المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : <<< وقفات قرآنية في شهر القرآن .. اعداد .د/علي الحامد / الوقفة الثلاثون والاخيرة >>>


عبدالله صالح العميريني
12-08-10, 06:33 pm
طلبت من اخي ..
د/ علي سليمان الحامد نقل دروسه هنا ليستفيد منها الجميع ... فوافقني مشكورا ..

http://img399.imageshack.us/img399/2741/78419714cd1.gif

بسم الله الرحمن الرحيم
هذه وقفات مع بعض الآيات التي وفقني الله تعالى للتأمل فيها أثناء صلاة التراويح , , وستكون بإذن الله على شكل حلقات يومية , أسأل الله الإعانة والتوفيق , وأن ينفع بها , وأن يجعله عملا خالصاً لوجهه الكريم :
الوقفة الأولى : استحقار الناس وازدراؤهم :
قال الله تعالى :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} (13) سورة البقرة

وقفت ملياً أتأمل هذه الآية , فوجدتُ أن احتقار الناس وازدراءهم صفة من صفات المنافقين , وأن من يحتقر الناس بشيء عاد عليه , وكان هو أولى به من غيره , فالآية الكريمة تتحدث عن المنافقين الذين قال الله فيهم أول الآيات من سورة البقرة : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (8) سورة البقرة .

فالمنافقون لما قيل لهم : " آمنوا كما آمن الناس ", كان ردهم فيه ازدراء واحتقار لغيرهم ممن خالفهم , فقالوا : " أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء " فجعلوا المؤمنين سفهاء , في قمة الاستهتار والسخرية , فجاء الرد الصاعق عليهم من السماء : " أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء "
في جملة مؤكدة بعدد من المؤكدات اللغوية : حرف الاستفتاح : ألا , ثم حرف التوكيد : إنّ , ثم الإتيان بضمير الفصل: هم , مما يفيد الحصر , فإذا قلت مثلا : إنك أنت الكريم , فمعناه : لا كريم إلا أنت , وكما قال تعالى : {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ } (14) سورة طـه
وقوله تعالى : {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (8) سورة آل عمران .
ثم يأتي العقاب الآخر , بأن هؤلاء هم السفهاء ولكن لا يشعرون ولا يعلمون بأنهم سفهاء , وأشد العقاب أن تكون معاقباً وأنت لا تشعر , وأعظم السخرية بك أن يراك الآخرون غبياً سفيها وأنت لا تعلم , وهذه حال المنافقين : سفهاء ولكن لا يعلمون .

عبدالله صالح العميريني
12-08-10, 06:34 pm
الوقفة الثانية : ثنائية اليهود والنصارى .

قال الله تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (113) سورة البقرة
كلنا نعرف المعلومة التي تقول : آية صَدَقَ فيها اليهود والنصارى , وهي تعني هذا الآية الكريمة , فاليهود يقولون : إن النصارى ليسوا على شيئ في دينهم , والنصارى يقولون : إن اليهود ليسوا على شيء في دينهم .
وقد تأملت هذه الآية جيداً فوجدتُ أن هذه المعلومة يشوبها شيء من عدم الصواب , وذلك أن سياق الآية يدل على أن الله
تعالى قد ذمهم على هذا القول بقوله : " وهم يتلون الكتاب " ثم عقب على ذلك بقوله : " كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم " فمن قال مثل قولهم فهو من الذين لا يعلمون .
وقد رجعت إلى التفسير فوجدت مجاهداً رحمه الله يقول بهذا القول , ويفسر لنا هذه الآية تفسيراً يتضح فيه الإشكال .
قال مجاهد رحمه الله : " قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيئ , ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا " وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ " قال : بلى , قد كانت أوائل اليهود على شيء , ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا " تفسير ابن كثير : 1 / 206 .
فمجاهد رحمه الله , بيّن أن أصل دين اليهود والنصارى كان شيئاً , ولكنهم تفرقوا وابتدعوا في الدين .
وحينئذ فهم على صواب من جانب , وعلى خطأ من جانب آخر .
فهم على صواب حين ذكروا أن دين اليهود والنصرانية ليس على شيء , وخاصة بعد مجيء الإسلام , ويؤيده ما جاء في بعض الروايات أن الآية نزلت في نصارى نجران حين جاؤوا المدينة فاختصموا مع أحبار يهود المدينة فقالت كل طائفة مقولتها .
وهم على خطأ لأن أصل الديانتين على شيء , ولكن كل طائفة كفرت بالأخرى تكذيباً لما جاء في كتبهم المنزلة , ولهذا بين سبحانه أنه سيحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه " فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ "
وحين تأملتُ الحزب الثاني من الجزء الأول وجدت هناك ثنائية بين اليهود والنصارى يتحدون بينهم إذا كانوا ضد الإسلام , ويختلفون إذا كانوا مع بعضهم .
من اتحادهم قوله تعالى : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (111) سورة البقرة , فجعلوا الجنة خاصة باليهود والنصارى , وبين سبحانه أن هذه أمنية من أمنياتهم .
والطائفتان حين يجعلون الجنة خاصة بهم فهو يخرجون المسلمين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم منها ,,, ساء ما يحكمون .
وقال سبحانه : {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (120) سورة البقرة .

فبين سبحانه أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم , فجعلَ ملة اليهود والنصارى واحدة ( ملتهم ) بالإفراد , إما لأنهما متقاربتان في الضلال , وإما لأن اتباع إحدى الديانتين خروج عن الإسلام , ويكون بهذا تساويا في الحكم , بمعنى أنه لا فرق في الدين الإسلامي أن تكون يهودياً أو نصرانياً إذا أنت لم تكن مسلماً , فمِلَّةُ الكفر واحدة .

وقال تعالى : {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (135) سورة البقرة
فبين سبحانه رغبة أهل الكتاب لإخراج المسلم عن دينه , بأن يكون يهودياً أو نصرانياً , لا فرق عندهم , المهم أن تخرج من دين الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام .

وهنا نجد الثنائية التي أشرت إليها في العنوان بين اليهود والنصارى , وكأنه لا خصم للمسلمين إلا هؤلاء , وهو ما يؤكده الواقع , فلا دين ولا أمة تحارب المسلمين حالياً إلا وتدين إما باليهودية أو النصرانية , ولهذا جاء التحذير الصريح منهم بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة .
ولهذا جاء التحذير من اتباع صراط اليهود والنصارى مكرراً في صلاة المسلم كل يوم يقرؤها في كل ركعة : " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " . والمغضوب عليهم هم اليهود , والضالون هم النصارى كما هو معلوم في التفسير .

فاليهود والنصارى ما داموا ضد المسلمين فهم ملة واحدة , ينصر بعضهم بعضاً , ويجامل بعضهم بعضاً كقوله تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } (18) سورة المائدة .

أما حين يكونون متقابلين فهم أعداء فيما بينهم : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ".
والله تعالى أعلم .

ămōяẻ
12-08-10, 07:03 pm
جزاك الله خير

( قصة لم تكتمل )
12-08-10, 07:04 pm
ماشاء الله تبارك الله
الله يجزااااك خير

.. بآآنسك ..
12-08-10, 07:10 pm
جزاك الله خير
وكثر ربي من امثالك

ابونورة
13-08-10, 05:01 am
نفحــات إيمانيــة مفيـدة ومعبرة
والشكر كل الشكر للدكتــور/علي سليمان الحامد
على موافقتـه على نشـرها في منتدى بريدة
والشكر موصـول لك أخي أبو صـالح على جهدك وتعبك
في وضعها كموضوع جميـل ومنسق ومرتب في قسـم رمضــان المبارك

سنّيه
13-08-10, 05:24 am
بارك الله فيما كتبت

>ريانه<
13-08-10, 06:04 am
جزاك الله الف خير

عبدالله صالح العميريني
13-08-10, 06:01 pm
شكرا للجميع على الحظور هناء

عبدالله صالح العميريني
13-08-10, 06:02 pm
الوقفة الثالثة : الصوم والدعاء :
قال تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} , والدعاء هو العبادة , وقد جعل الله تعالى الحديث عن الدعاء في ثنايا الحديث عن الصوم , مما يدل على صميم العلاقة بين الصوم والدعاء , وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد " حديث حسن ذكره ابن حجر العسقلاني في الفتوحات الربانية , وأخرجه ابن ماجة في سننه , والمنذري في الترغيب والترهيب .
وجاء في حديث آخر : " ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم " أخرجه أحمد في مسنده , والترمذي , والمنذري في الترغيب والترهيب , وصححه أحمد شاكر رحمه الله , وحسّنه ابن حجر .
والحديث حول فضل الدعاء طويل , وقد كتبت فيه المصنفات , ولكني أشير إلى بعض النكت العظيمة في هذه الآية الكريمة
ومن ذلك :
1. أن الله تعالى صَدّر الآية بالظرف : إذا , وهو ظرف لما يُستقبل من الزمان , واسم شرط غير جازم , يفيد حتمية وقوع الشرط وجوابه , فالسؤال عن الله تعالى أمر واقع لا محالة من الأمة , والجواب الشافي الكافي هو في هذه الآية .
2. جعل الله تعالى السائلين عنه عباداً له , بل أضافهم إلى نفسه إضافة تشريف , وأي شرف أعظم من أن يسميك الله تعالى عبده كما قال سبحانه : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) سورة الإسراء .
3. جاء جواب الشرط مصدراً بالفاء الرابطة الجوابَ بشرطِه تقوية وتمكيناً , وبعدها حرف التوكيد ( إن ) ( فإني قريبٌ )
4. جاء خبر ( إن ) لفظاً واحداً دالا على المعنى من جميع جوانبه : ( قريب ) , وأي شيء أعظم من قرب الله تعالى للعبد حين يدعوه .
5. الارتباط الوثيق بين القرب وبين استجابة الدعاء , فليس هناك فاصل بينهما , فالقرب يقتضي إجابة الدعاء مباشرة ( قريبٌ أجيبُ ) لا فواصل ولا وسائط , الإجابة فورية وسريعة .
6. ولكن يجيب مَنْ ؟ إنه يجيب دعوة الداعي بشرطين : الشرط الأول : أن يقوم بالدعاء , والشرط الثاني : أن يكون دعاؤه خالصاً لوجه الله , فلا يدعو إلا الله " دعوة الداعِ إذا دعانِ " فالشرط الأول : مأخوذ من : ( دعوة الداعِ ) والشرط الثاني : مأخوذ من ( إذا دعانِ ) , والجملة ( إذا دعانِ ) تستلزم الشرطين معاً , ولكنه أعادها ليبين عظمة الإخلاص في العمل والدعاء , فكأنه قال سبحانه : أجيب دعوة الداعي بشرط أن يدعوني أنا وحدي , ولا يدعو معي غيري . كما قال سبحانه : {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} (20) سورة الجن .
فالآية العظيمة تدل على أن إجابة الدعوة حاصلة بشرط وجود الدعوة بإخلاص , ولهذا روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : " والله إني لا أحمل هَمَّ الإجابة , ولكن أحمل هَمَّ الدعاء " , وقد أخذ الفاروق رضي الله عنه هذا المعنى من هذه الآية حين فهم أن ربه تبارك وتعالى وعده بالإجابة بشرط أن يقوم بالدعاء مخلصا لله تعالى .
7. ثم ختمت الآية بأمر الله تعالى لعباده بأن يستجيبوا له فيدعوه ولا يستكبروا عن دعائه {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر , وأمرهم أن يؤمنوا بوعده وأنه سبحانه سيجيب دعواتهم , وفي ذلك رشدٌ لهم وفلاح الدارين " فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ "

والله تعالى أعلم .

عبدالله صالح العميريني
14-08-10, 06:10 pm
الوقفة الرابعة : مقارنة بين المسلم والكافر , وإعجاب المسلم بالكافر :
قال الله تعالى : {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (221) سورة البقرة
لن أتحدث عن تفسير الآية , فمعناها واضح , وهو تحريم زواج المسلم من الكافرة , وتحريم زواج الكافر من المسلمة , والكلام فيه تفصيل عند أهل العلم , ولكني أحب أن أشير إلى نقطتين لاحظتهما في هذه الآية :
الأولى : إثبات خيرية المؤمن على المشرك , وأنه لا مقارنة بين المؤمن والمشرك بالله في التفضيل , فالأول أفضل وأكمل , " وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ " " وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ " ومثل ذلك قوله سبحانه : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ , مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ( 35 , 36 ) سورة القلم , وكما قال تعالى : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} (18) سورة السجدة .
فإذا كان المؤمن والفاسق لا يستويان , فالفرق بين المؤمن والمشرك من باب أولى .
ولهذا نعلم أن تشدق كثير من الكتاب والناهجين منهج العقلنة والعصرنة بأن الإنسان أخو الإنسان وأنه لا فضل لأحد على أحد , فكلاهما في الإنسانية سواء - مخالفٌ لمنهج كتاب الله تعالى , بل جاء المعيار الحقيقي الذي تتفاضل به الإنسانية : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (13) سورة الحجرات .
ولأن النص القرآني محكم عظيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , فقد جاء التعبير بلفظ الإيمان " ولعبد مؤمن " ولم يأتِ بلفظ الإسلام , لأن الإيمان يشمل الإسلام الظاهر , ويشمل الصدق الباطن الحامل على التقوى والأمانة والنزاهة , فالمسلم إذا بلغ منزلة الإيمان فهو أفضل عند الله تعالى , وأفضل للناس من الكافر المشرك بالله واليوم والآخر .
وأختم هذا بقوله تعالى في سورة البينة حين جعل المشركين شر البرية , وجعل المؤمنين خير البرية :
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ , إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (6-7) سورة البينة .
الثانية : أن المسلم قد يُعجَبُ بالكافر , وهذا ليس فيه بأس للوهلة الأولى , بشرط ألا يحمله هذا الإعجاب على تفضيل الكافر على المسلم إلا بأمور دنيوية لا يتقنها إلا الكافر .
ومحل هذه الملاحظة قوله تعالى : " وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ " " وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ " والضمير يعود في الأولى على المشركة وفي الثانية على المشرك , حيث بينة الآية أن المشرك قد يُعجِبُ المسلم إما بشكله أو بعمله أو بأي شيء آخر .
ولم تنفِ الآية هذا الإعجاب , ولم تمنعه , وإنما منعت الزواج بين المسلم والكافر , وحينئذ فإعجاب المؤمن بالكافر إذا لم يحمله على مخالفة شرعية فليس محل نظر شرعي , بل جاء الشارع بإثباته وافتراضه .
فنرى هنا أن القرآن منع تقديم مصلحة الإعجاب على مصلحة مصاهرة المسلم مع المسلم , أما إذا لم يتصادم الإعجابُ مع ما هو أولى منه فلا بأس فيه , والله أعلم .

