وحتى الأفراد الذين يمارسون البحوث العلمية يلتزمون بخطوات المنهج العلمي ضمن النطاق الضيق للتخصص أما خارج مراكز البحث فإن تفكيرهم يظل مأسوراً بالبرمجة الثقافية السابقة للعلم..
إنها معضلة بشرية عامة ليست مقصورة على فرد دون غيره ولا على مجتمع دون آخر ولكن المجتمعات المحكومة بثقافة مغلقة وتتوجس من الجديد وتستنكف من المراجعة تكون مصيبتها مضاعفة لأنها تستبقي عقلها كاملاً ومكوماً بثقافة الارتجال والمشافهة وتمنح الجهل المركب حصانة قوية تحميه من كواشف العلم وتصد عنه أضواء التمحيص وتقمع محاولات المراجعة وتغلق أبواب التصحيح..
إن إصلاح العقل البشري وإبراءه من الجهالات التي احتلته بطريقة التشرب التلقائي والتنشئة العفوية من المهمات الصعبة الكبرى فقد كان المقدر على الإنسانية أن تبني قبل العلوم تراثاً ضخماً وشديد التعقيد وعام التلبس وسيبقى هذا الكم المعقد من العقائد الباطلة والتصورات الخرافية صامداً أمام أي زحف علمي لأنه صاحب الأولوية وعميق الجذور وصلب التكوين وسيظل العلم خاضعاً وخادماً للأهواء والرغبات والجهالات التي أقامتها الثقافات السائدة قبله..
وكما يرى المفكر العظيم محمد كامل حسين - رحمه الله - في كتابه الفلسفي الرائع (وحدة المعرفة) فإن أوثق العلوم هي التي تبحث في الأشياء فحين اكتشف العلم مثلاً بأن الماء مكون من عنصري الأوكجسين والأيدروجين فإن هذه المعرفة ستبقى صحيحة مائة بالمائة وغير قابلة للنقض وكذلك حين اكتشف العلم عنصر الكون وقوانينه وطبيعة الأشياء فهذه المعارف قابلة لأقصى درجات التحقق لذلك فهي الأساس السليم لتشييد المعرفة الممحصة تليها علوم الحياة التي حققت نجاحات هائلة وأثبتت بذلك قدرتها الفائقة على التحقق والتثبت وإن لم تصل إلى مستوى علوم الماديات فإذا كانت العلوم المادية بمثابة الأساس القوي فإن علوم الحياة بمثابة أعمدة البناء أما العلوم الإنسانية فرغم أنها أهم العلوم إلا أنها لم تستطع أن توفر درجة كافية من التحقق لذلك فهي ما زالت تتطلب جهوداً عظيمة من أجل الارتقاء بها إلى الدرجة التي تتلاءم مع تأثيرها الحاسم في حياة البشر ومن هنا جاء الخلل فالمعرفة الأكثر أهمية ما زالت تتعثر بل أسوأ من ذلك أن معظم الثقافات البشرية مشيدة على التخمينات والأهواء فهي مكتملة البناء قبل العلوم كلها ومعضلتها ليست ناجمة عن قصور العلوم الإنسانية التي هي الآن تسعى حثيثة لاكتشاف مجاهل الإنسان وعوائق تطوره وإنما المعضلة ناشئة عن أن تأسيس الثقافات سابق للعلوم كلها بما في ذلك العلوم الإنسانية.. ولكن حتى بعد قيام العلوم فإن ترتيب بناء المعرفة الإنسانية معكوس تماماً فما كان ينبغي أن يكون الأسبق جاء آخراً وما جاء متأخراً كان يجب أن يكون الأول فقد كون الإنسان معرفته السائدة خلال تاريخه الطويل من التخمينات والخيالات والتخرصات والتلبيسات حتى تراكمت جبال من الثقافات المتناقضة، وقد تعهد الله سبحانه البشرية بالرسالات: {.. وإن من أمة إلا خلا فيها نذير..}، لكن الأهواء لا تترك الحكمة الربانية تترسخ في العقل البشري بل تسارع إلى الانحراف وتصد الناس عن الهداية الإلهية لذلك جاءت المعرفة البشرية بهذا الشكل المفكك المضطرب..
ويعلل ذلك المفكر محمد كامل حسين بقوله: ".. كان جديراً بالمعرفة الإنسانية أن تكون ثابتة مستقرة منظمة ما دام النظام الكوني ثابتاً مستقراً منظماً ولكنها مضطربة مفككة وفيها شوائب كثيرة ليس أصلها خلافاً بين النظامين (نظام الكون ونظام المعرفة) وإنما أصل الاضطراب أنه لم يقدر للعقل حين أخذ نفسه بالبحث في أسرار هذا العالم أن يبدأ حيث يجب البدء ولم يقدر لعلمه أن ينمو نمواً طبيعياً ولم يقدر له أن يلم بأشتات هذا العلم فيراه جملة واحدة.. هذه عيوب ثلاثة لم يكن منها مناص قضى بها تاريخ التفكير وهي أصل كل ما في المعرفة من اضطراب ولولاها لكانت المعرفة اليوم وحدة تامة النظام كاملة الترتيب شأنها في ذلك شأن النظام الكوني الذي هي صورته في العقل.."، ثم يقول: ".. ومن أوضح الأمور أن الترتيب الطبيعي للقوانين الكونية يبدأ بأبسطها وأعمها وأدناها وهي قوانين المادة ثم تتلو ذلك قوانين الحياة وهي أكثر تعقيداً ورقياً ثم تأتي بعدها قوانين الإنسان وهي أخص وأرقى وأكثر تعقيداً من قوانين الحياة ولو أن المعرفة بدأت على هذا النحو وتقدمت على هذا الترتيب ما أصابها من الاضطراب ما نراه اليوم ولكنها بدأت بالإنسانيات ثم أتبعتها بعلوم الحياة ثم بالماديات.. النظام الكوني يبدأ من أسفل إلى أعلى ونظام المعرفة يبدأ من أعلى إلى أسفل ومن هناك كان الاختلاف.."، إن هذه الحقائق عن الخلل التكويني للمعرفة الإنسانية وشدة اضطرابها وأسباب هذا الاضطراب وحقيقة احتلال العقل الفردي والجماعي بالأسبق إليه مهما كان محتوى هذا الأسبق وتعلق الإنسان بهذا المحتل ودفاعه عنه واعتباره هو الذات نفسها وهو العقل ذاته وادراك أن كل المعارف تتلون بهذا الأسبق وتخضع له إن كل هذه الحقائق جديرة بأن تمنح الإنسان استبصارات جوهرية تحقق له الصلاح في الدنيا والفوز بالدار الآخر
----------------------------------------
للجميع فائق تحيَّاتي...