خالد المشيطي
13-08-10, 10:29 pm
بعد مرور شهر ونيف على وفاة أبي رحمه الله لم أزل أعيش الحدث بكل حواسي، يحضر خياله، وتعيش معي مواقفه، وتحاصرني ذكرياته، أمر بحالات أنتظر فيها أن يناديني، أو يكلمني، أو ألاقيه في إحدى زوايا المنزل، مازلت أعيش هذا الهاجس، ولا أدري متى سينتهي، لا بل ليته هاجس يستمر ليعيش أبي في ذاكرتي، وأعيش معه، كانت الأيام التي تلت وفاته متشابهة، أول يوم من رمضان أعاد إحياء ذكراه، على السحور والإفطار لم يحضر كالعادة !
بعد مروري بمعاناة الوفاة تبدل معنى (الموت) في ذهني، كنت أتعامل معه بشكل عابر، إن مات أحد قمت بالواجب فحسب، أصلي عليه، وأعزي أهله في المقبرة أو في المنزل ثم أمضي في حال سبيلي، الآن الوضع اختلف، صرت أعيش المصيبة ذاتها التي يعيشها ذوو المتوفى، أتقمص شخصياتهم فأبكي في داخلي، مررت بالتجربة فعرفت حجم قساوتها !
أحمل في قلبي همّ وفاة أبي، ولن يدرك من لم يمر بالمعاناة حجم ألم الحرمان، فقدان شيء يعني إمكانية تعويضه، أما الموت فلا، حلول (اليأس) كاملا بكافة معانيه.
الموت تجربة قاسية خضت غمارها عن قرب، وزاد من قساوتها موت أبي بسكتة قلبية، لم ينذرنا الموت مسبقا كما يفعل مع الكثيرين! فجأة فقدت من ارتبطت به طيلة عمري، عينيّ بعينيه، كلماته بأذنيّ، وكلماتي بأذنيه، جسدي يلامس جسده، أنفاسي تختلط بأنفاسه، وإحساسي يعانق إحساسه، حب نشأ وترعرع، كبر وتفرع.
مازالت ثياب الحزن تغطي جسدي، ودمعات تحرق خدي، غشاء يكاد يحجب بصري، ورعشة تكاد تسقطني، وعبرة تخترق عينيّ من حولي، ونحيب امتد صداه، وبكاء فجر عيني وفمي، إنه ألم الموت، وهل ثمة أعظم منه ألما؟!
كنت أسمع عن مغسلي الموتى وأتساءل: يا لقساوة هذه القلوب التي تتعامل مع أجساد فارقت الحياة! دخلتها لأول مرة في حياتي لأودع عمي عبدالله الذي توفي قبل شهرين من وفاة أبي، كأنني أستعد لحدث أعظم، حينها قررت أن أكسر حاجز الالتقاء بالموتى لأنني في يوم ما سأدخلها مضطراً، تدربت، لكنني لم أكن أتوقع أن الحدث الأعظم سيأتي بتلك السرعة !
مازالت تفاصيل وفاته تأسرني، صباح اليوم الذي سيدفن فيه أبي لم أشأ أن أجعله يستحم استحمامه الأخير لوحده، استجمعت قواي وذهبت إليه تعضدني أيدي أخواني، سألقي عليه النظرة الأخيرة، لأول مرة أراه ولا يراني، قلت في نفسي لعله يتحرك، ربما أنها إغماءة سيفوق منها ولا ينتبه إلى حراكها مُغسّله، ظللت أتابع أطرافه، سمعت كثيرا عن حالات مشابهة فاقت حتى بعد دفنها، رجوت من المكفن ألا يشد وثاقه لئلا يؤلمه، ولئلا ترده عن الحركة إن أفاق، لم ينجح إحساسي، ولم أفقد الأمل، تابعته وهو أمام المصلين لعل حركة تأتي من خلف الكفن، راقبته بعيني حتى وصل إلى الحفرة، أيضا لم أفقد الأمل حتى وحفنات التراب تنهال عليه ربما يئن من تحت التراب، لم أحمله، ولم أحثُ عليه التراب، أيعقل أن أفعل هذا بأبي؟! بعد اكتمال الدفن رضيت بقضاء الله وقدره واستسلمت لأكف المعزين!
والعزاء قائم أكاد أسأل الحاضرين: لماذا لا يحضر أبي إلى مجلس العزاء؟! تأخذني سجة فأنسى أنه مات، لعلي أتناسى! أستقبل المعزين وأشياءه حية تعيش بيننا، سيارته، ثوبه جواله، تحرك فيني شعورا بوجوده، أسبح معه وكلمات المعزين تهطل على أذني، لا يفيقني سوى يدٌ جديدة أمسكت في يدي لتصافحني !
في عمق الألم عشت لحظات سعادة، الناس من حولي يقفون مساندين، مد البشر لم ينقطع ثلاثة أيام متواصلة، الموت أحد مقاييس حجم علاقة الحب التي تربط بين الناس، ومن خلاله قرأت سطورا من الحب كانت مختفية في القلوب.
قبل شهر من وفاة أبي خالطني شعور غريب، أحسست وأنا أقف بين يديه أنه سيموت، هكذا سقطت علي فكرة الموت فجأة، طردتها من ذهني، لكنها ظلت تحوم كطائر فوق رأسي، ذهبت إلى فراشي وأخذت أكتب قصيدة رثاء وبحر من الحزن تحركني أمواجه، كتبت أبياتا من القصيدة ثم استعذت من الشيطان وعدت إلى رشدي، لكن إحساس الموت ظل هاجسا يحضر أحيانا فأعود إلى القصيدة لأضيف إليها بيتا جديدا، اكتملت القصيدة يوم اكتمال أيام أبي في هذه الحياة !!