فديتك يابريده
15-08-10, 12:58 pm
الله يجزاك الف خير وسكنك فسيح جناته

عبدالله صالح العميريني
15-08-10, 04:16 pm
الله يجزاك الف خير وسكنك فسيح جناته

وياك الله يجزا الجميع الجنه

عبدالله صالح العميريني
15-08-10, 04:17 pm
الوقفة الخامسة : كرامة المسلم .
قال الله تعالى : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (262) سورة البقرة
تتحدث الآية الكريمة عن فضيلة الإنفاق في سبيل الله , وأن المنفق أجره على الله , وموعود بالأمن والطمأنينة عند الله بشرطين أساسيين :
الشرط الأول : ألا يُتْبِعَ نفقَتَه مَنّاً على الْمُنفَق عليه .
الشرط الثاني : ألا يُتْبِعَ نفقتَه أذىً يلحق المنفَقِ عليه .
قال تعالى : " ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى "
والْمَنُّ : أن يعتد على من أحسنَ إليه بإحسانه .
والأذى : أن يتطاولَ عليه بسببِ ما أنفقَ عليه .
والتنصيص على نفي هذين الخلقين الذميمين في حال الصدقة , وأن عدمهما شرط لقبولها فيه رفعة لكرامة المسلم أو الإنسان بشكل عام , فالشارع الحكيم يحث الناس على عدم المساس بكرامة الآخَر , ولو كان هذا الآخَرُ قد أخذ منك صدقة ما .
وأي جُرْحٍ لِلْكَرَامَةِ حين يتصدق عليك شخص ثم يمن بها عليك ويعيرك بها , أو يؤذيك بسببها , وقديما قالت العرب : إذا صنعتم صنيعةً فانسوها , وقال شاعرهم :
وإنَّ امرءاً أسدى إلَيَّ صنيعةً ,,, وذكّرنيها مرةً لَلَئيمُ
وقالت العربُ أيضاً : صِنْوانِ من منحَ سائلَهُ ومنّ , ومن منعَ نائله وضَنَّ .
أي أن من أعطى مع المَنّ , مثل الذي منع السائل وبخِل .
والصِّنْوان : مثنى صِنْو , وهو المِثل , أي أنهما متماثلان ليس بينهما فرق ,
والضنّ : البخل .
وفائدة الإتيان ب( ثم ) في قوله : ثم لا يُتبعون ما أنفقوا ... : التراخي في نفي المن والأذى مع طول الوقت , أي يدومون على تناسي الإحسان , وعلى ترك الاعتداد به والامتنان , ولا يمكن أن يعودوا إليهما في أي زمن وتحت أي ظرف . انظر : حاشية كشاف الزمخشري لأحمد بن المنير 1 / 311 .
وقد بين الله تعالى أن المن والأذى سبب لبطلان الصدقة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى } (264) سورة البقرة .
وقد جاءت السنة الكريمة بالوعيد الشديد على من أتبعَ نفقته مَنّاً يؤذي به كرامة أخيه المنفَقِ عليه .
قال صلى الله عليه وسلم : " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُم الله يَومَ القِيامَةِ ولا يَنْظُر إِليهِمْ ولا يُزَكِّيهِم ولَهُم عَذَابٌ أليم : المنّانُ بِما أَعْطَى , والمسْبِلُ إِزَارَه , والمنفِقُ سِلْعَتَه بِالْحَلِفِ الكَاذِب " رواه مسلم .
فعل رأيتم حفظاً لكرامة الإنسان وكرامة المسلم أعظم من هذه الكرامة حين يشدد الشارع الحكيم على عدم الإساءة لمن أنفقتَ عليه بالامتنان والأذية ؟؟؟
بقيت مسألة واحدة , وهي أن الله تعالى قال في نفس السياق : {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (263) سورة البقرة
فأتى هنا بذكر الأذى فقط , ولم يرد ذكرٌ للمَنّ , مع وروده في الآية التي قبلها وهي : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (262) سورة البقرة , والآية التي بعدها وهي : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى } (264) سورة البقرة .
فلماذا جاء ذكر المن في الأولى والثالثة , ولم يرد في الثانية ؟؟
بحثتُ فلم أجد جواباً شافياً فاستعنتُ الله تعالى في إنعام النظر هنا , ولعل قارئاً يكون أوسع إدراكاً فيفيدنا بعلم أكثر .
قلتُ – والعلم عند الله - : أن الآية الأولى كانت الصدقة فيها عامة ( ما أنفقوا ) و ( ما ) موصولية تعم جميع الصدقات , فجاء الشرط هنا مستقصى بذكر المن والآذى , وفي الآية الثالثة كذلك جاء لفظ : الصدقات جمعاً , فناسب ذكر المحذور مفصلاً .
أما في الآية الثانية فجاء لفظ الصدقة مفرداً ( خير من صدقةٍ .. ) فأُتبعتْ باحترازٍ مفرد يناسب لفظها , وكان المفرد أحد لفظين ( المن والأذى ) , فاختير أعم اللفظين وهو الأذى , لأن الأذى يشمل المن وغيره من أنواع الأذى , فكلُّ مَنٍّ أذى وليس العكس .
أمرٌ ثانٍ : وهو أن الآية الأولى في سياق بيان الثواب للمنفق , وبيان الشرط الأساسي لقبول الصدقة وهو خلوها من المن والأذى فناسب أن يؤتى بالشرط مُفَصَّلاً , وفي الآية الثالثة جاءت الآية بسياق النهي والتحذير فانسب أيضاً أن يجيء النهي عما يبطل الصدقة مفصلا ( منا وأذى ) , أما في الآية الثانية فكانت مقارنة بين حالتين : قول معروف ومغفرة ,, وصدقة متبوعة بأذى , فلم يكن للتفصيل هنا مكان , فناسب الإتيان بلفظ عام يشمل الاثنين .
أمر آخر : وهو أن الآية الثانية فيها توازن في المعادلة – إن صح التعبير – فقد جاءت المقارنة بين شيئين مكونين من شيئين : قول معروف + مغفرة في مقابل : صدقة + أذى , فتمت المعادلة هنا , وجاءت الخيرية للأول .
ولو ذُكِرَ لفظ ( المنّ ) مع الثاني لكانت المعادلة : صدقة + مَنّ + أذى , وحينئذ يختل توازن المعادلة لأنها تصبح ثلاثة ف مقابل اثنين , ويختل النظم القرآني العظيم .
والله تعالى أعلم وأحكم , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

آبو بتال
16-08-10, 12:58 am
جزاك الله خير
اللهم أجعلة في ميزان حسناتك
وفقك الله كل خير
تقبل مروري

الافق
16-08-10, 06:08 pm
مشاء الله تبارك الله ..نفحــات إيمانيــة مفيـدة ومعبرة
وشكراً جزيلاً للدكتــور/علي سليمان الحامد
والشكر موصـول لك أخي أبو صـالح
وبارك الله في جهودكم

تحياتي

M Z A G E Y ●
16-08-10, 06:10 pm
جـزآكـ الله ألف خير
وشـآكركـ على جـهودكـ

عبدالله صالح العميريني
16-08-10, 11:17 pm
شكرا للجميع على حظورهم هنا

عبدالله صالح العميريني
16-08-10, 11:18 pm
الوقفة السادسة : التسمية الخالدة :
قال تعالى : {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (36) سورة آل عمران .
عشت لحظاتٍ من التأمل حول هذه الآية الكريمة التي بينت لنا بجلاء قيمة المرأة منذ قديم الزمان , وأن لها عند الله تعالى أعلى المراتب , وتعجبت من حال مجتمعنا الذي يغمط المرأة حقها في كثير من الأحيان , وأكثر ما يغمطها اسمها الذي هو أخص خصائصها .
فوقفت متأملاً قوله تعالى : " وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ " فوجدتُ فيه رفعة لشأن المرأة من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن الله قص علينا هذه القصة في سياق المدح والثناء , لأنه أثنى في بداية الكلام على آل عمران : " {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (33) سورة آل عمران .
فأيُّ حَدَثٍ في هذه القصة إنما من قبيل القصص الحسن الذي يقتدى به , والذي ينزل بأعلى المراتب شرفاً لذكره في كتاب الله تعالى .
الوجه الثاني : أن الْمُسَمِّي هنا امرأة , وهي امرأة عمران , فالذي قام بتسمية المولود ليس والدها , وإنما أمها رحمها الله : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ,فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} سورة آل عمران .
وحينئذ فأي شرف وأي رفعة للمرأة أن يقص الله علينا هذه الحادثة مبيناً أن المرأة هي من يسمي وليدها .
تأملت هذا وأنا أرى بعض بني قومي يأنفون أن تسمي نساؤهم أطفالها , أو بعض أطفالها , وإن حصل أن سمت الأم طفلها باسمٍ تختاره , فإن الأب يكتم هذا أشد الكتمان عن أقاربه وذويه , ويتظاهر أمامهم أن الاسم من اختياره وقناعته , وكأن تسمية الأم لوليدها عيبٌ يوجب التستر منه !!
الوجه الثالث : أن امرأة عمران أعلنتها صريحة مدوية بأن اسم طفلتها ( مريم ) ليعلم الناس كلهم باسم هذه الأنثى الصغيرة , في موقف يضرب العادات البالية عند بني قومي بالصميم ؛ إذ يرون اسم البنت عيباً لا يصح كشفُه , مكتفين بالتورية عنها في أي محفل : الوالدة , كريمتنا , أم فلان , البنت , الولية , المعزبة ... الخ من ألفاظ التعمية عن اسم المرأة وكأنه عار وشنار .
( مريم ) اسم عظيم خالد لامرأة عظيمة جاء ذكرها في القرآن في مواضيع كثيرة , وكانت أماً لرسول الله عيسى عليه السلام خامس أولى العزم عليهم السلام .
( مريم ) اسم بارز لامرأة صرّحتْ أمها بتسميتها , وجاء القرآن ليخبرنا قصة هذه التسمية دون عيب أو خجل , وهو ما فعله المصطفى صلى الله عليه وسلم حين مارس ذلك في حياته فعلاً : " عَلى رَسْلِكُما إِنِّها صَفِيَّة " " أحب الناس إليّ عائشة " " لو أن فاطمة بنت محمد ... " .
فهل بعد هذا ثَمَّ حُجَّةٌ لِمُتَحَجِّجٍ بِأنَّ اسمَ المرأةِ عَيبٌ عِندَ الأصْدقاءِ والخِلان ؟؟

6/ 9 / 1431هـ

عبدالله صالح العميريني
17-08-10, 06:24 pm
الوقفة السابعة : تنوع الانتصارات .
قال الله تعالى : {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ , وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (140_141) سورة آل عمران
الآيتان الكريمتان جاءتا في سياق الحديث عن غزوة أحد التي أصيب فيها المسلمون , وقتل منهم الشهداء , وابتلي المؤمنون ابتلاء عظيماً .
وعند التأمل في هاتين الآيتين نجد أن الله تعالى يبين لنا أسباب تدوال الناس الانتصارات , فتارة ينتصر هذا المعسكر , وتارة ينتصر الآخر , حسب سنة الله تعالى .
بدأت الآية الأولى بحرف الشرط ( إنْ ) الدال على عدم تأكيد الشرط في الغالب , بخلاف ( إذا ) الدالة على تأكيد وقوع الشرط , فإذا قلتَ : ( إن زرتني أكرمتك ) فإن الزيارة غير مؤكدة , وإذا قلت : ( إذا زرتني أكرمتُك ) فالزيارة مؤكدة .
فإن يمسسكم قرح : فالبداءة بإن دليل على أن هذا المسّ الذي أصابكم أيها المؤمنون خلاف ما وعد الله به نفسه من نصرته لكم , ولكنه أتى به لحكمة يريدها بينها في آخر الآية .
والقَرح : أَلَمُ الجِراح , ويجوز ضم القاف : القُرْح . وقد نَسَبَ المسّ إلى القَرْح جريا على السنة القرآنية في نسبة المصائب إلى غير الله , وإن كانت من عند الله قطعاً , ولكن من باب التأدب مع الخالق جل جلاله وتربية لعباده بتنزيه الله عن الشرور كما قال تعالى : " {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} (10) سورة هود ( فنسب النعماء إليه , ونسب المس إلى الضراء ) , وقال تعالى : " {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (36) سورة الروم ( فنسب الرحمة إليه سبحانه , ونسب الإصابة إلى السيئة ) , وقال تعالى : { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} (48) سورة الشورى , وهذه مثل تلك . والأمثلة على ذلك من القرآن كثيرة .
ثم بيّن سبحانه أنه إن كان مسكم قرحٌ فقد مسّ القومَ الآخرين وهم كفار قريش قرح مثله , وذلك في غزوة بدر الكبرى , ثم جاءت القاعدة العظيمة : (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) والمراد بالأيام هنا المعارك والحروب , وهذا معنى خاص , ومنه أيام العرب , والمعنى العام : هو الانتصارات بشتى الميادين .
وهذه سنة الله تعالى حيث جعل الناس يتداولون القوى العظمى على هذه الأرض , ولا تكون لأمة وحدها تسيطر على الناس , لئلا تفسد الأرض , ولهذا جعل سبحانه على مدار التأريخ مناوئين ومحاربين لكل أمة مسيطرة , لئلا تفسد الأرض بسيطرة أمة واحدة , حتى ولو كانت هذه الأمة صالحة , لأن عدم المنازعة يجعلها تركن للدعة والضعف والخور , وهذا تفسير لقوله تعالى : " { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (251) سورة البقرة.
ثم بيّن سبحانه الحكمة من مداولة الانتصارات بين المسلمين وغيرهم , وحَصَرها في الأمور التالية :
1. لكي يعلم الله المؤمنين إيماناً حقيقياً , فلا يرتدون على أدبارهم بسبب هزيمتهم في معركة واحدة , بل يثبتون على دينهم , أما المنافقون وضعيفو الإيمان فهم الناكصون على أدبارهم والشاكّون بوعد الله تعالى وأنه حق , قال تعالى : " وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ " أي آمنوا إيماناً حقيقاً بالله تعالى ووعده الحق بالنصرة , حتى وإن اعترى طريقَ الحق بعض الانكسارات , فوعد الله آتٍ , ومثله قوله تعالى في نفس السياق والسورة : {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ , وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } (166_167) سورة آل عمران , وهاتان الآيتان واضحتان في الدلالة على ما ذكرنا . وفي سورة الأحزاب توكيد آخر لموقف المؤمنين والمنافقين , وأن مواقف الشدة تكشف حقيقة الإيمان من عدمه .
2. أن الله تعالى أراد أن يكرم بعض عباده بالشهادة العظيمة في سبيله , وأي درجة ورفعة أعظم من الشهادة في سبيل الله " وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء " , وذكر الزمخشري معنى آخر للشهادة هنا لا أراه بعيداً حيث قال : " وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلي به صبركم من الشدائد من قوله تعالى " { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } " الكشاف : 1 / 420 . ثم قال تعالى : " وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " وهذه الجملة اعتراض بين بعض التعليل وبعض , ومعناه : والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المستحقين للشهادة , لأنهم قد ظلموا أنفسهم بالشك بوعد الله تعالى . انظر كلام الزمخشري 1 / 420 .
3. أراد سبحانه أن يطهر عباده المؤمنين من ذنوبهم بما يصيبهم من البلاء , وهذا تمحيص لهم " وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ " والتمحيص : التطهير .
4. العلة الرابعة من مداولة الانتصارات أن يمحق الكافرين , وهذه لها معنيان عند أهل التفسير , إما أن يمنحهم الانتصار فيغتروا بأنفسهم ويكون ذلك سببا لمحقهم وزيادة عذابهم بما يفعلونه من كوارث وطغيان ( تفسير ابن كثير ) , وإما أن الله تعالى يجعل الدولة للمؤمنين فيمحق الكافرين ويستأصل شأفتهم بأي المؤمنين ( تفسير الزمخشري ) , ولعل القولين مقصودان , فلا مضادة بينهما , فإن كانت الدولة للمؤمنين كان المحق حقيقيا في الدنيا , وإن كانت الدولة للكافرين كان المحق معنوياً في الدنيا تمهيداً لعذاب الآخرة . والله تعالى أعلم

عبدالله صالح العميريني
18-08-10, 06:33 pm
الوقفة الثامنة : حفظ جناب الأعراض :
قال الله تعالى : {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } (15) سورة النساء .
تتحدث الآية عن أحكام النساء الزواني , ومصيرهن في شرع الله , وللعلماء كلام طويل في هذه الآية , وهل هي منسوخة في آية النور أم لا ؟ يراجعُ في مظانِّه من كتب التفسير والأحكام , وقصدي هنا أن أستنبط بعض الفوائد والدلالات .
الآية افتُتِحَتْ باسم الموصول ( اللاتي ) وهو دالٌّ على جمعٍ مؤنَّث , ومُفْرَدُه ( التي ) , ومثله : ( اللائي ) كما قال تعالى : {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ } (4) سورة الطلاق . ويجوز أن يُنْطَقا بحذفِ الياء ( اللاتِ واللاءِ ) , والاسم الموصول في أصل وضعه يدل على العموم .
( يأتين الفاحشة ) فعل مضارع ونون النسوة فاعله , والفاحشة مفعوله , والفاحشة هنا يقصد بها الزنا قطعاً , والجملة صلة الموصول , وفيها دلالتان :
الدلالة الأولى : أن النساء هُنَّ اللاتي تَعَمَّدْنَ فِعْلَ الفَاحِشَة , ولم يُكْرَهْنَ عليها .
الدلالة الثانية : أن فيها شبه إثبات لعملية الفاحشة , بمعنى أن النساء قد وقعن فيها فعلاً , فما العمل ؟
جاء الجواب بما بعده : " فاستشهدوا عليهن أربعة منهن "
أي فاطلبوا الشهادة والبينة على إثبات وقوع الحادثة بأربعةٍ من الشهود الرجال , والدليل أنهم رجال قوله : " منكم " فالضمير المذكر يدل على تذكير الشهود , ويدل أيضاً على إن الشهود مسلمون ؛ إذ لا يؤخذ بقول شهادة كافرٍ على مسلم في مثل هذا { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (141) سورة النساء .
فهذا السياق يدلنا على حرص الشريعة على حفظ جَنَابِ عِرْضِ المسلم , وخاصة النساء اللاتي قد يقعن في الفاحشة , ولكن لا يمكن معاقبتهن إلا ببينة مغلظة قوامها أربعة شُهَداء .
فنلحظ أنه في أول الآية أنه استخدم الاسم الموصول الدال على إثبات الحدث , ولكنه ليس إثباتاً قطعياً ؛ لأن الاسم الموصول فيه نسبة تعليق كالشرط , ولكنه ليس شرطاً , فالتعبير بالموصول ليدل على نسبة وتناسب في إثبات الحدث من عدمه , ولو كان التعبير بلفظ الشرط ك ( إنْ ) أو ( مَنْ ) لكان التعليق قطعياً .
ثم قال سبحانه : ( فإنْ شَهِدوا ) صدّرَ الشرط بلفظ ( إنْ ) , وهو لا يدل على الجزم بوقوع الشرط , بل يدل على الاحتمال , بخلاف ( إذا ) الدالة على الجزم , وفي هذا دلالة على أن الشهود قد يشهدون فعلاً على وقوع الحادثة وقد لا يشهدون , وعدم شهادتهم أقرب للواقع كما هو معروف عند أهل العلم .
ثم بين سبحانه وتعالى عقوبة النساء الزواني بعد أن تثبت عليهم البينة , وهي الحبس في البيوت ( فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) , وفي هذا دلالة على أن المرأة لا تحبس في بيتها دائما , بل يسوغ لها الخروج لأغراضها وشؤونها , ولا تُحبسُ إلا لعقوبة أخلاقية كما في هنا .
فأين مَنْ يحبسون نساءهم في دورهن غير إخراج ؟ , ظنا منهم أنهم يطبقون قوله تعالى : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } (33) سورة الأحزاب , ناسين أن ( قَرْنَ ) أمر بالقرار الدائم الذي يجلب الطمأنينة النفسية لها , وليس الحبس وعدم الخروج , فالقَرار في البيت لا ينافي الخروج للحاجة , هذا على القول بعموم الآية الأخيرة وأنه ليس مقصوراً على نساء الرسول صلى الله عليه وسلم .
فإن سأل سائل عن معنى : يتوفاهن الموت , والوفاة والموت شيء واحد ؟ فقد أجاب الزمخشري – رحمه الله على ذلك بقوله : " يجوز أن يرادَ حتى يتوفاهن ملائكة الموت كقوله : " الذين تتوفاهم الملائكة " " قل يتوفاكم ملك الموت " , أو حتى يأخُذَهُنَّ الموتُ ويستوفي أرواحهنّ " [ الكشاف : 1 / 487 ] .
( أو يجعل الله لهن سبيلاً ) إما بالزواج , وإما ببيان الحد عليهن الذي نزل بعد ذلك في سورة النور .
من خلال هذا العرض السريع للآية تبيّن لنا كيف حرصت الشريعة على حفظ جناب الأعراض , وأنه لا يصح أن نأخذ النساء بالظِنة والشك , ولا يكفي غلبة الظن والقرائن , بل يجب أن يكون هناك بينة قاطعة , , لأن الحدود تدرأ بالشبهات .
والله أعلم .

