أباالخــــــيل
03-12-02, 11:00 pm
كان حديث الأميرنايف_ وزيرالداخليةــ لجريدة السياسةالكويتية عن جماعة الإخوان المسلمين،وأثرها،وبالذات على التركيبةالتقليدية للوهّابيةهي محور حديث الشارع إليكم هذا الحديث عبرالمقالة التالية.................
__________________________________________________ ________
يبدو أن الأمير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية السعودي، قد خرج عن ما هو مألوف عنه وذلك في حديثه الأخير لرئيس تحرير صحيفة «السياسة» الكويتية. فالمشهور عن الأمير نايف تكتمه الشديد في الحديث عن مختلف القضايا، وتحفظه الأشد في اعطاء معلومات معينة، أو تفسيرات محددة لهذه المعلومة أو تلك. هذه المرة خرج الأمير عن معتاد نهجه، ووضع نقاطاً على حروف كثيرة، بل وأشار الى أمور حساسة، بالنسبة لنهج الأمير نايف المعتاد، بكل صراحة ومباشرة يعتقد أنها مسؤولة عن عنق الزجاجة الذي تجد السعودية نفسها فيه الآن. بدا الأمير في حديثه وكأنه لم يعد قادراً على الكتمان التام، ولا على مزيد من التحمل لما يجري، أو أن صدره لم يعد قادراً على تحمل المزيد، وفق مثل «بلغ السيل الزبى»، أو حتى وفق مثل «اتق غضب الحليم اذا غضب». نعم، فالسعودية تمر اليوم بعنق زجاجة وأزمة يمكن القول انها تفوق في شدتها أكثر الأزمات السابقة التي مرت بها البلاد.
فالوضع الاقتصادي السعودي اليوم ليس بتلك القوة والانتعاش المفترضين، في معادلة يبدو أنه لم يعد من الممكن المحافظة عليها في ظل تناقص ايرادات الدولة. والأداء السياسي والاداري ذاته يعاني من بطء في الحركة والمرونة لاستيعاب المعضلات التي يفرزها المجتمع وتحولات العالم من حول هذا المجتمع. ومن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، أصبحت السعودية محط أنظار العالم في كل تفصيل من تفاصيل حياتها، بعد أن فوجئ هذا العالم بأن خمسة عشر شاباً من أصل تسعة عشر ممن قاموا بالعملية هم من مواطني السعودية. مثل هذا الوضع يجعل السعودية في حالة تشبه حالة معتقل مسلطة عليه الأنوار الكاشفة ليلاً نهاراً، بحيث أن ما كان عادياً في السابق لم يعد كذلك اليوم، وما كان سلوكاً طبيعياً في السابق، أصبح له من مختلف التأويلات والتفسيرات الشيء الكثير اليوم، وليس أدل على ذلك من الحكاية المثارة هذه الأيام حول المساعدة السعودية الشخصية لمواطنة سعودية انتهت بطريقة غير مباشرة لاثنين من السعوديين المشاركين في هجمات سبتمبر، ومحاولة الربط بين السفير بندر بن سلطان وزوجته الأميرة هيفاء الفيصل، وشيك مصرفي تسلمه أحدهم، وتمويل أحداث سبتمبر.