غفر الله لأبي ولموتاكم ولجميع موتى المسلمين، وكل عام وأنتم بخير.
بعد مروري بمعاناة الوفاة تبدل معنى (الموت) في ذهني، كنت أتعامل معه بشكل عابر، إن مات أحد قمت بالواجب فحسب، أصلي عليه، وأعزي أهله في المقبرة أو في المنزل ثم أمضي في حال سبيلي، الآن الوضع اختلف، صرت أعيش المصيبة ذاتها التي يعيشها ذوو المتوفى، أتقمص شخصياتهم فأبكي في داخلي، مررت بالتجربة فعرفت حجم قساوتها !
أحمل في قلبي همّ وفاة أبي، ولن يدرك من لم يمر بالمعاناة حجم ألم الحرمان، فقدان شيء يعني إمكانية تعويضه، أما الموت فلا، حلول (اليأس) كاملا بكافة معانيه.
الموت تجربة قاسية خضت غمارها عن قرب، وزاد من قساوتها موت أبي بسكتة قلبية، لم ينذرنا الموت مسبقا كما يفعل مع الكثيرين! فجأة فقدت من ارتبطت به طيلة عمري، عينيّ بعينيه، كلماته بأذنيّ، وكلماتي بأذنيه، جسدي يلامس جسده، أنفاسي تختلط بأنفاسه، وإحساسي يعانق إحساسه، حب نشأ وترعرع، كبر وتفرع.
مازالت ثياب الحزن تغطي جسدي، ودمعات تحرق خدي، غشاء يكاد يحجب بصري، ورعشة تكاد تسقطني، وعبرة تخترق عينيّ من حولي، ونحيب امتد صداه، وبكاء فجر عيني وفمي، إنه ألم الموت، وهل ثمة أعظم منه ألما؟!
كنت أسمع عن مغسلي الموتى وأتساءل: يا لقساوة هذه القلوب التي تتعامل مع أجساد فارقت الحياة! دخلتها لأول مرة في حياتي لأودع عمي عبدالله الذي توفي قبل شهرين من وفاة أبي، كأنني أستعد لحدث أعظم، حينها قررت أن أكسر حاجز الالتقاء بالموتى لأنني في يوم ما سأدخلها مضطراً، تدربت، لكنني لم أكن أتوقع أن الحدث الأعظم سيأتي بتلك السرعة !
مازالت تفاصيل وفاته تأسرني، صباح اليوم الذي سيدفن فيه أبي لم أشأ أن أجعله يستحم استحمامه الأخير لوحده، استجمعت قواي وذهبت إليه تعضدني أيدي أخواني، سألقي عليه النظرة الأخيرة، لأول مرة أراه ولا يراني، قلت في نفسي لعله يتحرك، ربما أنها إغماءة سيفوق منها ولا ينتبه إلى حراكها مُغسّله، ظللت أتابع أطرافه، سمعت كثيرا عن حالات مشابهة فاقت حتى بعد دفنها، رجوت من المكفن ألا يشد وثاقه لئلا يؤلمه، ولئلا ترده عن الحركة إن أفاق، لم ينجح إحساسي، ولم أفقد الأمل، تابعته وهو أمام المصلين لعل حركة تأتي من خلف الكفن، راقبته بعيني حتى وصل إلى الحفرة، أيضا لم أفقد الأمل حتى وحفنات التراب تنهال عليه ربما يئن من تحت التراب، لم أحمله، ولم أحثُ عليه التراب، أيعقل أن أفعل هذا بأبي؟! بعد اكتمال الدفن رضيت بقضاء الله وقدره واستسلمت لأكف المعزين!
والعزاء قائم أكاد أسأل الحاضرين: لماذا لا يحضر أبي إلى مجلس العزاء؟! تأخذني سجة فأنسى أنه مات، لعلي أتناسى! أستقبل المعزين وأشياءه حية تعيش بيننا، سيارته، ثوبه جواله، تحرك فيني شعورا بوجوده، أسبح معه وكلمات المعزين تهطل على أذني، لا يفيقني سوى يدٌ جديدة أمسكت في يدي لتصافحني !
في عمق الألم عشت لحظات سعادة، الناس من حولي يقفون مساندين، مد البشر لم ينقطع ثلاثة أيام متواصلة، الموت أحد مقاييس حجم علاقة الحب التي تربط بين الناس، ومن خلاله قرأت سطورا من الحب كانت مختفية في القلوب.
قبل شهر من وفاة أبي خالطني شعور غريب، أحسست وأنا أقف بين يديه أنه سيموت، هكذا سقطت علي فكرة الموت فجأة، طردتها من ذهني، لكنها ظلت تحوم كطائر فوق رأسي، ذهبت إلى فراشي وأخذت أكتب قصيدة رثاء وبحر من الحزن تحركني أمواجه، كتبت أبياتا من القصيدة ثم استعذت من الشيطان وعدت إلى رشدي، لكن إحساس الموت ظل هاجسا يحضر أحيانا فأعود إلى القصيدة لأضيف إليها بيتا جديدا، اكتملت القصيدة يوم اكتمال أيام أبي في هذه الحياة !!
غفر الله لأبي ولموتاكم ولجميع موتى المسلمين، وكل عام وأنتم بخير.