الأربعاء 8 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
19-08-10, 04:24 pm
الوقفة التاسعة : التهرب عن مواجهة الحقيقة الذاتية .
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} سورة النساء سورة النساء .
تتحدث الآيات الكريمة حول الهجرة في سبيل الله , وحكم الإقامة بين ظهراني المشركين , والمعذور في ذلك وغير المعذور , وقد أفاض المفسرون في أحكام هذه الآيات الكريمة بما لا مزيد على كلامهم .
ولكني سأتحدث عن جانب واحد فقط تأملتُه هنا , فوجدته جديراً بالتوقف , حيثُ نرى القرآن الكريم يرسخ مفهوم تربوياً عظيماً طالما ردده التربويون المعاصرون , وهو مسألة الاعتراف بتقصير الذات ومواجهة النفس , وعدم التهرب من أخطائها .
ذلك أن الله تعالى حكى لنا عن طائفتين من المؤمنين : الطائفة الأولى تركت الهجرة متعللة بأنهم مستضعفون في الأرض , والطائفة الثانية تركت الهجرة لأنهم مستضعفون في الأرض حقيقة وليس ادعاء , فالطائفة الأولى معاقبة , والطائفة الثانية معذورة .
فالطائفة الأولى عندما سألتهم الملائكة سؤال تقريع وتوبيخ : فيم كنتم ؟ يعني على أي شيء كنتم في دينكم وأنتم بين المشركين ؟
فكان جوابهم : نحن معذورون لأننا مستضعفون , ولأن جوابهم كان تهرباً عن مواجهة الحقيقة , فقد كانوا يستطيعون الخروج لأرض الله الواسعة , جاء العقاب الشديد " فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا " .
أما الطائفة الأخرى فقد كانوا مستضعفين فِعْلاً وليس ادعاءً , فجاء العذر لهم من السماء بأنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً , وأنهم يستحقون العفو من الله تعالى , وهذا من عظيم كرم الله تعالى , وأنه لا يُكَلِّف نفساً إلا وسعها , وهؤلاءِ فعلوا ما بطاقتهم واستطاعتهم امتثالاً لأمر الله تعالى : " فاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُم " .
أما حين يتعلل المسلم بأمر يخالف واقِعَه , ويُخَالِفُ ما في قَرارَةِ نفسه فإن هذا يعد من الخذلان وهزيمة النفس , ولن ينفعَه ذلك إن هو فَرّطَ في جنب الله , فالله تعالى وصف الطائفة الأولى بأنهم ظالمون لأنفسهم , ولم يظلمهم أحد , لأنهم قادرون على تغيير ما هم فيه , وقادرون على الهجرة , ولَم يُقِرَّهم على ادعاء الاستضعاف , بل جاء التقريع العظيم الدال على قدرتهم الحقيقية على الهجرة : " أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا " .
وفي ظني أن الطائفة الأولى لم تستحق العذاب الشديد بترك الهجرة فحسب , وإنما استحقت العذاب لأنهم كذبوا بادعائهم الاستضعاف , ثم تركوا الواجب ( وهو الهجرة ) بناء على هذه الأكذوبة .
فإن قال قائل : كيف علمتَ أنهم قد كذبوا ؟
فالجواب : أنهم قالوا عن أنفسهم : كنا مستضعفين في الأرض , ثم بعد ذلك جاء العذر من الله للمستضعفين , ولو كان هؤلاء كما يدعون لكانوا معذورين , ولكنهم ظلموا أنفسهم مرتين : بالكذب ثم ترك الهجرة , { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} , ولو أنهم اعترفوا بالذنب والتقصير لربما تاب الله عليهم كما قال تعالى : {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (102) سورة التوبة . والله تعالى أعلم .

عـبدالله بـريدة
20-08-10, 03:13 am
جزااك الله خير

عبدالله صالح العميريني
20-08-10, 02:28 pm
جزااك الله خير


الله اما امين وياك اخوي

عبدالله صالح العميريني
20-08-10, 02:32 pm
الوقفة العاشرة : اكتمال الدين .
قال الله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة
قال أهل العلم : إن هذه آخر ما نزل من القرآن , ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام [ انظر تفسير ابن كثير 2 / 20 ]
وقد نزلت هذه الآية في عرفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوادع يوم الجمعة كما في صحيح البخاري وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال ابن كثير - رحمه الله - حول هذه الآية : " هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة , حيث أكمل تعالى لهم دينهم , فلا يحتاجون إلى دين غيره , ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه , ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء , وبعَثَهُ إلى الإنس والجن ... فلما أكمل لهم الدين , تمّت عليهم النعمة , ولهذا قال سبحانه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } أي , فارْضوه أنتمْ لأنفِسِكُمْ , فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه , وبعثَ به أفضل الرسل الكرام , وأنزل به أشرف كتبه .." تفسير ابن كثير 2 / 19 .
ولي معي هذه الآية وقفات :
الوقفة الأولى : أنها نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع , وهي الموقف العظيم الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم , ووقف معه المسلمون في مشهد مهيب , خطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها معالم الدين , ووضع الأسس العامة والخاصة , ولم يترك شيئاً إلا بينه عليه الصلاة والسلام بأبلغِ قول , وأفصح لسان .
فجاءت هذه الآية تتويجا لذلك الموقف العظيم , وأن الدين قد كَمُل في يوم اكتملت فيه بلاغة محمد صلى الله عليه وسلم , واكتمل فيه حضور المسلمين , واكتمل فيه تعلق قلوبهم لله تعالى على صعيد عرفات .
فهو يوم الكمال في السموات , ويوم الكمال في الأرض , فيه كمل الدين , وفيه كمل القرآن , وفيه كملت النعمة فلله العظمة وحده , ولله الشكر وحده ,سبحانه تبارك وتعالى .
الوقفة الثانية : قوله : ( اليوم ) قال أهل النحو : إن ( أل ) في كلمة اليوم هنا , للعهد الحضوري , أي هذا اليوم الحاضر , ولعل التعريف هنا يعطي تعظيما وهيبة لقداسة هذا اليوم وعظمته , وهو ما صرح به أحد اليهود حين قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ! قال: أيَّةُ آية ؟ قال) : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًاً .( قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة ، يوم جمعة) رواه البخاري ومسلم .
الوقفة الثالثة : قوله : أكملتُ لكم دينكم .
فقوله :( أكملتُ ):فعل ماضٍ دال مسندٌ إلى الضمير العائد إلى الله تعالى , لبيان عظمة هذا الكمال , وأنه صادر من عند الله تعالى , وما أكْمَلَهُ الله فلن يتعرض له نقصان , وما أكمله الله فلن يحتاج إلى زيادة .
ثم قال : ( لكم ) وهذا خطاب للمسلمين جميعاً , أي أن هذا الكمال لكم أيها المسلمون , وليس لغيركم , فهل تبتغون كمالا من عند غير الله ؟
ثم قال : ( دينكم ) هذه الكلمة أتت لتبين موضع الكمال , وأنه في الدين , والدين يشمل القرآن والعبادات والأخلاق والفرائض والمعاملات وكل ما جاء من عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو من الدين .
وقد وصل إلى مرحلة الكمال الرباني الذي لا يعتريه نقص , ولا يفتقر إلى الزيادة .
وإضافة الدين إلى المخاطبين لكي يصبوا اهتمامهم له , وأن هذا الأمر إنما هو دينهم , وليس دين الله فقط .
وأي شرف وأي منزلة حين يكمل الله لك اعتقادك ودينك , ويعطيك الختم الإلهي الرباني الأبدي بأن دينك كامل غير منقوص فلا تضيعه .

الوقفة الرابعة : قوله " وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى "
فعطف على الكمال بلفظ الإتمام , والإكمال يكون للشيء الواحد حين يبلغ نهايته وغايته فيكون قد كمل , فأطلقه على الدين لأن الدين واحد ( إن الدين عند الله الإسلام )
وأما الإتمام فيكون للشيء المتعدد حين تكتمل جميع أنواعه فيكون إتماماً , ونعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى , فجاء لفظ الإتمام .
وقال : عليكم , ولم يقل ( لكم ) لثلاثة أمور :
الأمر الأول : ليخالف اللفظ الأول , فلا يكون هناك تكرار بلفظ ( لكم ) لأنه قال أولها : أكملت لكم دينكم .
الأمر الثاني : أن إتمام النعمة من الله تعني العلو والمنة , فهناك فوقية من المنعِمِ سبحانه على المنعَمِ عليه , فناسب لفظ ( عليكم ) .
الأمر الثالث : أن النعم تحتاج إلى شكر , والشكر تكليف على العبد , فناسب لفظ ( عليكم ) .
والمخاطبون بقوله : عليكم , هم المسلمون , وكفى لهم شرفاً أن يمتن الله عليهم بنعمه .
وقوله : ( نعمتي ) المفرد حين يضاف إلى الضمير فإنه يفيد العموم غالبا , ونعم الله متعددة , وقد أضيفت إلى الضمير , فتشمل جميع نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى .
وقد أضاف النعم إليه سبحانه , لأنه هو الـمُنعِمُ وحده جل جلاله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } (53) سورة النحل .
وقد يكون أراد بالنعمة هنا نعمة إكمال الدين , وهي من أعظم النعم , وكل نعمة تحصل في الدنيا للمسلمين إنما هي متفرعة من هذه النعمة العظيمة .
ونلاحظ الفرق بين التعبيرين في الجملتين :
فالدين نسبه إلى المسلمين ؛ ليتحملوا الأمانة العظيمة , وأما النعمة فنسبها إليه سبحانه لا شريك له , لأن النعم منه وحده لا شريك له .
الوقفة الخامسة : قوله تعالى : " وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًاً "
لما بين سبحانه أنه أكمل الدين , وأتم النعمة , بين سبحانه ما هو الدين الذي كمله ؟
فبين هنا أنه الإسلام , ونسب الرضا إليه سبحانه , فإذا كان الله تعالى قد رضي لنا هذا الدين فأولى بالمسلمين أن يرضوه لأنفسهم , لأنه اختيار من لدن حكيم خبير أعلم بمصالحهم ومنافعهم .
وأي شرف للمسلم حين يعلن إسلامه , ويعتز به بأنه دين رضيه الله له , واختاره له ليتقرب به إليه , فهو الدين الأوحد عند الله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } (19) سورة آل عمران , ولا يقبل الله من أحد دينا سواه {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران .
وما دام أن الله تعالى قد رضيه لنا دينا , فهو أفضل دين وأعظمه كما قال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (125) سورة النساء
وأتى بالجار والمجرور ( لكم ) ليبين أن هذا الدين مصلحة لكم , وفيه نفعكم في الدارين
وأصل التعبير : ورضيت الإسلام دينا لكم , فقدم الجار والمجرور لإرادة الاختصاص , أي لكم أيتها الأمة المحمدية , وليس لغيركم .
أو أن التقديم أفاد الاهتمام بالمخاطبين , ورفع مستوى التنبيه إلى أهمية هذا المرضي الذي سيأتي ذكره , وهو الإسلام .
فكأنه لما قال : ورضيت لكم .. تشرئب الأعناق لمعرفة ماذا رضي لنا ربنا ؟
فيأتي الجواب : الإسلام دينا .
فأي معانٍ سامية عظيمة حملتها هذه الجمل الثلاث التي نزلت يوم عرفة لتختم للمسلمين دينهم , ولتبين لهم أنه كامل إلى يوم القيامة فلا ابتداع , ولا نقصان .
فمن ابتدع ما ليس من الدين فقد استدرك على ربه سبحانه , ومن أنقص من الدين فقد اجترأ على دين الله , والموفق من اتبع ما أُنْزِلَ إليه من ربه دون زيغ أو ضلالة .

والله تعالى أعلم , وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين .
10 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
21-08-10, 04:32 pm
الوقفة الحادية عشرة : العدل فوق كل اعتبار :
قال الله تعالى : {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (42) سورة المائدة .
تتحدث الآية عن اليهود الذين آتاهم الله التوراة , وعن بعض صفاتهم السيئة , وقد صدرت الآية بصيغتي مبالغة : سَمّاعُون , وأكَّالُون , والآية أتت في سياق ذمهم وقبح أفعالهم , وقد سبق هذه الآية قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (41) سورة المائدة .
وهذه الآية تعطينا دلالة أكيدة على شنيع أوصاف اليهود مع ما آتاهم الله من علم الكتاب وهو التوراة , فحرفوا الكلم عن مواضعه , وكانوا سماعين للكذب ( مكررة مرتين ) , وهم الذين قالوا : يد الله مغلولة , وقالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء , وقالوا : عزيزٌ ابنُ الله , وقتلوا الأنبياء , وآذوا موسى عليه السلام , ومع كل هذه الجرائم العظيمة في حق الله تعالى وحق عباده وأوليائه إلا أن الله تعالى يأمر نبيه بأمر عظيم , وشأن خطير , يدل على القيمة السماوية التي جاء بها هذا الدين ليكون مهيمناً على الأديان كلها , ذلكم أن الله تعالى أمر نبيه بالعدل معهم " وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ " , فلا مجال للظلم هنا , فالعدل فوق كل اعتبار , ولا صوت يعلو فوق صوت العدل مهما يكن الخصم , ولا صوت يعلو فوق صوت حق الإنسان حينما يكون له حق , حتى ولو كان في الخسة والنذالة بمنزلة اليهود , فحين تحكم يا محمد بينهم فإياك والظلم لأن الله تعالى لا يحب الظالمين , بل الزم العدل والقسط معهم لأن الله تعالى يحب المقسطين العادلين .
أي دينٍ هذا ؟
وأي كتابٍ هذا ؟
وأي دستور هذا الذي يأمر بالعدل حتى مع أشد الأعداء ؟
إنه الإسلام .
إنه القرآن .
إنه الشريعة السماوية المحمدية التي ختم الله بها رسالته , وجعلها مهيمنة على الدين كله .
لقد كَفَلَ الله حقوقَ الإنسان – أي إنسان – وأنزل ذلك في كتابه وجعله شرعة ومنهاجاً للمسلمين , وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه , ذلكم حكم الله تعالى , ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الظالمون الفاسقون .
إن تحكيم شرع الله تعالى , والبعد عن الأهواء النفسية والسياسية والعِرقية والطائفية , وإقامة العدل بين الناس هو دستور هذه الأمة وشعارها التي جاء بها هذا الدين الحنيف {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (48) سورة المائدة .
أين المنظمات العالمية التي تنادي بحقوق الإنسان لترى كيف كفل الله حقوق الإنسان كإنسان , وأمر بالعدل معه دون اعتبار لمصلحة أو عداوة { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } (58) سورة النساء . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة .
إن الإعراض عن هذا الدستور العظيم ( الحكم بشرع الله تعالى والعدل ) يؤدي إلى شريعة الغاب , وتفشي الظلم , والعودة إلى الحياة الجاهلية الأولى : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (50) سورة المائدة .
لقد أرسى الله تعالى قواعدَ العدلِ في كتابه , وبين أن أبرز ما يؤثر في العدل إما مرضاة أو عداوة , وجاء التركيز على هذين الأمرين في القرآن العظيم , فأمر بالعدل حال العداوة كما مر معنا في أكثر من آية في المائدة , وأمر بالعدل في حال المحبة والرضا كما في قوله تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } (152) سورة الأنعام , فأمرَ الله تعالى بالعدلِ ولو كان هناك ما يُنقصه , وهو القرابة , وهذه الآية من الوصايا العشر الواردة في سورة الأنعام التي تحث على العقيدة والخلق القويم .
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (135) سورة النساء
فانظروا كيف أمر الله بالعدل والقسط , ولو على الأنفس والوالدين والأقربين , وبيّن سبحانه أنّ عدم إقامة العدل مع هذه الطائفة إنما هو من اتباع الهوى ( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) أي فلا تتبعوا الهوى بأن لا تعدلوا , ومن أعرض عن العدل فإن الله تعالى خبير بعمله , وهو سبحانه قادر على أخذ الحق منه .
فهل نحكم كتاب الله تعالى ونلزم العدل فيما نأتي ونذر , وفيما نحب ونكره , كي نكسب محبة الله تعالى ونبتعد عن غضبه ومقته ؟
والله تعالى أعلم .
11 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
22-08-10, 08:41 pm
الوقفة الثانية عشرة : أتباع الأنبياء وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم .

قال الله تعالى : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} سورة المائدة .
قرأتُ هذه الآيات الكريمة وتعجبت من جرأة الحواريين الذين طلبوا من نبي الله عيسى عليه السلام طلباً غريباً لدرجة أن عيسى عليه السلام أمرهم بالتقوى , وذكرهم بإيمانهم .
ما هذا الطلب العجيب ؟
إنه مائدة من السماء ينزلها الله عليهم مملوءة طعاماً .
لماذا ؟
لأربعة أسباب :
1. ليأكلوا منها .
2. لتطمئن قلوبهم بأن الله أرسل عيسى إليهم , أو لأن الله قد اختارهم لدعوته , أو تطمئن بأن الله قد أجاب دعاءنا ... [ تفسير القرطبي : 6/236 ] .
3. أن يعلموا أن عيسى صادق بادعاء الرسالة .
4. أن يكونوا شهداء لله بالوحدانية , ولعيسى بالرسالة , وقيل : نشهد بها لك عند مَنْ لم يَرَها إذا رجعنا إليهم .
هذه أربعة أسباب دعت الحواريين لطلب المائدة , والحواريون هم أتباع عيسى المخلصون له , وهم الذين نصروه وآووه وأخلصوا بالإيمان ({فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (52) سورة آل عمران
فقوم بهذه المنزلة عند نبي الله عيسى عليه السلام يطلبون منه هذا الطلب الغريب ؟
بل زادوا بذلك طريقة السؤال العجيبة :
1. مناداة نبي الله باسمه دون لقبه : يا عيسى بن مريم ..
2. الاستفهام بقدرة الله تعالى : هل يَستطيعُ ربُّك ؟ وهذا فيه سوء أدب مع الله تعالى , وقد حاول بعض المفسرين أن يعتذر لهم بأنهم قصدوا : هل يطيعُك ربُّك , لأن يستطيع بمعنى يطيع , كما صارت : استجاب بمعنى : أجاب .
وهذا القول فيه نظر : لأنه لو كانت بهذا المعنى لكان اللفظ : هل يستطيعُكَ ربُّك .
على أن بعض المفسرين قد اعتذر للحواريين أيضاً بأن طلبهم هذا كان في أول إيمانهم , وقبل أن يستحكم الإيمان في قلوبهم , وهذا قول له وجه , ولكنه يظل افتراضياً .
ولم يكن من نبي الله تعالى الرحيم بأمته إلا أن يستجيب لطلب قومه فيدعو الله تعالى بأن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون لهم عيداً يفرحون فيها كلهم صغيرهم وكبيرهم وأولهم وآخرهم , وآية منه وحجة على قومه , خاتماً دعاءه بلغة النبي العارف بربه سبحانه : وارزقنا وأنت خير الرازقين .
ولأن الطلب عظيم , والله تعالى لا يعجزه شيء , فقد استجاب دعاء نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم مبيناً سبحانه أن من لم يؤمن بعد هذه الحجة القاطعة , والدليل الصريح فإن الله سوف يعذبه عذاباً لم يسبق ولن يسبق أن وقع على أحد من الناس .
أقرأ هذا العرض السريع لأخلص أتباع عيسى عليه السلام وأكثرهم طاعة وإيماناً فأتذكر مواقف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اصطفاهم لصحبة خاتم النبيين , حيث كانوا يسلمون أمرهم إليه , ولا يمكن أن يدرج الشك إلى قلوبهم حتى في أحلك الظروف وأقساها , بل كانوا مصدقين مذعنين استحقوا قول الله تعالى فيهم : {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (22) سورة الأحزاب , واستحقوا قول الله تعالى فيهم : {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (51) سورة النــور .
واستحقوا قول الله تعالى فيهم : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100) سورة التوبة .
والآيات في فضل صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وطاعتهم له وإذعانهم لقوله كثيرة عند المتأمل , وربك يخلق ما يشاء ويختار .
مواقف لغوية سريعة :
يستطيع ربُّكَ : قرأ الجمهور ( يستطيعُ ربُّك ) بالياء والرب فاعل , وقرأ الكسائي : تستطيعُ ربَّك , بالتاء خطاباً لعيسى , ورب مفعول به , والمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك , أي هل تفعل ذلك لنا كما تقول للرجل : هل تستطيع أن تكلمني وأنت تعرف أنه يستطيع لأنك تريد : هل تفعل ذلك . [ الكشف عن وجوه القراءات السبع : 1 / 422 ] .
المائدة : الْخُِوان ( بكسر الخاء وضمها ) الذي عليه الطعام , قال قطرب : لا تكون المائدة مائدةً حتى يكون عليها طعام , وإلا فهي خُِوان , وأصلها من الميد وهي الإعطاء والميرة والإطعام [ لسان العرب ( ميد ) 3 / 411 ]
ومائِدَة فاعلة , وسميت بذلك لأنها تُطْعِم الآكلين منها , ويسمى الطعام مائدةً تجوزاً كما يسمى المطر سماء . [ تفسير القرطبي : 6 / 237 ] .
( نريد أن نأكل منها ) المصدر المؤول من ( أن والفعل في محل نصب على المفعولية ) والتقدير : نريد الأكل منها , والفعل : نأكل منصوب بأن , وقد عطفت عليه الأفعال بعده فأصبحت منصوبة : " وتطمئنّ , ونعلمَ , ونكونَ " .
وقوله : ونعلم أن قد صدقتنا ( أنْ ) هنا : مخففة من الثقيلة , وهي مصدرية وأصلها : ونعلم أنك قد صدقتنا , والمعنى :ونعلم صدقك , لأن المصدر المؤول في محل نصب سد مسد مفعولي عَلِمَ , ولعلنا نلحظ أن الحواريين لم يصلوا لدرجة العلم واليقين إلا بعد أن رأوا المائدة , بخلاف الصحابة الكرام الذين آمنوا برسول الله وصدقوا كلامه دون أن يطلبوا منه مثل هذا الطلب .
قوله : اللهم ربنا , هذان نداءان : أصلهما : يا ألله , ويا ربنا .
فأما الأولى فحذفت ياء النداء مع لفظ الجلالة وعوض عنها ميم في الآخر ( اللهُمَّ ) , وهو منادى مبني على الضم لأنه مفرد علم , وربنا : منادى آخر ( عند سيبويه ) منصوب على الفتح لأنه مضاف .
تكون لنا عيداً : ( لنا ) حال من كلمة عيداً , وأصلها نعت له , ولما قدمت عليه صارت حالاً , ولأولنا وآخرنا : بدل من ( لنا ) , وكأنه تفصيل للعموم , فلما قال : لنا , كان الضمير جمعاً مطلقاً , فجاء بالتفصيل بعده .
( فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه )
لدينا فعلان متكرران في اللفظ لكنهما مختلفان في المعنى : أعذبه , فهو في الأول يعود على من يأكل ولم يؤمن , والضمير يكون مفعولاً به منصوباً , وفي الثاني يعود الضمير على العذاب : أي لا أعذب هذا العذاب أحداً , ويكون الضمير نائباً عن المصدر ( وينصب على المفعول المطلق ) , وجملة لا أعذبه نعت لكلمة ( عذاباً ) أي أن هذا العذاب لن يحل بقوم آخرين , كما تقول : سأضربك ضربا لم أضربه أحداً من قبل .
والله تعالى أعلم وأحكم .
12 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
23-08-10, 06:40 pm
الوقفة الثالثة عشرة : اقتداء الفاضل بالمفضول :

قال الله تعالى : {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (90) سورة الأنعام .
تتحدث هذه الآية عن أنبياء الله تعالى الوارد ذكرهم في سورة الأنعام , وأن الله هداهم وأمر نبيهم بالاقتداء بهم .
فاسم الإشارة : أولئك يعود على أنبياء الله تعالى المذكورين قبل هذه الآية , وذلك في لآيات التالية : {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ , وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ , وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ , وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (83-86) سورة الأنعام .
وهؤلاء الأنبياء عليهم السلام هم صفوة خلقه , منذ بدء الخليقة إلى نهايتها , وأفضلهم وأكرمهم وأشرفهم هو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم , ومع ذلك فإن الله تعالى يأمر هذا النبي العظيم بالاقتداء بمن سبقه من الأنبياء , ولو كانوا أقل منه منزلة , لأن الحق أحقُّ أن يُتَّبَع .
والسورة الكريمة ( سورة الأنعام ) مليئة بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء قبله , والاتعاظ بسيرتهم , لأنهم واجهوا في ذات الله من العَنَتِ والضيق من قومهم مثل ما واجهه صلى الله عليه وسلم فصبروا واحتسبوا , فليكن في ذلك قدوة لك يا محمد على صبرك واحتسابك .
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} (10) سورة الأنعام , {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } (34) سورة الأنعام .
وإن قصص الأنبياء عليهم السلام تثبيت لمقام خاتم المرسلين , لأن له فيهم أسوة حسنة , {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (120) سورة هود .
نعود للآية في أول الوقفة .
الآية مبدوءة باسم الإشارة ( أولئك ) وهو مكون من ( أولاء ) وكاف الخطاب , وهو جمع لاسم الإشارة : ذا , وقد يبدأ بهاء التنبيه فيقال : هؤلاء , ولكن حين تأتي كاف الخطاب في آخرها فإن الهاء في أولها تحذف لئلا تجتمع الزوائد على اسم الإشارة , فلا يقول : هؤلائك .
واسم الإشارة هنا يعود على الأنبياء , فَتَمَّ جَمْعُه , والمخاطب به واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم , فتم إفراد حرف الخطاب وهو الكاف , ولو كان المخاطب جماعة ذكور أو جماعة إناث لأتى الضمير مطابقاً لحال المخاطبين كما قال تعالى : {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ} (43) سورة القمر .
والبدء باسم الإشارة هنا دال على تعظيم المشار إليه كما قال تعالى : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (2) سورة البقرة , {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } (88) سورة الأنعام .
ثم أتى بعد اسم الإشارة اسم الموصول : الذين , وهو اسم مبهم لا يفهم إلا بصلته , وأتت الصلة بأعظم وصف وأشرفه , فقال : الذين هَدَى الله , أي هداهم الله , فأتى بالفعل مجرداً عن ضمير المفعول , ومتصلاً بالفاعل , ربما لعظم اتصال الهداية بالله تعالى , ولأن المهديين ( وهم الرسل ) معروفون بما سبق من الآيات , فلم يُحْتَجْ إلى إعادة الضمير , إضافة إلى أن الضمير مكني عنه قبلاً باسم الإشارة الدال على التعظيم .
ثم قال سبحانه : فَبهداهم اقتدِه , الفاء سببية تدل على أن ما بعدها مُسَبَّبٌّ عما قبلها , أي أن هداية الله سبب للأمر بالاقتداء , والجار والمجرور ( بهداهم ) متعلق بالفعل بعده ( اقتدِ ) وقُدِّمَ الجار والمجرور لإرادة الحصر , أي لا تقتدِ إلا بِهُداهم , كما قال تعالى : { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (122) سورة آل عمران .
ونسبة الهُدى إلى الأنبياء بعد نسبته إلى الله فيه إضافة تشريف لأنبيائه عليهم السلام .
ثم ( اقْتَدِ ) أمرٌ من الله لنبيه بأن يقتديَ بهؤلاءِ القوم العظماء .
والهاء هنا للسكت , وهو ما يسمى بالوقف , كما قال تعالى : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } (259) سورة البقرة .
وكأن الله تعالى أراد أن يبين أن الصلة بين محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء تنتهي بالاقتداء , ونِعمَ القدوة والمقتدِي والمقْتَدى به .

ومن خلال هذا العرض الموجز للآية يتبين لنا كيف أن الله تعالى يأمر نبيّه أ يقتدي بمن دونه في الفضل ؛ لأنهم على الحق والهدى , ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة , فَحَقٌّ على المسلم أن يَقْبَلَ الحقَّ مهما كان , وأن يقتدِيَ بِمَن يحمل الحق ولو كان أقل منه فضلاً أو علماً .


13 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
24-08-10, 03:23 pm
الوقفة الرابعة عشرة : الإحسان للوالدين.

قال تعالى : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ , وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } (152) سورة الأنعام
هذه الآية بداية الوصايا العشر التي بين الله لعباده فيها المحرمات والواجبات , وقد تكلم المفسرون على تفسير الآيات بما لا مزيد عليهم , ولكني أقف هنا وقفة يسيرة حول قوله تعالى :" وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " .
وحين نتأمل الآية كاملة نجد أنها اشتملت على عدة محرمات عظيمة جاء التعبير بالنهي عنها صراحة : ( لا تشركوا , ولا تقتلوا أولادكم , ولا تقربوا الفواحش , ولا تقتلوا النفس , ولا تقربوا مال اليتيم ) خمس نواهٍ متتالية لبيان هذه المحرمات التي أمر ربنا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلوها علينا , ولكن بين هذه النواهي انسَلَّتْ جملة عظيمة لا تفيد النهي , وإنما تفيد الأمر المؤكد , وهي قوله تعالى : " وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " .
والمعنى والله أعلم : وأحْسِنُوا بالوالدين إحساناً , فالجار والمجرور ( بالوالدين ) متعلق بفعل محذوف دلّ عليه المصدر بعده , والتقدير : وأحسِنُوا , والمصدر ( إحسانا ) مفعول مطلق يفيد التوكيد .
فنلحظ أن هذه الجملة تفيد أمراً بين منهيات :
لا تشركوا > نهي
وبالوالدين إحسانا > أمر
ولا تقتلوا أولادكم > نهي
ولا تقربوا الفواحش > نهي
ولا تقتلوا النفس > نهي
ولا تقربوا مال اليتيم > نهي
السؤال المطروح هنا : ما الحكمة من وضع هذه الجملة هنا ؟ ولماذا جاءت بهذه الصيغة ؟ ولماذا أتت بعد النهي عن الشرك ؟
الجواب والله أعلم :
أن الجملة هذه وضعت هنا لبيان عظيم شأن الوالدين , وعظيم حقهما , وأن الله تعالى يحث على برهما والإحسان إليهما , واختلف التعبير من النهي إلى الأمر لِشَدّ الانتباه لشيء عظيم , كما قال تعالى : {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} (162) سورة النساء , فاختلف التعبير بلفظ : ( المقيمين الصلاة ) فجاء منصوباً بين مرفوعات لِشَدِّ الانتباه إلى هذه الشعيرة العظيمة .
وجاء التعبير بهذه الصيغة صيغة الأمر , ولم يأت بالنهي , فلم يقل : ولا تهينوا والديكم مثلاً , لبيان أن الأصل في الإنسان إكرام والديه , ولكن المطلوب هنا شيء أكثر من مجرد الإكرام والاحترام , المطلوب هنا هو درجة الإحسان التام , إلى درجة مراعاة الكلمة الصغيرة التي تؤذيهما , فلا تخرج من فيك أيها الولد كما قال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (23) سورة الإسراء .
وأتى الأمر بالإحسان إلى الوالدين بعد النهي عن الشرك , لبيان عظيم حق الوالدين , وأنه يأتي بعد حق الله تعالى , فالله تعالى هو المنعِمُ والمربي سبحانه , والوالدان لهما الفضل بعد الله تعالى بالإنعام عليك وتربيتك , فليس أحد أحق بالإحسان له وطاعته بعد الله تعالى من الوالدين .
وقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه وتوحيده في أكثر من آية كما قال تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } (83) سورة البقرة , وقال سبحانه : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (36) سورة النساء , وقال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (23) سورة الإسراء , وقال تعالى : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (14) سورة لقمان .
ونلحظ هنا إطلاق التعبير بالوالدين دون أي وصف آخر , فيكفي أن يكونا والديك لتحسنَ إليهما , من غير شرط لدينهما أو صلاحهما أو استقامتهما .