خلاصة القول، هي أزمة أعتقد أنها في النهاية ستحدد مصير الوضع السعودي برمته، في الداخل والخارج معاً، بشكل يفوق ما حدث في أعقاب أزمات وجودية كبرى سابقة. لقد كان الخلاف والصدام بين الملك عبد العزيز والاخوان، رحم الله الجميع، هو أول تلك الأزمات الكبرى، التي ما أن انفرجت حتى انبثقت المملكة كدولة حديثة محددة المعالم والتوجهات. وكانت الأزمة الكبرى الثانية هي الصدام التاريخي مع التيار القومي في الستينات، وثورة وحرب اليمن كنتيجة من نتائجها على الحدود المباشرة للمملكة، وهي التي كان لها دور كبير في النهاية في اعادة تنظيم الدولة على أسس جديدة في عهد الملك فيصل (النقاط العشر)، وكانت بمثابة التأسيس الثاني للدولة الى حد كبير. ولكن، ورغم تلك الايجابيات التي أفرزها الصدام مع القوميين، وخاصة مع الرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، في ما يتعلق بالداخل السعودي، الا أن تلك الأزمة وطريقة التعامل معها كانت بداية لما سيحدث في هذا الداخل لاحقاً، حين فتح الملك فيصل، رحمه الله، أبواب السعودية لمعارضي الأنظمة القومية من الاسلامويين، والاخوان المسلمين في مصر والشام تحديداً، ممن استطاعوا في الخاتمة أن يؤثروا في التركيبة التقليدية للوهابية السعودية في علاقتها بالسلطة السياسية، بصفتها الأساس النظري أو الآيديولوجي لشرعية هذه السلطة. وكانت الأزمة الكبيرة الثالثة هي أزمة الخليج وحرب الخليج الثانية التي وان لم تفرز ما كان متوقعاً منها من اعادة تنظيم الدولة وفقاً للمتغيرات الطارئة، كما في الحالتين الأولى والثانية، الا أنها أدت الى نوع من مأسسة نسبية (مجلس الشورى، أنظمة الحكم والمناطق) تضاف الى تلك المأسسة التي قام بها الملك فيصل. والحقيقة، كما يراها الكاتب هنا على الأقل، فان كثيراً من المعضلات التي تواجهها السعودية اليوم في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، انما يمكن ارجاعها الى عدم الاستجابة المناسبة والمفترضة لمتغيرات أزمة وحرب الخليج الثانية، وهذا في الحقيقة موضوع يطول الحديث فيه.
وعودة الى حديث الأمير نايف، يمكن القول ان هنالك ثلاث قضايا محورية تعرض لها الأمير، وأعتقد أن في حلها يكمن الطريق الى الخروج من عنق الزجاجة الحالي: قضية السيادة، وقضية اعادة فهم الدين، وقضية تماسك النخبة الحاكمة. لم يُسهب الأمير كثيراً في الحديث عن هذه القضايا، ولكن ما تحدث به يوحي بأن هنالك نوعا من اعادة النظر في هذه القضايا على مستوى النخبة الحاكمة، وهي قضايا ليست من الأمور العابرة، بقدر ما هي محاور وركائز تقوم عليها الدولة ذاتها، ولا يمكن لدولة أن تقوم بغيرها. فحين الحديث عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الأمير: «ان الهيئة جهاز من أجهزة الدولة. ان أخطأ فخطأه محسوب على الدولة، وان أصاب فصوابه محسوب للدولة، مثله مثل أي جهاز..». ليس الحديث هنا عن الهيئة أو غيرها بقدر ما أنه يمس مفهوماً مهماً من مفاهيم الدولة الحديثة ألا وهو مفهوم السيادة. فالسيادة هي العمود الفقري، أو حتى الهيكل العظمي لأي دولة وكل دولة، ولا يمكن قيام الجسم بدون الهيكل. والسيادة تعني بكل بساطة أنه لا سلطة تعلو سلطة الدولة، ومتى ما اهتزت هذه السيادة لهذا السبب أو ذاك، عنى ذلك اهتزاز كيان الدولة ذاته. من هذا المنطلق واجه الملك عبد العزيز حلفاءه السابقين واخوته في الدين من الاخوان، حين وصل تمردهم الى تحدي سيادة الدولة ذاتها، فكان لا بد من المواجهة من أجل كيان الدولة ذاتها. والهيئة في السعودية متهمة باتهامات كثيرة، لا يهمنا في هذا المجال صحتها أو خطأها، بقدر ما أن المهم هو أن الحديث عنها جر الى حديث السيادة. فحين يقول الأمير ان الهيئة لا تتمتع بالاستقلال عن الدولة وأنظمتها، فهو يتحدث هنا عن السيادة، التي اذا اصطدم بها أحد، فلا بد أن تكون مواجهته عنيفة من حيث أن الكيان ذاته هو المعرض للخطر في النهاية، وليست القضية مجرد اختلاف في الغاية أو الاتجاه. واذا أردنا الصراحة أكثر، فيمكن القول ان كثيراً من الجماعات والنشاطات والهيئات وصلت في يوم من الأيام الى نقطة تحدي السيادة ذاتها، وكانت الدولة تغض الطرف عن ذلك كثيراً. ولكن، وكما يستوحى من حديث الأمير، لم تعد الأمور تسمح بمثل ذلك اليوم، وخاصة أن كيان الدولة هو الذي على المحك بعد أحداث سبتمبر وتداعياتها على السعودية.