قد يقول قائل : أليس حق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته مقدمة على حق الوالدين وطاعتهما ؟ فلماذا قرن الله حق الوالدين بحقه , ولم يقرن حق رسوله بحقه ؟

فالجواب : أن حق الرسول صلى الله عليه وسلم داخل في حق الله تعالى , فقوله : " لا تشركوا به شيئاً " تعني التوحيد وإخلاص العبادة لله , وهذا التوحيد من أين سنأخذه ونعرفه ؟ إنما هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب والحكمة , ولأن إرضاء الله تعالى وطاعته إرضاء لرسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة له كما قال تعالى : { وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} (62) سورة التوبة , وقرن الله طاعة رسوله بطاعة الله تعالى : {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } (80) سورة النساء .
والأدلة على ذلك كثيرة متظافرة .
والله تعالى أعلم , وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين .
14 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
25-08-10, 07:07 pm
الوقفة الخامسة عشرة : حينما يكون التطهر مَثْلَباً ( قوم لوط أنموذجاً ) .
قال الله تعالى : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (84) سورة الأعراف .
تتحدث الآيات عن قوم لوط وتكذيبهم لنبي الله تعالى لوطٍ عليه السلام , والقصة معروفة واردةٌ في كتاب الله في أكثر من موضع وأكثر من سياق .
وأقف هنا وقفة يسيرة مع قوله تعالى : " أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ " حكاية عن جواب قوم لوط لنبيهم الكريم .
فهؤلاء القوم لم يجدوا عيباً في هذا النبي الكريم وأهله إلا أنهم قوم يَتَطَهَّرُون ! يتطهرون بالارتفاع عن معاشرة الرجل للرجل – عياذاً بالله - , ويتطهرون بانتهاج الفطرة السليمة بالزواج الشرعي الصحيح بين الرجل والمرأة .
فالطهارة واجتناب الخبائث في عُرْفِ هؤلاء القوم الذين انتكست فطرتهم من الأمور الموجبة للطرد من ديارهم , وإخراج كل من اتصف بها , لئلا يشوه قذارتهم بطهارته .
هؤلاء قوم اشتهروا بفعل الفاحشة الشاذة جهاراً نهاراً {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ } (29) سورة العنكبوت .
وحينئذٍ فأولئك أمة احترفت النجس والقذر , ولم يعد لديهم طاقة بمصاحبة أهل الطهر والصيانة والعفاف !
أي أمةٍ هذه التي تستحق المسخ من الوجود ؟
أيُّ أمة تلك التي قلبت الأخلاق عاليها سافلها ؟
فجاء عقابهم الشديد بمثل ما أفرزته أخلاقهم الخبيثة {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} (82) سورة هود .
وكلُّ الأمم على مر التاريخ لا تقيم للطهارة والنقاء وزنا لا تستحق أن تكون أمة صالحة , فحينما تنتشر الفواحش بأنواعها من بِغَاءٍ وشُذوذ في مجتمعٍ ما فإنه ليس للصالحين والمتطهرين مكانٌ فيه , ذلكم أن الطهارة والنقاء لا تجتمع مع ضدها ونقيضها .
وحينما نتأمل ديننا الإسلامي الحنيف نجد أنه عني بجانب الطهارة والنقاء من جميع جوانبها , فطهارة النكاح , وطهارة العبادة , وطهارة الملبس , وطهارة المكان , وطهارة البدن , كلها معتبرة شرعاً .
فطهارة المنكح : أباح الله تعالى النكاح , وحرم السفاح , وحتى الوطء بين الزوجين لم يجعله الله تعالى إلا طاهراً نظيفاً : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (222) سورة البقرة .
وطهارة العبادة : شرع الله الطهارة والوضوء للصلاة ناصاً سبحانه على أنها طهارة عظيمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6) سورة المائدة .
وطهارة الملبس : يبينها قوله تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف .
وطهارة البدن يبينها قوله تعالى : " وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ " .
وطهارة البقعة والمكان يبينها قوله تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (125) سورة البقرة .
والأدلة على هذا الموضوع أكثر من أن نحصرها في مثل هذا الموضوع المقتضب , فلله الحمد والمنة على الدين الحق الذي جاء بالطهر والنقاء , وحرم كل ما يلوث هذه المنقبة الإسلامية العظيمة التي سار عليها الأنبياء المكرمون عليهم السلام .

مواقف لغوية حول آيات لوط السابقة :

قوله تعالى : ( ولوطاً ) : مفعول به لفعلٍ محذوف تقديره : وأرسلنا لوطاً .
قوله : ( أتأتونَ ) استفهام داخل على فعلٍ مضارع , والتعبير هنا بالفعل المضارع دال على التجدد والاستمرار بالعمل القبيح , فهم يأتون الرجال مكررين عملهم ومستمرين عليه .
قوله : ( ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين ) : هذه الجملة دلت بأسلوبها على أن عمل قوم لوط لم يحصل في تاريخ الإنسانية جمعاء قبل هؤلاء القوم الأنجاس , فكلمة : ( أحد ) نكرة تفيد العموم بلفظها , وتفيد العموم بدخول ( مِنْ ) عليها , وتفيد العموم لأنها نكرة في سياق النفي .ثم جاء العموم الآخر بختام الآية ( من العالمين ) , وليس بعد هذا العموم والتأكيد شيء .
قوله : ( مسرفون ) اسم فاعل ناسب ما قبله , لأنه لما قال : ( ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين ) ناسَبَ أن يصفهم بالإسراف وتعدي الحدّ , لأن من يعمل عملاً سيئاً لم يُسبق إليه يكون عادة بسبب السَّرَف الذي يصيبه إلى أن يتجاوز المحدود والمعقول .
وأيُّ مجاوزة للمحدود والمعقول أعظم مما يفعله قوم لوط ؟ إذن فهو الإسْرَاف بعينه .
ونلحظ هنا أيضاً أنه قال ( مسرفون ) فعبر بالاسم , ولم يقل : تسرفون كما قال : تأتون ؟ والعلة في ذلك والله أعلم أن الإسرَافَ – غالباً - طبعٌ في النفس لا يتغير , والاسم يدل على الثبات دائماً .
قوله : ( وما كان جواب قومه إلا أن .. ) أسلوب تعجبي كريم لبيان أن ردهم لكلام لوط عليه السلام أمر عجيب , فهؤلاء قومٌ بلغت فيهم الخسة والقذارة مبلغاً أنهم لم يجدوا جواباً جميلاً مقنعاً يجيبون به هذا النبي الكريم إلا أن أمروا بإخراجه وأهله ؟؟
وقد تكرر هذا الأسلوب في القرآن الكريم أربع مرات , ثلاث منها في قصة لوط وقومه : {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (56) سورة النمل , {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (29) سورة العنكبوت , وموضعٌ واحد في قصة إبراهيم وقومه {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (24) سورة العنكبوت .
وهي أجوبة ظاهرة لكل متأمل أنها تدل على خسة في الطباع , وعدم مقارعة الحجة بالحجة , فيأتي التعجب القرآن بأن هؤلاء لم يجدوا جواباً إلا هذا ؟! .
قوله : يتطهرون : جاء التعبير بالمضارع هنا لبيان التجدد والاستمرار في الحدث وهو التطهر , مضاداً لنجاستهم السابقة ( تأتون الرجال ) .
قوله : ( أهله ) يطلق الأهل ويراد بهم الزوجة كما قال تعالى : { قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (25) سورة يوسف .
ويطلق ويراد بهم ذوو الرجل وأبناؤهم وعشيرته كما في هذه الآية وآيات كثيرة .
وقوله : ( الغابرين ) الغابر : من الأضداد يطلق على الماضي : غبر الشيء إذا مضى , ويطلق على الباقي , يقال : غبرتُ في المكان أي أقمت فيه , والغابرين هنا : الباقين [ الأضداد لابن الأنباري : 129 ] .
قوله ( مطراً ) المطر في القرآن لم يرد إلا في العذاب , وهو كثير , وقد أشار إلى ذلك الجاحظ في كتابه البيان والتبيين : 1 / 20 , والتنكير هنا ( مطراً ) لعله يراد به التهويل والتخويف , بأنه مطر عظيم شديد البأس .
قوله : فانظر كيف .... هنا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يقرأ القرآن بالنظر في مصير هؤلاء القوم , إما بالنظر المعنوي , وهو نظر الاعتبار والتفكر , وإما النظر الحسي في قرية سدوم غربي الأردن في مكانها المعروف حالياً .
وانتهت الآيات بلفظ ( المجرمين ) الدال على أنهم اتصفوا بهذا الوصف الشنيع , فكذبوا رسول الله , واستمروا على فعل الفاحشة المنكرة ( إتيان الرجال ) , وحاولوا طرد نبي الله تعالى عليه السلام , وأي إجرام أشد من هذا ؟ .

هذا ما لدي هنا والله أسأل أن يرزقنا فهمَ كتابِه العزيز , والتأمل في آياته , والله أعلم وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين .
15 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
27-08-10, 03:40 am
الوقفة السادسة عشرة : فروق بين التائبين :

قال الله تعالى : {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (149) سورة الأعراف .
قرأتُ هذه الآية فتذكرتُ آية آدم عليه السلام وتوبتَه في أول السورة حين قال هو وزَوْجُه – عليهما السلام - : {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (23) سورة الأعراف .
فذهب بي الخيال إلى الفرق بين التوبتين هنا , والفرق بين الكلامين , وكلام الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فآدم عليه السلام بَدأ بالمغفرة قبل الرحمة , وآية بني إسرائيل بُدِئَ فيها بالرحمة قبل المغفرة , والفرق بين التعبيرين والله أعلم : أن آدم عليه السلام أحسن دعاء , وأكمل توبة من بني إسرائيل , ولذلك بدأ بقوله ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) وهذا اعترافٌ بالخطأ ابتداءً , وهو خطأ يسير ( الأكل من الشجرة ) في مقابل خطأ بين إسرائيل العظيم ( عبادة العجل ) .
فبيّنَ آدمُ وزوجه عليهما السلام أنهما ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة وعصيان أمر ربهما سبحانه , ولهذا ابتدآ التوبة بقولهما ( ربَّنا ) , وسميا الخطيئة ظُلماً لأنفسهما , لأنهما سيتحملان تعبة هذه الخطيئة , ولن يقع الذنب إلا عليهما أنفسِهما , فهما قد ظلما أنفسهما بهذا العصيان ( وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) .
ثم قال آدمُ ملتمساً من ربه تعالى أن يغفر له هذا الذنب والخطيئة ( لئن لم يغفر لنا ) , فبدأ بالمغفرة لأن الذنب الحاصل منهما يحتاج مغفرة من ربهما سبحانه بعد اعترافهما بذنبهما , وإذا حصلت المغفرة فلم يبق إلا أمرٌ واحد , وهو أن يَرْحَمَهُمَا ربُّهُما بإبقائهما في الجنة بعد توبتهما .
أما بنو إسرائيل فالأمر مختلف , فتوبتهم أقل من توبة آدم , مع عظيم ذنبهم , وسوء جرمهم , ولذلك جاء التعبير ( ولما سُقِطَ في أيديهم ) أي : لما جاءهم موسى عرفوا أنهم قد أذنبوا فقلبوا أيديهم حَسْرَةً , وعضُّوا أصابِعَهم نَدَماً , ورأوا أنهم قد ضلوا : أي علموا ضلالهم وعِصيانهم , قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا , فبدؤوا بالرحمة قبل المغفرة لأنهم يطلبون من الله تعالى أن يرحمهم أولاً , وأن ينظر إليهم بعين الرحمة الواسعة منه سبحانه , ثم يغفر لهم بعد ذلك , وإن حصل لهم ذلك فقد حصل مرادهم , وإن لم يحصل الأمران كانوا من الخاسرين , وكأنهم لم يكونوا جازمين بمغفرة ذنوبهم لعظيم ذنبهم من جانب , ولقلة إيمانهم وضعف ثقتهم بربهم من جانبٍ آخر , ولهذا لم يعترفوا بظلم أنفسهم كما فعل آدم عليه السلام , وإنما سُقِطَ الأمر في أيديهم من غير اختيارهم كما يقال : سُقِطَ في يده إذا وقع في أمرٍ يوجب الندامة كما قال تعالى : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا } (42) سورة الكهف , وحينئذ يَعَضُّ يديه ندامة على سوء ما صنع : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (27) سورة الفرقان .

هذا ما تبيَّنَ لي في الفرق بين الآيتين الكريمتين فإن أصبتُ فمن الله , وإن أخطأتُ فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله وأتوب إليه .
16 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
27-08-10, 11:05 pm
الوقفة السابعة عشرة : الكافي هو الله وحده لا شريك له .

قال الله تعالى : {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (62) سورة الأنفال
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (64) سورة الأنفال .
كلمة ( حَسْبُكَ ) معناها : يَكْفِيكَ , كما تقول العرب : حسبك درهم , أي يكفيك درهم , والكفاية هنا في الآيتين هي كفاية النصرة والتأييد والحفظ والتمكين , وهذه الكفاية خاصة بالله تعالى لا يشاركه فيها أحدٌ غيرُه سبحانه , ولذلك قال تعالى : ( فإنَّ حَسْبَكَ الله ) ولفظ الجلالة هنا خبر إنَّ وهو في الأصل مسند إليه , وتأخير المسند إليه يفيد الحصر , كما تقول : القادِمُ محمد , أي لا قادمَ إلا محمد , وكما قال تعالى : {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (196) سورة الأعراف , أي : لا ولِيَّ لي إلا الله تعالى .
والحسْبُ ( بمعنى الكفاية ) جاء في القرآن مسنداً إلى الله تعالى وحده لا شريك له ؛ إذ لا كافي إلا الله , ولا ناصر إلا الله , وكفي بالله وليا وكفى بالله نصيراً , ومن ذلك قوله تعالى : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (173) سورة آل عمران
فالمؤمنون هنا : قالوا : حَسْبنا الله , ولم يُشركوا معه أحداً في الكفاية سبحانه , قال ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) . رواه البخاري .
وقال تعالى : {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (129) سورة التوبة
فالله تعالى يأمر نبيه أن يسلم أمره إلى الله وحده , وأن يعلن أنه لا كافي له ولا ناصر إلا الله تعالى ( فَقُلْ : حَسْبِيَ اللّهُ ) .
وقال تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (38) سورة الزمر
إعادة أخرى لتكرار هذه الكلمة العظيمة ( حسبي الله ) وهو وحده جل جلاله الكافي والنصير .
وقال تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (3) سورة الطلاق , أي لا كافي له إلا هو جل جلاله .
وهذا المعنى العميق بإسناد الكفاية والنصرة إلى الله تعالى وحده لا شريك له , يربي ربنا عباده عليه , ويذكرهم به وأنه لا ناصر لهم إلا الله , فيقول سبحانه : {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (160) سورة آل عمران , بل ويعنف سبحانه المنافقين بعد غزوة تبوك حينما لم يسندوا الكفاية إلى الله وحده , ولم يرضوا بما قُسِمَ لهم فقال سبحانه : {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} (59) سورة التوبة .
فتأمل معي – رعاك الله – كيف نسب العطاء والإيتاء إلى الله ورسوله مرتين : (مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) (سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ ) ؛ لأن الله تعالى هو المعطي الحق , ورسوله صلى الله عليه وسلم القائم بأمر ربه , المعطي بما عنده من الله .
أما الحسْبُ والكفاية فهي من الله تعالى وحده لا شريك له , ولذلك قال : (وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ ) .
وهذا المعنى الذي قررناه هنا في إسناد الحسب والكفاية لله وحده يبين لنا وهْمَ بعض النحويين في إعراب قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (64) سورة الأنفال , فأعربوا : ( ومَنْ اتبعك ) بأنه معطوف على لفظ الجلالة , والمعنى أن الله سبحانه يكيفك , والمؤمنون كذلك يكفونك .
وهذا المعنى غير صحيح إطلاقاً , فهو وإن صح نحوياً إلا أنه لا يصح معنىً كما قرره القرآن الكريم , والقرآن يفسر بعضه بعضاً , فالكافي هو الله تعالى وحده لا شريك , كما أسلفنا من الآيات البينات , وكما قال تعالى : {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (17) سورة الأحزاب .
والإعراب الصحيح للآية : أن يكون ( مَنْ ) معطوفاً على ( الكاف في حسبك ) فيكون في محل خفض , أي حسبك الله وحسب من اتبعك , ولكن يعتري هذا الإعراب مشكلة نحوية أخرى , وهي مسألة عطف الظاهر على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض , ويمكن أن نتلافى هذا الإشكال بأن يكون العطف من باب عطف الجمل , ويكون ( مَنْ ) في محل نصب مفعولاً به لفعل محذوف دل عليه ما قبله والتقدير : حسبك الله , ويكفي من اتبعك من المؤمنين . [ انظر : التبيان في إعراب القرآن للعكبري : 631 ] .
وأي إعراب اخترنا فهو أحسن من أن نجعل ( مَنْ ) في محل رفع عطفاً على لفظ الجلالة ؛ لأن المعنى لا يستقيم كما أسلفنا , والإعراب فرعُ المعنى كما أن المعنى فرع الإعراب .
ولا نقول بعد هذا إلا كما قال المؤمنون المتقون : حسبنا الله ونعم الوكيل , ولو طبقنا هذا المعنى العظيم في حياتنا , وفوضنا أمرنا إلى الله تعالى لأصبحنا من عباد الله المقربين , واقتدينا بعباد الله وأنبيائه : {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (11) {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } (12) سورة إبراهيم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


17 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
29-08-10, 03:08 am
الوقفة الثامنة عشرة : بعضٌ من صفات أهل النفاق :

من المعلوم أن سورة التوبة جاءت فاضحةً للمنافقين , وبياناً لكثير من صفاتهم الدنيئة ومواقفهم السيئة تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين , ولعلي أشير هنا بإيجاز إلى صفتين اتصفوا بهما يعضد بعضهما بعضاً :
الصفة الأولى : أهل النفاق جُبَناء .
قال الله تعالى : {وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} (57) سورة التوبة .
تتحدثُ الآيتان الكريمتان عن صفة خسيسة في المنافقين , وهي الخوف والجبن , فهم يحلفون بالله إنهم لَمِنَ المؤمنين , ولكنَّ الله تعالى يبين أنهم ليسوا منكم أيها المؤمنون , بل هم قوم جبناء ( يَفْرَقُون ) عند حدوث المعضلات والخروج للقاء العدو , ويخافون من المشركين فيتظاهرون بالإسلام تقِيّةً .
ومعنى ( يَفْرَقُون) أي : يخافون , والفَرَق : هو الخوف , وجاء التعبير بالمضارع ( يفرَقون ) لبيان أن الخوف متجدد معهم في كل حالة , ومستمر معهم في حياتهم , فالمضارع أخذ من الفعل التجدد , ومن الاسم الاستمرارية , فدل على الأمرين .
ثم بيَّنَ تعالى أنهم لو يجدون مكاناً يختبئون فيه إما ملجأ , أو مغارة , أو نفقاً يندسون فيه ( مدخلاً ) لأسرعوا إليه لا يلوون على شيء , و( هم يجمحون ) أي يسرعون .
وفي الآية تبكيتٌ لأهل النفاق وبيان أنهم جبناء , وليسوا مثل المؤمنين الصادقين المتصفين بالشجاعة والإقدام , وهكذا هم أهل النفاق على مر الأزمان والعصور , لا يستطيعون مواجهة الأزمات لخوفهم الذي يأكل قلوبهم , فيتركون التصدي للمثلاتِ لأهل الإيمان الشجعان .

الصفة الثانية : مشابهة النساء والاقتداء بهنّ :

قال الله تعالى : {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} (87) سورة التوبة سورة التوبة .

فبيّنَ الله تعالى أنَّه إذا أمر المؤمنون بالجهاد في سبيل الله جاء أهل الثراء والطَّوْل والسعة من أهل النفاق يستأذنونه بعدم الجهاد , وقالوا : ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ لنحمي الديار بعدكم , ولكنهم كانوا كاذبين , وإنما رضوا أن يكونوا مع النساء والقَعَدَةِ من ضَعَفَة المسلمين , وهذا من أكبر الإهانة لهم والتبكيت , لأنك إن كنتَ رجلاً فكيف ترضى أن تقعد كالنساء ؟

قد يقول قائل : من أين أتيتَ بكلمة النساء , ولا ذكر لها في الآية ؟

فالجواب : من قوله : الخوالف , والخَوالِفُ : جمع خَالِفَة , وهي المرأة تخلف الرجل في بيته [ مفردات الراغب الأصفهاني : 296 ( خلف )] , لأن فواعل جمعٌ لفاعِلَة كما تقول : قاعدة وقواعد , وفائدة وفوائد , ناعسة ونواعس , جارية وجواري .
وهذه الصفة لهم ( الجلوس مع النساء ) ترجع إلى الصفة الأولى وهي الجبن والخوف , فأي صفتين ذميمتين فضح الله بهما أهل النفاق ؟؟

ونستنتج من قوله سبحانه : ( الخوالف ) أن النساء لا تخرج للقتال مع الرجال , بل تتخلف عنهم في ديارهم , لا كما يدعي بعض المتعالمين أن النساء كنّ يشاركن الرجال في المعارك في بدء الإسلام , وإن حصل موقف أو موقفان فليسا حجة أو سنة دائمة , بل على قدر الحاجة والضرورة .

وقد أعاد الله تعالى هذا المعنى مع الأغنياء من المنافقين , وبين أنهم يرضون بالدنية في دينهم , فيجلسون متخلفين كالنساء , قال تعالى : {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (93) سورة التوبة .
وهذا الرضا بهذا الصنيع كان نتيجته أن طبع الله على قلوبهم فلا يستقبحون قبيحاً , ولا يأنفون من مسبة أو مذمة .
نعوذ بالله من النفاق وأهله , ونستجير بالله من الجبن والخوف .
ولو استعرضنا سورة التوبة لوجدنا صفاتٍ للمنافقين كثيرة , ولكن أكتفي بهذا القدر من الوقفة الرمضانية , وأسأل الله تعالى أن يَعلِّمَنا ما ينفعنا , وأن ينفعنا بما علَّمَنا إنه سميعٌ مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين .
18 / 9 / 1431هـ

عبدالله صالح العميريني
29-08-10, 06:56 pm
الوقفة التاسعة عشرة : بعض الوقفات في آخر سورة التوبة ( التصنيف , والهجرة , والنفس والمال ) .
هذه الوقفة مكونة من ثلاث وقفات موجزة :
الوقفة الأولى : التصنيف :
يأخذ كثير من الكتاب والمثقفين على أهل العلم والإسلاميين شغفهم بالتصنيف , واهتمامهم بالتفريق بين الناس حسب توجههم الأيديولوجي ( كما يقولون ) , بل يشنعون التصنيفات القديمة حسب التوجه الفقهي كالحنفي والشافعي .. والسني والمعتزلي .. وقال بعض الكتاب : إن التصنيف ليس له أصل في الشرع , فالجميع مسلمون , وهم سواسية .
وهذا الكلام فيه شيء من الصحة , فالمسلمون سواسية في العبادة , وأكرمهم عند الله أتقاهم , ولكن الشارع جاء ببعض التصنيفات التي لا تنقص من قدر المسلمين , ولا تضر في التعامل مع المسلمين بعضهم ببعض .
قال الله تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100) سورة التوبة .
فصنف الله تعالى الصحابة إلى صنفين : السابقون الأولون , وهذا صريح الآية , والصنف الآخر : المسلمون المتأخرون من الصحابة , وهذا مفهوم الآية , وجاء مصرحاً به في موضعٍ آخر : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (10) سورة الحديد .
فجعل الصحابة قسمين : مُسْلِمَةُ ما قَبْلَ الفَتْح , ومُسْلِمَةُ ما بعد الفتح .
والصنف الأول : السابقون الأولون , جعلهم الله فريقين : المهاجرون , والأنصار , ويفهم من سياق القرآن أن المهاجرين أفضل من الأنصار ؛ لأنه قدم المهاجرين على الأنصار في كل موضع ورد فيه الصنفانِ معاً , ومنه هذه الآية , وقول الله تعالى : {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (117) سورة التوبة , وقوله تعالى : {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (8) سورة الحشر {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر , والذين تبوؤا الدار هم الأنصار .
إذن , فالتصنيف موجود في صدر الإسلام , ولا غضاضة من وجوده شريطة ألا يستلزم التصنيف عداواتٍ وبغضاء , وتحزبات مقيتة , إلا ما جاء الشارع بإثباته كالمنافقين والكفار والمشركين واليهود والنصارى والمجوس ونحوهم .
الوقفة الثانية : التقويم الهجري :
اختلف الصحابة في موضوع التقويم الهجري , متى يبدأ , وانتهى اختلافهم إلى اتفاق على هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم فجعلوه أول عام للمسلمين , كما هو معروف في مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - , وقد تأملت قول الله تعالى : {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (108) سورة التوبة , فوجدت الآية تتحدث عن مسجد قباء كما هو معروف عن المفسرين , وهو المسجد الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم أول الهجرة حين قدم المدينة , وجاء التعبير هنا ( أسس على التقوى من أول يوم ) , فأول يوم هو وقت التأسيس , وكأن الله تعالى يشير إلى أن يوم في تاريخ الأمة الإسلامية هو يوم الهجرة العظيم , و ( مِنْ ) الجارّة هنا تكون بمعنى ( في ) أي لمسجد أسس على التقوى في أول يوم , وقد رجح ذلك الرضي في شرح الكافية 4 / 264 , وأراه قولاً وجيهاً كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا } (9) سورة الجمعة , أي : في يوم الجمعة .
والله تعالى أعلم .
الوقفة الثالثة : النفس والمال :
جميع آيات القرآن التي وردت فيها الأموال والأنفس في موضوع واحد , قُدِّمَتْ فيها الأموال على الأنفس كما قال تعالى : {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } (95) سورة النساء , وقوله تعالى : {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } (81) سورة التوبة , وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } (72) سورة الأنفال , وقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (15) سورة الحجرات , إلا في موضعٍ واحد جاء تقديم الأنفس على الأموال , وهي قوله تعالى : {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } (111) سورة التوبة , ولعل السبب في ذلك والله أعلم أن السياق سياق معاوضة وشراء بين الله تعالى والمؤمنين , ( إن الله اشترى ) فقَدَّمَ الله تعالى أغلى الصنفين , وهو الأنفس قطعاً , والجود بالنفس أقصى غاية الجود .
نسأل الله تعالى التقى والهدى , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
19 / 9 / 1431 هـ

>ريانه<
29-08-10, 09:20 pm
جزاك الله الف خير

عبدالله صالح العميريني
30-08-10, 06:48 pm
جزاك الله الف خير

وياك مشرفتنا الفاضله

عبدالله صالح العميريني
30-08-10, 06:49 pm
الوقفة العشرون : من حَفَرَ حُفْرَةَ لأخِيهِ وَقَعَ فِيها :

نسمع بهذا المثل كثيراً منذ نعومة أظفارنا , وأخذناه في المدارس , وقرأنا قصصه , ويبدو أنه تحديثٌ لِقَولِ ( مَنْ حَفَرَ مُغَوَّاةًَ وَقَعَ فِيهَا ) , والمغَوَّاة ( بتشديد الواو ) حفرة تحفر لاصطياد الضَّبُع أو الذئب [ مجمع الأمثال : 3 / 306 ] , والمثل يدور حول مَنْ حاول إيذاء غيره ونصب الحبائل له , فإنه يقع في شر أعماله , ويعود وبال عمله عليه .
وقد وجدتُ هذا المعنى في كتاب الله تعالى أبلغ وأكمل , وهو قوله سبحانه : {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم } (23) سورة يونس .
فقوله : (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم ) يدور حول هذا المعنى بأسلوب أوجز وأبلغ , فالآية مبدوءة بأداة الحصر ( إنما ) للدلالة على تأكيد هذا المعنى , وأن من أراد الشر والإفساد في الأرض فإنما يعود عليه , وقوله : ( على أنفسكم ) هذا يسمى عند البلاغيين ( مقصوراً عليه ) أي أن البغي مقصورٌ على أنفسهم لا على أحد غيرهم , والتعبير بالأنفس هنا للتأكيد على أن الضرر يعود عليهم أنْفُسِهم لا على ديارهم ولا على أموالهم ولا على أولادهم , وربما كان الضرر يعود على جميع ما ذُكِرَ , ولكن اختار الأنفس لأنها أغلى موجود لدى الإنسان , فلعلَّهُ إذا عَلِمَ أن بغيه عائدٌ على أغلى ما لديه أن يرتدعَ ويتوب .
ومثل هذا المعنى قوله تعالى : { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } (43) سورة فاطر , وقوله سبحانه : { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } (10) سورة الفتح , وآية الفتح مماثلة في تعبيرها آية يونس حيث القصرُ بإنما , والتعبير بالنفس , واختلف التعبير بآية فاطر حيث أتى الحصر بأسلوب النفي والإثبات ( لا ) ( إلا ) , وأتى بلفظ ( أهله ) بديلاً للنفس , ربما لأن التعبير هنا ليس فيه مخاطبين أو أناس تتحدث الآية عنهم , فأتت الآية قاعدة عامة , لتتحدثَ عن المكر نفسه , وليس عن الماكرين , بخلاف آيتي يونس والفتح , فهما تتحدثان عن الباغين والناكثين ( يبغون , فمن نَكَثَ ) .
وقوله في سورة يونس : ( يبغون.. بغير الحق ) هذا قيد لا مفهوم له , أي ليس هناك بغي بحق , وبغي بغير حق , فالبغي كله بغير حق , وإنما أتى هنا لبيان حقيقة البغي وأنه بغير حق دائماً , ومثل هذا التعبير كثير في القرآن , إذ يأتي القيد لبيان حقيقة الحدث , لا لبيان مفهوم المخالفة فيه , ومثل ذلك قوله تعالى : {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (117) سورة المؤمنون , فقوله : لا برهان له به , قيد لا مفهوم له , لأن جميع من عبد غير الله فهو لا برهان له به , ومثله قوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ } (112) سورة آل عمران , فهل هناك قتلٌ للأنبياء بحق ؟
وعليه فكل من بغى أو مكر بعباد الله تعالى وأراد بغيره سوءاً أو ضرراً فليَبشِرْ بوقوعه بشَرِّ أعمالهم من حيث لا يشعر { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (123) سورة الأنعام
والله تعالى أعلم , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
20/9/1431هـ

عبدالله صالح العميريني
31-08-10, 07:57 pm
الوقفة الحادية والعشرون : أتباع الأنبياء ضعفاء :

قال الله تعالى : {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } (27) سورة هود .
تتحدث الآية الكريمة حول خطاب قوم نوح لنوحٍ – عليه السلام – وانتقادهم لشخصيته وأتباعه , وأن أتباعَه ما هُمْ إلا أراذِلُهم وسفهاء الناس فيهم , كما قالوا في آية أخرى : {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (111) سورة الشعراء , ولذلك قال نوح لهم : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ } (31) سورة هود , فأخبر أن عيونهم تزدري أتباعه وتحتقرهم , وهذا دَيْدَنُ أَهْل الضلال في كل زمان وآن , وقد قال كفار قريش عن المسلمين : { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } (11) سورة الأحقاف , وقد أمر الله تعالى نبيه أن يصبر مع الضعفاء والمساكين , {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) سورة الكهف , ونهاه عن طرد الضعفة حين أمره المشركون بذلك : {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (52) سورة الأنعام .
ولو وسعنا دائرة الأمر لوجدنا أن أهل الضلال والزيغ لا يفتؤون يسخرون من أهل الصلاح والاستقامة وأنهم سطحيون سُذَّجٌ , لا يفكرون أَبْعَدَ من أنوفهم , وكثيراً ما قرأنا هذه الشنشنة من كُتَّابٍ يزعمون المعرفة والثقافة ينعون على أهل الصلاح والاستقامة اتباعهم لعلمائهم , وموافقة نصوص الوحيين , وأن هذا دليل على سطحية تفكيرهم , ومحدودية عقولهم !!
ولا شك أن التاريخ يعيد نفسه كثيراً كما قرر ذلك العلامة العظيم ابن خلدون رحمه الله .
وقوله في الآية ( أراذلنا ) جمع : أرذل , وهو أفعل تفضيل أضيف لمعرفة فجاز فيه مطابقة المفضل عليه , كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أحاسنكم أخلاقاً ) , ولو قال : أرذلنا لصَحَّ لغة كما قال تعالى : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } (96) سورة البقرة , وربما جاء الجمع هنا – والله أعلم – لأنهم أرادوا تعميم الذم على كل من اتبع نوحاً عليه السلام , لأن الإفراد لا يعطي قوة الذم كما يعطيه الجمع , كما أن ( أحاسنكم ) في الحديث الشريف تعطي قوة الثناء أكثر من ( أحْسَنِكُم ) .
وقوله ( باديَ الرأي ) اختلف المفسرون فيها على عدة أقوال :
القول الأول : أنها ظرف زمان , أي أول الأمر , ومعناه : أتبعك الأرذلون أول الأمر ثم لما عرفوا حقيقة دعوتك تركوك .
القول الثاني : أنهم اتبعوك في بادئ أمرهم أي ظاهره , وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك .
القول الثالث : أن هؤلاء اتبعوك في أول نظر , وبالرأي البادئ , وكما يقال : إياك والرأي الفطير , أي الرأي يظهر دون تروٍّ وتأنِّي .
القول الرابع : أن تكون ( باديَ الرأي ) حال من الكاف في ( اتَّبَعَكَ ) العائدة على نوحٍ عليه السلام , أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة ولا عقل لك .
القول الخامس : أن تكون منصوبة على النداء : يا باديَ الرأي , والمخاطب به نوح .
هذه خمسة أقوال ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ( 6 / 141 ) .
ولديَّ قولٌ سادسٌ لم يذكره العلامة أبو حيان , وأرى أنه مقبول لغوياً , وأنسب لبلاغة السياق , وذلك بأن نجعل ( باديَ الرأي ) حال من الفاعل ( أراذلنا ) ويكون المعنى أن هؤلاء الأراذل اتبعوك حال كون رأيهم باديا سطحياً لا يفقهون شيئاً , وجاء توحيد الحال مع أن صاحب الحال جمع لوجهين :
الوجه الأول : أن جمع صفة الرذالة مقصود لتأكيد هذه الصفة في الأتباع كما أسلفنا , وتوحيد الحال للدلالة على أن هؤلاء الأرذلين يملكون عقل رجل واحد بادي الرأي , أي سفيهاً , وكأن جَمْعَتَهُمْ لم تنفعهم بارتقاء عقولهم , بل أصبحوا بعددهم كعقلية مُغَفَّلٍ واحد
الوجه الثاني : أن أفعل التفضيل : أراذلنا أتى جمعاً والأصل فيه الإفراد , كما تقول : الصحابة أفضلُنا وأعظَمُنا , فجاء الحاء مراعاة للأصل .
ومراعاة الأصل في الجمع والإفراد كثير في العربية , بل وفي القرآن الكريم كما قال تعالى : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (112) سورة البقرة , فبدأ بالإفراد وانتهى بالجمع , لأن الأمرين مرادان في سياقهما .
وقوله تعالى : {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (33) سورة الزمر
فبدأ بالإفراد وانتهى بالجمع لغرض بلاغي مذكور في موضعه .
وقال تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } (146) سورة آل عمران , فبدأ بالجمع ( ربيون ) وانتهى بالإفراد ( كثير ) لعلة نحوية مذكورة في موضعها .
فمن خلال هذا العرض فإني أرى أن المعنى والله أعلم : ما نراك اتبعك إلا الأرذلون الذين عقولهم سطحية كعقل رجل مغفل .
والله تعالى أعلم , وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين .
21 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
02-09-10, 02:07 am
الوقفة الثانية والعشرون : رحمة الله وعذابه :