أما القضية الثانية، أو قضية اعادة فهم الدين، فهي من المسائل المهمة بالنسبة للمملكة، وخاصة أن شرعيتها السياسية، أي الروح التي منحت الحياة للجسد، قائمة على أسس دينية في المقام الأول. فـ«الوهابية»، كما أصبحت تُعرف في الأدبيات السياسية، هي الأساس الآيديولوجي للدولة السعودية في أطوارها الثلاثة، حتى أن أرباب الأسرة المالكة السعودية يصفون أنفسهم بأنهم ليسوا ملوكاً ولا أمراء بقدر ما أنهم أصحاب دعوة. ما يسمى بالوهابية، وبعيداً عن منطلقاتها العقدية وتفسيرها الذاتي للاسلام والموقف الفكري من كل ذلك، تُعتبر مدنية التوجه في العلاقة مع السلطة. فعلى مختلف أدوار الدولة السعودية، كان هنالك دوماً، الا في ما ندر، فصل بين وظيفة الأمير ووظيفة الفقيه، فلا يمكن أن يكون الفقيه أميراً، ولا يمكن للأمير أن يجمع بين وظيفة الفقيه ووظيفة الأمير. الامام، في هذه النظرية السياسية، دائماً هو الأمير، ولم يحدث أن أصبح الفقيه أميراً في يوم من الأيام، ويبدو ذلك واضحاً من العهد التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والامام محمد بن سعود. وكل ذلك كان نوعاً من التفريع لموقف ابن حنبل السياسي الذي يقوم على عدم جواز الخروج على الحاكم، الا أن يكفر كفراً بواحاً، كأن يمنع الصلاة في المساجد مثلاً.
المتغيرات السياسية (الصراع مع القوميين، الاحتكاك مع فرق سياسية ترفع شعار الاسلام، انتشار التيارات التكفيرية، الثورة الايرانية وطروحاتها الفكرية، الجهاد الأفغاني وأحزابه وغيرها)، أدت الى «تطعيم» «الوهابية» السياسية بمفاهيم غريبة عليها، بعضها اخواني المصدر، وبعضها قد يصل حتى الى الخمينية، الموصومة بالكفر عقدياً عند معظم تلك التيارات، مثل مفهوم ولاية الفقيه الذي وجد طريقه الى بعض فرق السلفية من السعوديين، حتى وان لم يُذكر المفهوم بالاسم، وان مورس بالفعل. حديث الأمير يوحي بأن هنالك استيعابا لمثل هذه المسألة، ومدى خطرها على الأساس الديني النظري للدولة السعودية، ولذلك كان الحديث عن أولئك الذين يكفرون على الصغيرة والكبيرة كثيراً من أهل القبلة، وكان تعليق الأمير حين حديثه عن الاخوان المسلمين بما لم يسبق له مثيل. فمما لا شك فيه، أن معظم التيارات الاسلاموية العربية المعاصرة، العنيف منها والمسالم، انما خرجت من عباءة الاخوان المسلمين في بداية تكوينها، بالرغم من أن الحركة حالياً لا تقر بسلوك وفكر كثير ممن خرجوا من عباءتها، ولكن ذلك لا ينفي أن حركة الاخوان المسلمين كانت هي أول من سيس، أو لنقل أدلج الاسلام كحركات معارضة سياسية واضحة المعالم، فيما كانت الحركات السابقة تعبيرا عن مقاومة لمستعمر، أو بناء لدولة من العدم، ينتهي دورها السياسي ما أن تنتهي عملية التحرير أو البناء. ولعله من نافلة القول هنا القول بأن الشيخ حسن البنا، هو أول من رفع شعار أن الاسلام دين ودولة، سيف ومصحف، بالرغم من أن الكثيرين يعتقدون بأن مثل هذه الشعارات هي من المأثورات المقدسة..
ويتصل الحديث.
الدكتور:تركي الحمد
http://www.asharqalawsat.com/
__________________________________________________ ________
يبدو أن الأمير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية السعودي، قد خرج عن ما هو مألوف عنه وذلك في حديثه الأخير لرئيس تحرير صحيفة «السياسة» الكويتية. فالمشهور عن الأمير نايف تكتمه الشديد في الحديث عن مختلف القضايا، وتحفظه الأشد في اعطاء معلومات معينة، أو تفسيرات محددة لهذه المعلومة أو تلك. هذه المرة خرج الأمير عن معتاد نهجه، ووضع نقاطاً على حروف كثيرة، بل وأشار الى أمور حساسة، بالنسبة لنهج الأمير نايف المعتاد، بكل صراحة ومباشرة يعتقد أنها مسؤولة عن عنق الزجاجة الذي تجد السعودية نفسها فيه الآن. بدا الأمير في حديثه وكأنه لم يعد قادراً على الكتمان التام، ولا على مزيد من التحمل لما يجري، أو أن صدره لم يعد قادراً على تحمل المزيد، وفق مثل «بلغ السيل الزبى»، أو حتى وفق مثل «اتق غضب الحليم اذا غضب». نعم، فالسعودية تمر اليوم بعنق زجاجة وأزمة يمكن القول انها تفوق في شدتها أكثر الأزمات السابقة التي مرت بها البلاد.
فالوضع الاقتصادي السعودي اليوم ليس بتلك القوة والانتعاش المفترضين، في معادلة يبدو أنه لم يعد من الممكن المحافظة عليها في ظل تناقص ايرادات الدولة. والأداء السياسي والاداري ذاته يعاني من بطء في الحركة والمرونة لاستيعاب المعضلات التي يفرزها المجتمع وتحولات العالم من حول هذا المجتمع. ومن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، أصبحت السعودية محط أنظار العالم في كل تفصيل من تفاصيل حياتها، بعد أن فوجئ هذا العالم بأن خمسة عشر شاباً من أصل تسعة عشر ممن قاموا بالعملية هم من مواطني السعودية. مثل هذا الوضع يجعل السعودية في حالة تشبه حالة معتقل مسلطة عليه الأنوار الكاشفة ليلاً نهاراً، بحيث أن ما كان عادياً في السابق لم يعد كذلك اليوم، وما كان سلوكاً طبيعياً في السابق، أصبح له من مختلف التأويلات والتفسيرات الشيء الكثير اليوم، وليس أدل على ذلك من الحكاية المثارة هذه الأيام حول المساعدة السعودية الشخصية لمواطنة سعودية انتهت بطريقة غير مباشرة لاثنين من السعوديين المشاركين في هجمات سبتمبر، ومحاولة الربط بين السفير بندر بن سلطان وزوجته الأميرة هيفاء الفيصل، وشيك مصرفي تسلمه أحدهم، وتمويل أحداث سبتمبر.