قال الله تعالى : {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (50) سورة الحجر .
قرأت هاتين الآيتين الكريمتين فتأملتُ بينهما فرقاً عجيباً يدل على رحمة الله تعالى بخلقه , وأنَّ رحمتَه ومغفرتَه أعظم من سخطِه وعذابِه .
فالآية الأولى بُدئت بفعل الأمر الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم بالإنباء عن خبرٍ عظيم يستحقُّ التنبه له وإيقاظ الفكر لما بعده , وأن هذا الإنباء موجّهٌ لعبادِ الله الخاضعين لسلطته وقهره بشكل عام , أو لعبادِه الخاضعين لدينه وطاعته , والتعبير بكلمة ( عبادي ) فيها نوعٌ من أنواع العطف على المخاطبين , لأنك ما دمتَ من عباده فهو جل جلاله ربُّك وسَيِّدُك , فلن يظلمك .
ينبئهم بماذا ؟
ينبئهم بأمرين :
الأمر الأول : ( أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ), وهذه الجملة تتحدثُ عن الله تعالى , وقد بُدِئَتْ بحرف التوحيد ( أنّ ) واسمها الضمير ( الياء ) العائد على الله تعالى , والمؤكد بضمير الفصل ( أنا ) لدلالة الحصر وقوة الخطاب , والغفور الرحيم خبران , وهما اسمان كريمان لله تعالى , وصيغتهما صيغة مبالغة تدلُّ على عظمة المغفرة والرحمة عند الله تعالى . وإن شئتَ جعلتهما صفة مشبهة يدلان على الثبات والدوام .
الأمر الثاني : (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ) هذا هو الإنباء الثاني لعباد الله بأن عذابه هو العذاب الأليم الشديد , والتعبير النحوي مطابق للآية التي قبله , ولكن الفرق المعنوي بين الآيتين أن الأولى تتحدث عن الله تعالى , وعن صفتين من صفاته الذاتية جل جلاله , وقد اشتملت على أربعة أسماء كلها تعود على الله تعالى [ الياء في أني , والضمير المنفصل ( أنا ) , والاسم الكريم ( الغفور ) , والاسم الكريم ( الرحيم ) ] , وأما الآية الثانية فهي تتحدث عن عذاب الله وليس عن الله تعالى , وهنا الفرق الكبير , فالله جل وعلا بذاته العليّة يخبر قربه من عباده وأنه غفور رحيم بهم , وأما من استحق العقوبة فله العذاب الأليم .
ولعلنا نلحظ أن الآية الثانية ليس فيها ما يعود إلى الله تعالى غير ضمير واحد ( الياء في عذابي ) , وهذا من سعة رحمة الله تعالى ولطفه بعباده , فجاء التهديد والوعيد في الآية الثانية أقل من مرتبة الترغيب في الآية الأولى فلم يقل سبحانه : وأني أنا شديد العقاب لتوازي الآية الثانية , فتأمل معي ذلك يا عبد الله , وقارِنْ هذا أيضا بقوله سبحانه : { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (156) سورة الأعراف , فجعل ( العذابَ خاصاً , وواقعاً تحت المشيئة , وأما الرحمة فهي عامة لكل شيء .
ولعل إبراهيم عليه السلام فهم هذا المعنى , وأن باب الرجاء أوسع من باب الخوف , وأن الله تعالى أرحم بعباده , وأن مغفرته ورحمته أقرب إليهم من عذابه وسخطه , فقد قال بعد الآيتين السابقتين في الحِجر {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (56) سورة الحجر , فقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد سياق الآيتين الدالتين على علو الرحمة والمغفرة على العذاب , وقد بُدئ سياق قصة إبراهيم عليه السلام بقوله ( ونبئهم ) وكأن فيه إشارة للانتباه لهذا المعنى اللطيف الدقيق .
فسبحان من وسعت رحمته كل شيء , وسبحان من سبقت رحمتُه غضبه , وسبحان اللطيف بعباده .
اللهم ارحمنا واغفر لنا وكفر عنا سيئاتنا , وتوفنا مع الأبرار .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين .
22 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
02-09-10, 08:11 pm
الوقفة الثالثة والعشرون : الاستواء على العرش ورحمة الله .

قال الله تعالى : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طـه .
الآية الكريمة تتحدث صفة الاستواء على العرش على وجه يليق بجلال الله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تأويل .
وهي إحدى سبع آيات في القرآن جاءت بهذه الصفة العظيمة لله تعالى :
1. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (54) سورة الأعراف .
2. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (3) سورة يونس .
3. {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2) سورة الرعد .
4. {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طـه .
5. {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (59) سورة الفرقان .
6. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (4) سورة السجدة .
7. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (4) سورة الحديد .

فهذه سبع مواضع في القرآن جاءت بذكر الاستواء على العرش جمعتُها بقولي :


في سَجْدَةِ أعرافِ ثم الرّعْدِ ,,, ويونسٍ فطَهَ فالحديدِ
كذا وفرقانٍ بلا خفــاءِ ,,, قد جاءَ فيها ذِكْرُ الاسْتِواءِ


والحديث عن الاستواء على العرش تحدَّثَ عنه أهل العقيدة بما فيه الكفاية , ولكني أريد أن أتحدث عن عن آية ( طه ) : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} , وكيف اقترن العرش باسم الرحمن في هذا الموضع وفي آية الفرقان كذلك ؟
كلنا نعلم أن العرش أعظم المخلوقات وأكبرها , واسم الرحمن : اسم كريم من أسماء الله تعالى ,وهو صفة مشبهة جاءت بوزن ( فَعْلان ) وصيغة ( فَعْلان ) تدل على السعة والامتلاء كما يقال : ملآن , ريّان , غضبان .... , والصفة المشبهة تدل غالباً على الثبات والدوام .فدل الاسم الكريم على السعة العظيمة لصفة الرحمة .
وسنفهم حينئذ ارتباط اسم الرحمن بالعرش كما في هذه الآية وآية الفرقان , وهذا يدل على أن الذي استوى على العرش قد وسعت رحمتُه كل من تحت العرش من جميع المخلوقات { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } (7) سورة غافر
فجاء اسم الرحمن مع العرش هنا مناسباً لفظا ومعنى , ليدل على عظيم رحمة الله بخلقه , وعظيم لطفِه بهم , وقد كنتُ قديماً متأملاً هذا المعنى , ولم أقرأه من قبل , لكني بعد ذلك وجدتُ ابن كثير أشار له في تفسيره , في شرح البسملة , فلله الحمد والمِنة .
واسم ( الرحمن ) لا يطلق إلا على الله تعالى , ولا يجوز أن يتسمى به أحد من البشر أو غيرهم , ولما تجرأ مسليمة بني حنيفة وسمى نفسه ( رحمن اليمامة ) وصمه الله بصفة الكذب , فلا تزال ملاصقة له إلى يوم القيامة , فلا يقال : مسيلمة إلا يقال بعدها : الكذاب .
انظر تفسير ابن كثير : 1 / 38 عند شرح البسملة من سورة الفاتحة .
23 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
04-09-10, 11:15 pm
الوقفة الرابعة والعشرون : المشي والزحف ورقم أربعة .

قال الله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (45) سورة النــور
ذكر الله في هذه الآية الكريمة أنواع المخلوقات والدواب , وأصل خلقها , وأنها مخلوقة من ماء , وجاء هذا الماء نكرة , لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوعٍ من الماء مختص بتلك الدابة [ الكشاف : 3 / 246 ] .
ثم قسم الله تعالى أنواع الدواب حسب دبيبها على الأرض , وهي ثلاثة أقسام :
1. الزواحف , وهي التي تمشي على بطنها , كالحيات ونحوها .
2. ما يمشي على رجلين كالإنسان والطير .
3. ما يمشي على أربع كالحيوانات البرية المعروفة .
ثم بيّنَ سبحانه أنه يخلق ما يشاء , وفي هذا إشارة إلى أنه قد يوجد أنواع أخرى غير هذه , وذلك كالدوابّ التي تمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقارب ونحوها .
ونستفيد من هذه الآية ما يلي :
1. أن غير العاقل إذا جاء مع العاقل فإنه يجوز أن يأخذ حكمه , فالتي تمشي على بطنها والتي تمشي على أربع دوابُّ غير عاقلة , ومع ذلك جاء التعبير عنها بما يعقل بشيئين : الأول : ضمير الجمع المذكر في : ( ومنهم ) وضمير الجمع المذكر خاص بالعقلاء , والآخَرُ قوله ( مَنْ ) واسم الموصول هذا خاص بالعقلاء , ولكن لأنَّ هذه الدوابّ جاءت مع الإنسان الذي يمشي على رجلين فقد غلب العاقل غير العاقل , ومثل هذا قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ } (18) سورة الحـج .
2. أن الزحف على البطن قد يسمَّى مشياً , وخاصة إذا كان سريعاً , كما في بعض الزواحف السريعة جداً , فسمى الله زحفها على البطن مشياً ( يمشي على بطنه ) كما قد يسمى المشي زحفاً إذا كان بطيئاً كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} (15) سورة الأنفال , فسمى مسي الجيش زحفاً ؛ لأنهم يمشون بثقل وبُطْء , والله تعالى أعلم .
3. نلحظ هنا أن العدد أربع هو أعلى شيء في أنواع الزواحف , وقد تكرر الحديث عن هذا العدد في سورة النور بأنه الغاية في جنسه في أكثر من موضع , فجعله الله تعالى أقصى أنواع الشهادة في الزنا {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النــور , وجعله الله تعالى أعلى شهادة للمتلاعِنين : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (6) سورة النــور . وأيضاً جعله الله تعالى أقصى أنواع الانتظار بين الزوجين في الخصومة : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (226) سورة البقرة , وجعله الله عدة المتوفى عنها : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (234) سورة البقرة , وجعله الله مدة السياحة في الأرض : {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (2) سورة التوبة , وجعل الله الأشهر الحرم أربعة { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (36) سورة التوبة , وخلق الأرض في أربعة أيام : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ} (10) سورة فصلت .
فلا بد أن هناك سراً خلف هذا الرقم كما أن هناك سرا عجيبا خلف الرقم سبعة , ولله الأمر من قبل ومن بعد , وهو تعالى أعلم وأحكم .

عبدالله صالح العميريني
05-09-10, 04:13 pm
الوقفة الخامسة والعشرون : القرآن كلام الله غير مخلوق :

قال الله تعالى : {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (88) سورة القصص .
تتحدث الآية الكريمة عن توحيد الله تعالى وألوهيته , وأنه هو الآخر الباقي جل جلاله , فبدئت بالنهي ( ولا تدعُ ) , والمخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم , وهو خطاب خاص يراد به العموم , فهو لجميع العالمين لقوله تعالى : " واعْبُدُوا الله ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً " , ثم جاء إثبات الألوهية الخالصة لله تعالى وحده بكلمة التوحيد (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) .
ثم جاء موضع الاستشهاد وهو قوله : " كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " , فهذه الجملة العظيمة تفيد أن كل شيءٍ هالكٌ , ومآلُه إلى الفناء إلا الله وحده جل جلاله فهو الباقي , وهو الحي القيوم كما قال تعالى : {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) سورة آل عمران,
فقوله : وجهَه , أي ذاته , أي يبقى هو جل جلاله , وجاء التعبير بالوجه والمراد الذات , كما قال تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ , وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} سورة الرحمن .
وقال بعض المفسرين : إن المراد : ويبقى ما أريد به وجْهُه , وهو العمل الصالح .[ تفسير البغوي : 3 / 459 , تفسير ابن كثير : 3/531 ]
والذي يظهر لي أن القول الأول أولى لمناسبة السياق , ولوجود ما يدل عليه وهو آية الرحمن السابقة .
أما السياق فلأن الآية تتحدث عن التوحيد , وإخلاص الله بالعبادة , ولا يستحق هذا الأمر إلا من كان حيا لا يموت سبحانه , ولذا ارتبطت كلمة التوحيد بحياة الله تعالى وقيوميته اللائقة بجلاله وعظمته في أكثر من آية كما في آية الكرسي : {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ } (255) سورة البقرة , فبعد التوحيد جاء ( الحي القيوم ) , وقوله تعالى {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (65) سورة غافر . فربطَ بينَ الحياة وبين إخلاص الله للعبادة .

قد يقول قائل : ما علاقة هذه الآية بعنوان الوقفة , وهي : أن القرآن غير مخلوق ؟

فالجواب : أن هذه الآية أعطتنا عقيدة ثابتة لا تتزحزح , وهي أن الله تعالى لا يموت , وكل شيء ما سوى الله فهو هالكٌ لا محالة , وهناك آية أخرى أعطتنا عقيدة أخرى تفيد أن القرآن لا يمكن أن يهلك , بل تكفل الله بحفظه : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر , فالله تعالى أخبر أنه حافظٌ كتابه , وهو الذِّكْر , وجاء التعبير بقوله : لحافظون , وهو اسم فاعل دخلت عليه لام التوكيد , واسم الفاعل يدل على الثبات وعدم التغير , ولا سيما أن الجملة مبدوءة بحرف التوكيد ( إنّ ) وقد كررت مرتين في الآية , ودخلت اللام على خبر الثانية , ولم تدخل على خبر الأولى , لأن خبر الثانية وهو ( لحافظون ) قد يدخله الشك في بقائه , فجاء القطع بأنه محفوظ وباقٍٍ إلى ما لا نهاية .
وإذا كان القرآن باقياً غير قابلٍ للهلاك , فهو صفة من صفات الله تعالى , لأن كل شيء سيهلك إلا الله تعالى .
فدل على الربط بين الآيتين على أن القرآن منزلٌ غير مخلوق خلافاً لما يقوله بعض الفرق الإسلامية كالمعتزلة والإباضية .
نسأل الله تعالى الفقه في دينه , وأن يعلمنا ما ينفعنا , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

عبدالله صالح العميريني
06-09-10, 02:50 am
الوقفة السادسة والعشرون : الامتياز ليس جيداً دائما.

اعتدنا في حياتنا على أن كلمة امتياز , ومُمَيّز , وامتاز ونحوها أنها كلمات ذات دلالة إيجابية , يسعدُ المرء إذا أطلقِتْ عليه , ولكن في النص القرآني جاء الامتياز في الجانب السلبي كما قال تعالى : {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (59) سورة يــس .
فقوله ( امتازوا ) فعل أمر من الفعل : امتاز , يمتاز , ومصدره : امتيازاً .
والمعنى : تميزوا أيها المجرمون عن الصالحين , وكونوا على حِدة وجانب .
فالامتياز هنا معناه : ظهور الباطل على حقيقته , وابتعاده عن الخير , فيتميز الخبيثُ من الطيب كما قال تعالى : {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } (37) سورة الأنفال , وقال تعالى : {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآأَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } (179) سورة آل عمران .
فأفادت الآيتان على أن الله تعالى يُميِّزُ الخبيثَ , ويُظهر عُوارَه وسوءَه , ويتبينُ به أن الحق أعلى منه , وأطهر وأطيب , فالمميَّزُ هنا هو الخبيث والمجرِم , وليس الطيب والصالح .
فهل يعيد النص القرآني العظيم قراءة التقويم لدينا حين نعطي الناجح والمتفوق لقب المتميز ؟ إذ إن مفهوم النص القرآني يقول العكس , وهو أن الامتياز والتميز يعطَى للمخذول , ومَنْ كان على الجانب السلبي .
وقد جاء في الحديث الشريف : " من أنفقَ على أهله أو على نفسِه أو عاد مريضاً أو مازَ أذىً , فالحسنةُ بعشر أمثالها " أخرجه أحمد في مسنده , والخطابي في غريب الحديث ( 3 / 127 ) , فقوله : ( مازَ أذىً ) أي فصل الأذى وأبَعَدَه عن الطريق .
وقوله تعالى : ( وامتازوا اليوم ) كلمة ( اليوم ) فيها دلالة عظيمة على أن المجرمين قد يخالطون الصالحين في الدنيا , ولا يتبينُ الحق من الباطل , ولكن في يوم القيامة يظهر التميُّز لأهل الباطل والإجرام , وينكشفون عن المؤمنين الصادقين .

على أن كلمة الامتياز للأمر الإيجابي ليست خطأً , ولا أزعم ذلك , بل قد تكون صواباً نظراً لمعناه اللغوي ؛ إذ أصل الميز : الفصل بين الشيئين , فإذا اعتبرنا المتفوِّقَ قد انفصل عن المتكاسِل , وابتعد بنجاحاته عنه , فقد تمَيّزَ عليه . وكما قال المتنبي :

وبضدها تتبيّنُ الأشياءُ

وإنما قصدتُ هنا أن أبيِّنَ الاستعمال القرآني للكلمة , وأنه ولا شك أفصح وأكمل وأعلى .
والله تعالى أعلم .
26 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
07-09-10, 12:26 am
الوقفة السابعة والعشرون : الانتصار للذات والعفو .

قال الله تعالى : {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (40) سورة الشورى {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} (41) سورة الشورى {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} (42) سورة الشورى {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (43) سورة الشورى .
تتحدث الآيات الكريمة عن الانتصار للنفس مِمَّنْ ظَلَمَها , وأنه يسوغ للإنسان أن يأخذ حقَّه ممن اعتدى عليه ؛ لأن الله تعالى لا يحب الظالمين , ولكن العفو أجمل وأعظم , والصبر أكْمَلُ وأعْزَم . والمعنى العام للآيات واضح لا إشكال فيه , وإنما سأتكلم عن فقرتين من هذه الآيات الكريمة :
الأولى : قوله : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) :
فالسيئة الأولى هي الاعتداء , وهي سيئة قولاً وفعلاً , وأما السيئة الثانية فهي أخذ الحق ورد الظلم , فكيف تكون سيئة ؟
للمفسرين عدة أقوال :
1. أنها من باب المشاكلة اللفظية كما قال تعالى : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ } (79) سورة التوبة [ أضواء البيان للشنقيطي : 3 / 389 ] .
2. لتشابههما في الصورة , لأن السوء إنما يجازى بمثله ؛ لأنه إذا قال : أخزاك الله , ورد عليه بمثله , فقد تشابَهَت الصورتان . [ معاني القرآن للزجاج : 4 / 401 , تفسير البغوي : 4/78 ] .
3. سميت الثانية سيئة لأنها تسوء مَنْ تنزلُ به , وتُكَدِّرُ صفوَه [ الكشاف : 4 / 229 ] .
4. أنها سيئة في مقابل العفو المذكور بعدها , فهي إذا قُورِنَت بالعفو والصلح كانت سيئة , قاله أبو سليمان عفا الله عنه .
ومثل هذه الآية بهذه الأقوال قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (194) سورة البقرة , وقوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (126) سورة النحل , وقوله تعالى : {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (60) سورة الحـج .

الثانية : قوله : " {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } .
تتحدث هذه الآية عن الصبر على الظلم , والعفو عن الظالم , فهي لا تكتفي بالصبر , بل تزيد عليه الغفران والمسامحة , وأي إنسان يستطيع ذلك ؟
إنه لا يقدر ذلك إلا من أوتي عزماً وقوةً وحظاً عظيماً كما قال تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (35) سورة فصلت .
فمدافعة الظلم بالتي هي أحسن , والصبر على الظالم , وغفران ذنبه ومسامحته خلق عظيم حث عليه كتاب الله تعالى , وأخبر أن ذلك مِنْ عزمِ الأمور , وقوة النفس وشدتها , كما قال صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصُّرَعة , إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " متفق عليه .
وأي أجر للصابرين العافين عن الناس أعظم من تكفل الله تعالى بأجره وثوابه " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " ؟
وقد جعل الله تعالى هذه الخصلة من صفات عباد الله المتقين الذين يستحقون جنةً عرضها السماء والأرض : {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (133) {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134) سورة آل عمران .
أعود لآية الشورى مرة أخرى , وأقارنها بآية أخرى في سياق متقارب غير متماثل , وذلك في سورة لقمان , حيث يقول لقمان لابنه : {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان , فقال هنا : " وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ " , وفي الشورى قال : " إن ذلك لَمِنْ عزم الأمور " فزاد لام التوكيد على خبر إنَّ , ولم يذكرها في آية لقمان , فلماذا ؟
الجواب والله أعلم : من وجهين :
الوجه الأول : أن آية الشورى تتحدث عن ظلمٍ واقع على الإنسان , واعتداءٍ عليه , وأن له الحق في الانتصار لنفسه , وأخذ حقه , ولكن من يصفح ويغفر – وما أشد ذلك على النفس في مثل هذه المواطن – فإن ذلك لمن عزم الأمور , فجاءت اللام لتوكيد الخبر , بناء على قوة الحدث وهو الصبر بعد الإساءة .
الوجه الثاني : أن آية الشورى فيها المسامحة والغفران زيادة على الصبر , فجاءت اللام لتقوية الخبر , نظراً لقوة الاسم .
أما في آية لقمان فليس فيها إلا " واصبر على ما أصابك " وقد يصيبه الشيء اليسير الخفيف على النفس الذي تستطيع مواجهته بالصبر , ولم يذكر معه الغَفْر والصفح .

والله تعالى أعلم
27 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
08-09-10, 02:39 am
الوقفة الثامنة والعشرون : احترام العدو .

قال الله تعالى : {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (16) سورة الفتح .
تتحدث هذه الآية الكريمة عن خطاب النبي للأعراب الذين يزعمون أنهم يريدون المشاركة في الحرب والجهاد بأنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد , فلينظر الله منهم ماذا يصنعون ؟
ولن أتحدث عن تفسير الآية وسبب نزولها , فمرد ذلك كتب التفسير , ولكن لفت انتباهي جملة عظيمة في هذه الآية تغيب عن أذهان كثير من الناس , وتُنتِجُ في أدبياتنا السلفية أقوالاً مضادةً لما دلت عليه هذه الآية .
وذلك قوله تعالى : " إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ " فوصَفَ الله العدو بأنهم قوم ذوو بأسٍ وشِدَّة وقُوّة , وهذا يدل على احترام العدو , وإبراز ما يتميز به , وعدم الاستهانة به , ويدل على ضرورة الإعداد لموجهته بكل سبيل , ليتوافق هذا الإنذار بالأمر بالإعداد الذي دلت عليه آية الأنفال : {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (60) سورة الأنفال .
فلم يأمرنا الله تعالى بالإعداد إلا لأن العدو يستحق ذلك , لما يمتلك من قوة وبأس , وسواء أكان القوم المذكورون في آية الفتح هم الفرس أو الروم أو المرتدين ( كما هو اختلاف المفسرين في ذلك ) , فإن إنصاف العدو وإبراز قوته واضح الدلالة من الآية .
أقرأ هذه الآية بتمعن وأنا أشاهد وأقرأ وأسمع كلامَ أُغَيْلِمَةٍ من المسلمين يستهينون بقوة العدو , وأن أمريكا – مثلاً – أضعف من الصومال , وأن أوروبا منهارة اقتصادياً وعسكرياً , فأتعجب من هذا التفكير الأعوج الذي لا يعطي للعدو قيمته , ولا ينهج المنهج القرآني من الإنصاف حتى مع الأعداء .
ولو عدنا للآية الكريمة لوجدنا أن الله تعالى وصفهم بوصف واحد وهو أنهم ( أولي بأس ) والبأس هي القوة والحرب والعتاد , ثم وصف هذا البأس بوصف قوي جداً , وهو كلمة ( شديد ) , فأيُّ احترام للعدو , وإبراز قوته أشد من هذا الوصف ؟؟

والله تعالى أعلم .
28 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
08-09-10, 06:51 pm
الوقفة التاسعة والعشرون : عَظَمَةُ الصَّلاة :

قال تعالى : {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا , إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا , وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا , إِلَّا الْمُصَلِّينَ , الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ , وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ , لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ , وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ , وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ , إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ , وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ , إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ , فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ , وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ , أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} سورة المعارج .
تتحدث الآيات الكريمة عن صفات المؤمن السالم من الذم المذكور في أول الآيات , وهو الهلوع , الذي يجزع من الفقر , ويبخل مع الغنى , وقد لفت انتباهي في صفات المؤمنين الذين استثناهم الله تعالى - بدءاً من قوله ( إلا المصلين ) إلى نهاية الآيات - أنه سبحانه بدأ بالصلاة وانتهى بها , فبدأ بصفة المصلين بشكل عام , ثم قال : " الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ " ثم ذكر الصفات تباعاً وهي : أداء الزكاة , الإيمان باليوم الآخر , الخوف من عذاب الله , حفظ الفروج , أداء الأمانات , القيام بالشهادة على حقها , ثم ختم الله تعالى ذلك بقوله : " وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ " .
فبدأ بالصلاة وانتهى بها , مما يدل على عظيم أمرها , وخطير شأنها , وجلالة قدرها , وأنها جامعة للدين والأخلاق , ومهيمنة على دين المسلم وأمانته .
ونلحظ هنا أنه في الصفة الأولى قال : " الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ " فأتى باسم الفاعل ( دائمون ) الدال على الدوام لفظاً وصياغة , فكأنه حين ابتدأ بأوصاف هؤلاء السالمين من الذم , بدأ بما هو ثابت عندهم من الأوصاف , فجاءت صفة الدوام على الصلاة لتكون فاتحة لهذه الأوصاف العظيمة .
وأما في النهاية , فلأن المسلم الذي يتصف بهذه الصفات ( أداء الزكاة وحفظ الفرج .. الخ ) محتاجٌ لتقوية إيمانه بالصلاة بين الفينة والأخرى , فجاء لفظ : " وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ " , بالتعبير بالمضارع ( يحافظون ) الدال على المحافظة مع التجدد , أي محافظة على الصلاة في كل وقت تتجدد فيه الصلاة .
وهذا الأسلوب القرآني العظيم تكرر في سورة المؤمنون حين يقول تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ , الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ , إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ, إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ , فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ, أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} سورة المؤمنون .
فبدأ بالصلاة بأسلوب الثبات ( خاشعون ) وانتهى بالصلاة بأسلوب التجدد ( يحافظون ) , وما ذاك إلا ليربي المسلم على الثبات على دينه , وخير ما يثبت عليه ويداوم عليه هو الصلاة , ويربيه أيضاً على التجديد في الصلاة في كل وقتٍ وآن ليزداد إيمانه , وينشط لأداء حق ربه .
ومن خطر الصلاة وعظيم شأنها أن أصحاب النار حينَ يُسألون عن سبب دخولهم النار فإن أول سبب لذلك هو تركهم الصلاة , قال تعالى : {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ , قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ , وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ , وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ , وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} سورة المدثر .
فتأمل معي هذه الأسباب , فمع كون إنكار البعث كفراً محضاً إلا أنهم بدؤوا بالصلاة العظيمة التي أدى تركهم لها أن يصيروا إلى ما صاروا إليه .
والأدلة على عظيم شأن الصلاة , وجلالة قدرها أكثر من أن نحصرها في هذا الموجز , بل وأشهر من أن تُذكر .
نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين
29 / 9 / 1431 هـ

عبدالله صالح العميريني
10-09-10, 02:36 am
الوقفة الثلاثون ( الأخيرة ): اللفظ والمعنى في القرآن .

عني العلماء العرب بالعلاقة بين اللفظ والمعنى في مؤلفاتهم القديمة والحديثة , وكان رائد هذا الباب الإمام أبو الفتح ابن جني في كتابه ( الخصائص ) من خلال عدة أبواب : الاشتقاق الأكبر , تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني , إمساس الألفاظ أشباه المعاني .. , ثم جاء بعده ابن فارس الذي وسع دائرة هذا الموضوع ليجعل اللغة مبنية على الاشتقاق والربط بين المعاني من خلال معجمه ( مقاييس اللغة ) , وقد أشار الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه ( دلالة الألفاظ ) إلى جهود العرب في ذلك , وما حاولوا استنباطه من لغتهم الخالدة , وقارن ذلك باللغات الأخرى , فليُرَاجِعْهُ مستزيدٌ للفائدة .
وفي كتاب الله الكريم من هذا الباب عجب عُجاب , حيث العلاقة الوطيدة بين اللفظ والمعنى , وذلك حين يأتي اللفظ مناسباً لسياق المعنى والحدث , فتجد اللفظ المفخم مثلاً في موضوع التفخيم , وتجد اللفظ السهل في موضع السهولة , وهكذا .
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً لا أستطيع حصرها في هذا الموجز , ولكن حسبي أن أشير إلى شيء مما وقفتُ عليه :
1. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ } (38) سورة التوبة , أتمنى من القارئ الكريم أن يردد كلمة ( اثاقلتم ) بلسانه ليرى كيف هي ثقيلة النطق لتحاكي الحدث , وهو ثقل الحركة عن الجهاد , والرمي بثقل النفس إلى الأرض .
2. قال تعالى : {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (41) سورة هود , لا شك أن الإمالة معروفة لغة , ولها ضوابط وأماكن , ولكن حين تجد أن كلمة ( مجراها ) ممالةً وكلمة ( مرساها ) غير ممالة فإن الخيال يذهب بك بعيداً إلى تمايل السفينة حال جريانها في البحر , وثباتها في البر , فجاءت إمالة الصوت مع حالة الميلان , وجاء ثباته مع حالة الثبات .
3. قال تعالى : {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} (94) سورة الشعراء , تأمل أخي القارئ لفظ ( كُبْكِبوا ) كيف يحكي بأصواته المتكررة ( الكاف والباء ) صوت أهل النار وهم يُكَبُّون فيها , لأن تكرار الصوتين يدل على عدم انتظام الحدث نحو ( زلزل , وسوس , جلجل , صرصر .. ) والفعل : كَبْكَبَ أصله من ( كَبَّ ) , وهو أن يُكب الرجل على وجهه منكساً , فلما تكرر الصوتان أعطى زيادة في الحدث , وهو صوت انكبابهم في النار , وعدم انتظامهم في ذلك , وكأن بعضهم فوق بعض .
4. قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ , وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } (37) سورة فاطر
تتحدث الآيتان الكريمتان عن أهل النار – عياذاً بالله منهم – وكيف أن لهم جلبةً وصُراخاً وعويلاً , وجاء التعبير عن هذا الصراخ بقوله : " يَصْطَرِخُونَ " وأصله ( يصرخون ) , ولكن لإرادة تفخيم الحدث جاء الافتعال ( يصترخون ) ثم قلبت تاء الافتعال طاء لمناسبة الصاد قبلها كما قالوا : اصطبر , فصارت ( يصطرخون ) , وحين تتجلجل هذه الأصوات المفخمة في حلقك ( الصاد , والطاء والراء والخاء ) تدرك مدى ملائمة الصوت للحدث وهو عويل أهل النار وصراخهم .
5. قال تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (23) سورة الزمر , لو تأملتً معي أخي الكريم قوله ( تقشَعِرُّ ) وتوارد الأصوات بهذه الطريقة لأدركت كيف ناسَبَ اللفظ المعنى , وكيف يقشعر لسانك وأنت تقرؤها محاكياً قشعريرة الجلد , ومثلها في هذا المعنى مع اختلاف السياق : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (45) سورة الزمر , فكلمة اشمأزّت بهذه الأصوات تحكي نفور القلب من الحق , والفرق بين ( تقشعر ) و( اشمأزت ) أن القُشَعْرِيرَة هي الرِّعدة تأخذ الجسد , والعين مع الراء المضعفة يسببان اهتزازاً في اللسان يحاكي ما يصيب الجلد . وهي أمرٌ محمودٌ من أهل الإيمان , وأما الاشمئزاز فهو النفور والإعراض وتمثله الهمزة والزاي خير تمثيل , لأن الهمزة تدل على الانفجار والقوة كما قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (83) سورة مريم , ويجمع بين ( تقشعر ) و( واشمأزت ) صوت الشين الدال على الانتشار والسعة , والحدثان كذلك , فالقشعريرة تصيب الجسد كله , والاشمئزاز يستغرق القلب والجوارح .
6. قال تعالى " {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} (13) سورة الطور , تتحدث الآية الكريمة عن سوق أهل النار إليها , وأنهم ( يدعُّون ) أي يساقون بالقوة , ولكن انظر كيف عبر الصوت بقوته ( العين المضعفة ) عن الحدث خير تمثيل في الفعل ( يدعون ) وفي المصدر ( دعّاً ) .
7. قال تعالى : {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (7) سورة الإنفطار , تأمل معي كلمة (فَعَدَلَكَ ) حيث جاءت متحركة بأربع حركاتٍ متتالية , وهي حركات متحدة ( بالفتح ) جميعاً , وهي تحكي اعتدال خلق الإنسان واستوائه , ولذلك تجد اللسان يقرأ الكلمة باعتدال في الصوت لا ينحرف ولا يميل , فسبحان الله العظيم .
8. قال تعالى : {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} (34) سورة النازعات , {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} (33) سورة عبس , تأملت الآيتين طويلاً , وتساءلت عن سر وصف الطامة بأنها ( كبرى ) في حين أن الصاخة لم توصف بذلك , فرأيت – والله أعلم – أن الصاخة دلت على الحدث بشكل أقوى , لما تمتلكه من أصوات مفخمة ( الصاد والمد والخاء المشددة ) , أما الطامة فهي أقل تفخيماً , لأنه لا يوجد فيها إلا الطاء والمد , والطاء أضعف تفخيما من الصاد , فناسب حينئذٍ وصفها بالكبرى , على أنه لا شك يوجد سرٌّ بالمعنى حول هذا الأمر غير ما ذكرتُ , ولكني لاحظت أمراً صوتياً أعتقد أنه حري بالعناية والتأمل .
9. قال تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124) سورة طـه , تأمل أخي القارئ كلمة ( ضَنْكا ) وكيف يضيق بها الصوت واللسان ويعسر معها النطق , لتحاكي حال المعيشة الصعبة .
10. قال تعالى :{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} (21) سورة الفجر , كلمة ( دكت ) تعنى تسوية الأرض يوم القيامة لتكون قاعاً صفصفاً , وتكررت الكلمة ثلاث مرات , بالفعل ( دُكّت ) والمصدر المكرر (دَكًّا دَكًّا ) , ولو رددت بلسانك ( دك دك دك دك ) لو جدتَ أن اللفظ في الآية مناسبٌ للحدث العظيم , ولله في ذلك حكمة .

هذا ما لدي أحبتي حول هذه الوقفة , وأنا مؤمن أن كتاب الله تعالى مليءٌ بمثل هذه الوقفات الصوتية التي تحكي الحدث , ولكنها تحتاج إلى تأمل وتمعن .
وبهذه الوقفة أكون قد أنهيت هذه الحلقات المباركة مع نهاية الشهر الكريم الذي أسأل الله تعالى أن يتقبله منا , وأن يجعلنا في ختامه من المقبولين الفائزين , إنه جواد كريم .
وإني أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الوقفات , وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل , وما كان فيها من صواب فمن فضل الله ونعمته , وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله تعالى أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين
30/9/1431 هـ