خلاصة القول، هي أزمة أعتقد أنها في النهاية ستحدد مصير الوضع السعودي برمته، في الداخل والخارج معاً، بشكل يفوق ما حدث في أعقاب أزمات وجودية كبرى سابقة. لقد كان الخلاف والصدام بين الملك عبد العزيز والاخوان، رحم الله الجميع، هو أول تلك الأزمات الكبرى، التي ما أن انفرجت حتى انبثقت المملكة كدولة حديثة محددة المعالم والتوجهات. وكانت الأزمة الكبرى الثانية هي الصدام التاريخي مع التيار القومي في الستينات، وثورة وحرب اليمن كنتيجة من نتائجها على الحدود المباشرة للمملكة، وهي التي كان لها دور كبير في النهاية في اعادة تنظيم الدولة على أسس جديدة في عهد الملك فيصل (النقاط العشر)، وكانت بمثابة التأسيس الثاني للدولة الى حد كبير. ولكن، ورغم تلك الايجابيات التي أفرزها الصدام مع القوميين، وخاصة مع الرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، في ما يتعلق بالداخل السعودي، الا أن تلك الأزمة وطريقة التعامل معها كانت بداية لما سيحدث في هذا الداخل لاحقاً، حين فتح الملك فيصل، رحمه الله، أبواب السعودية لمعارضي الأنظمة القومية من الاسلامويين، والاخوان المسلمين في مصر والشام تحديداً، ممن استطاعوا في الخاتمة أن يؤثروا في التركيبة التقليدية للوهابية السعودية في علاقتها بالسلطة السياسية، بصفتها الأساس النظري أو الآيديولوجي لشرعية هذه السلطة. وكانت الأزمة الكبيرة الثالثة هي أزمة الخليج وحرب الخليج الثانية التي وان لم تفرز ما كان متوقعاً منها من اعادة تنظيم الدولة وفقاً للمتغيرات الطارئة، كما في الحالتين الأولى والثانية، الا أنها أدت الى نوع من مأسسة نسبية (مجلس الشورى، أنظمة الحكم والمناطق) تضاف الى تلك المأسسة التي قام بها الملك فيصل. والحقيقة، كما يراها الكاتب هنا على الأقل، فان كثيراً من المعضلات التي تواجهها السعودية اليوم في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، انما يمكن ارجاعها الى عدم الاستجابة المناسبة والمفترضة لمتغيرات أزمة وحرب الخليج الثانية، وهذا في الحقيقة موضوع يطول الحديث فيه.
وعودة الى حديث الأمير نايف، يمكن القول ان هنالك ثلاث قضايا محورية تعرض لها الأمير، وأعتقد أن في حلها يكمن الطريق الى الخروج من عنق الزجاجة الحالي: قضية السيادة، وقضية اعادة فهم الدين، وقضية تماسك النخبة الحاكمة. لم يُسهب الأمير كثيراً في الحديث عن هذه القضايا، ولكن ما تحدث به يوحي بأن هنالك نوعا من اعادة النظر في هذه القضايا على مستوى النخبة الحاكمة، وهي قضايا ليست من الأمور العابرة، بقدر ما هي محاور وركائز تقوم عليها الدولة ذاتها، ولا يمكن لدولة أن تقوم بغيرها. فحين الحديث عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الأمير: «ان الهيئة جهاز من أجهزة الدولة. ان أخطأ فخطأه محسوب على الدولة، وان أصاب فصوابه محسوب للدولة، مثله مثل أي جهاز..». ليس الحديث هنا عن الهيئة أو غيرها بقدر ما أنه يمس مفهوماً مهماً من مفاهيم الدولة الحديثة ألا وهو مفهوم السيادة. فالسيادة هي العمود الفقري، أو حتى الهيكل العظمي لأي دولة وكل دولة، ولا يمكن قيام الجسم بدون الهيكل. والسيادة تعني بكل بساطة أنه لا سلطة تعلو سلطة الدولة، ومتى ما اهتزت هذه السيادة لهذا السبب أو ذاك، عنى ذلك اهتزاز كيان الدولة ذاته. من هذا المنطلق واجه الملك عبد العزيز حلفاءه السابقين واخوته في الدين من الاخوان، حين وصل تمردهم الى تحدي سيادة الدولة ذاتها، فكان لا بد من المواجهة من أجل كيان الدولة ذاتها. والهيئة في السعودية متهمة باتهامات كثيرة، لا يهمنا في هذا المجال صحتها أو خطأها، بقدر ما أن المهم هو أن الحديث عنها جر الى حديث السيادة. فحين يقول الأمير ان الهيئة لا تتمتع بالاستقلال عن الدولة وأنظمتها، فهو يتحدث هنا عن السيادة، التي اذا اصطدم بها أحد، فلا بد أن تكون مواجهته عنيفة من حيث أن الكيان ذاته هو المعرض للخطر في النهاية، وليست القضية مجرد اختلاف في الغاية أو الاتجاه. واذا أردنا الصراحة أكثر، فيمكن القول ان كثيراً من الجماعات والنشاطات والهيئات وصلت في يوم من الأيام الى نقطة تحدي السيادة ذاتها، وكانت الدولة تغض الطرف عن ذلك كثيراً. ولكن، وكما يستوحى من حديث الأمير، لم تعد الأمور تسمح بمثل ذلك اليوم، وخاصة أن كيان الدولة هو الذي على المحك بعد أحداث سبتمبر وتداعياتها على السعودية.
أما القضية الثانية، أو قضية اعادة فهم الدين، فهي من المسائل المهمة بالنسبة للمملكة، وخاصة أن شرعيتها السياسية، أي الروح التي منحت الحياة للجسد، قائمة على أسس دينية في المقام الأول. فـ«الوهابية»، كما أصبحت تُعرف في الأدبيات السياسية، هي الأساس الآيديولوجي للدولة السعودية في أطوارها الثلاثة، حتى أن أرباب الأسرة المالكة السعودية يصفون أنفسهم بأنهم ليسوا ملوكاً ولا أمراء بقدر ما أنهم أصحاب دعوة. ما يسمى بالوهابية، وبعيداً عن منطلقاتها العقدية وتفسيرها الذاتي للاسلام والموقف الفكري من كل ذلك، تُعتبر مدنية التوجه في العلاقة مع السلطة. فعلى مختلف أدوار الدولة السعودية، كان هنالك دوماً، الا في ما ندر، فصل بين وظيفة الأمير ووظيفة الفقيه، فلا يمكن أن يكون الفقيه أميراً، ولا يمكن للأمير أن يجمع بين وظيفة الفقيه ووظيفة الأمير. الامام، في هذه النظرية السياسية، دائماً هو الأمير، ولم يحدث أن أصبح الفقيه أميراً في يوم من الأيام، ويبدو ذلك واضحاً من العهد التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والامام محمد بن سعود. وكل ذلك كان نوعاً من التفريع لموقف ابن حنبل السياسي الذي يقوم على عدم جواز الخروج على الحاكم، الا أن يكفر كفراً بواحاً، كأن يمنع الصلاة في المساجد مثلاً.
المتغيرات السياسية (الصراع مع القوميين، الاحتكاك مع فرق سياسية ترفع شعار الاسلام، انتشار التيارات التكفيرية، الثورة الايرانية وطروحاتها الفكرية، الجهاد الأفغاني وأحزابه وغيرها)، أدت الى «تطعيم» «الوهابية» السياسية بمفاهيم غريبة عليها، بعضها اخواني المصدر، وبعضها قد يصل حتى الى الخمينية، الموصومة بالكفر عقدياً عند معظم تلك التيارات، مثل مفهوم ولاية الفقيه الذي وجد طريقه الى بعض فرق السلفية من السعوديين، حتى وان لم يُذكر المفهوم بالاسم، وان مورس بالفعل. حديث الأمير يوحي بأن هنالك استيعابا لمثل هذه المسألة، ومدى خطرها على الأساس الديني النظري للدولة السعودية، ولذلك كان الحديث عن أولئك الذين يكفرون على الصغيرة والكبيرة كثيراً من أهل القبلة، وكان تعليق الأمير حين حديثه عن الاخوان المسلمين بما لم يسبق له مثيل. فمما لا شك فيه، أن معظم التيارات الاسلاموية العربية المعاصرة، العنيف منها والمسالم، انما خرجت من عباءة الاخوان المسلمين في بداية تكوينها، بالرغم من أن الحركة حالياً لا تقر بسلوك وفكر كثير ممن خرجوا من عباءتها، ولكن ذلك لا ينفي أن حركة الاخوان المسلمين كانت هي أول من سيس، أو لنقل أدلج الاسلام كحركات معارضة سياسية واضحة المعالم، فيما كانت الحركات السابقة تعبيرا عن مقاومة لمستعمر، أو بناء لدولة من العدم، ينتهي دورها السياسي ما أن تنتهي عملية التحرير أو البناء. ولعله من نافلة القول هنا القول بأن الشيخ حسن البنا، هو أول من رفع شعار أن الاسلام دين ودولة، سيف ومصحف، بالرغم من أن الكثيرين يعتقدون بأن مثل هذه الشعارات هي من المأثورات المقدسة..
ويتصل الحديث.
الدكتور:تركي الحمد
http://www.asharqalawsat.com/