أباالخــــــيل
21-10-02, 03:25 pm
نقلت الانباء مؤخرا ان الدول الخليجية وجهت تحذيرا جماعيا لقطر بأن تلجم قناة الجزيرة الفضائية وإلا... وتعتبر هذه خطوة متقدمة وخطيرة في مسلسل الضغط علي دولة قطر لإعادة مارد الجهاز الاعلامي الأبرز في العالم العربي الي قمقه، وتحويله الي نسخة مكررة من الاجهزة الاعلامية العربية التي لا تقدم خبراً ولا تذيع رأياً، بل تدأب علي تلاوة آيات التسبيح بحمد أولي الأمر وتقدم في ثنايا ذلك مخدرات الترقية لعل وعسي. وكان يمكن اعتبار المواد الخيرية في هذه الاجهزة مواد ترفيه ايضا، لما تحفل به من اساطير وخرافات وغرائب، لولا ان تكرارها الممل يحرمها من هذه المزية.
ويعتبر هذا التحذير الخليجي الجماعي خطوة تصعيد مهمة في الحملة علي القناة المشاكسة. فقد سبقت هذه الخطوة تحذيرات اخري، كان أبرزها سحب السفير السعودي من الدوحة الشهر الماضي، وكان قد سبق ذلك سحب السفير الاردني، وحملات عنيفة ضد القناة في مصر وتونس والمغرب والكويت والبحرين ودول اخري. وقامت بعض هذه الدول باغلاق مكاتب القناة وطرد مراسليها، وهو ما لم تفعله السعودية لأنها لم توافق أصلاً علي فتح مكتب لقناة الجزيرة في العاصمة السعودية الرياض.
وفي القاموس العربي يعتبر سحب السفراء خطوة بطولية تمثل نهاية الاقدام ـ فأغلب الدول العربية التي سحبت سفراءها من الدوحة رفضت بالحاح، مطالب الجماهير بسحب سفرائها في تل ابيب، باعتبار ذلك أضعف الايمان للتعبير عن عدم الرضا عن جرائم شارون ضد ملايين العرب العزل في فلسطين، او علي الأقل اعطاء الانطباع بإن هذه الدول ليست شريكة لشارون في جرائمه. وهذا بدوره يشير الي ان هذه الدول تري في ما ارتكبته قناة الجزيرة من جرم امراً جللاً يفوق كثيراً ما كسبته يدا شارون المسكين. ولعل الخطوة التالية هي تجريد الجيوش العربية لتحرير الدوحة ومحو العار العربي الذي تمثله قناة الجزيرة.
وعلي الرغم من ان اعلان العرب الحرب علي طرف ما يعني البشري بطول السلامة لهذا العدو، الا ان تكاتف الضغوط علي الدوحة يشير الي تحول مهم في التيار في المنطقة العربية، ويعكس ان الاتجاه الآن قد انقلب من التقدم الخجول نحو إطلاق بعض الحريات للشعوب الي الهمة في العودة للماضي المظلم واغلاق كل الابواب والنوافذ. فالضغوط علي قناة الجزيرة ليست سوي جزء من ظاهرة عامة، تتمثل في زيادة حدة القمع ضد المعارضين، والتراجع عن اصلاحات سابقة تم الاتفاق عليها او الوعد بها في غير بلد عربي.
قناة الجزيرة ولدت كما هو معلوم من رحم الزلزال المزدوج الذي ضرب المنطقة في بداية التسعينات، وتمثل في انهيار المعسكر الشيوعي وانفراط ما بقي من تضامن عربي محدود غداة غزو العراق للكويت. وفي ظل هذه التطورات الجديدة انهارت مسلمات كثيرة، وسقطت محرمات ـ ويمكن ان يقال في الحقيقة ان حقائق كثيرة كان النفاق يحجبها انكشفت مثلا عمليات الطرد الجماعي التي تمت لجاليات عربية من بعض الدول (الفلسطينيون من الكويت واليمنيون من السعودية) لا يمكن ان تكون وليدة لحظتها، بل هي في حقيقة الأمر نتيجة لتوتر حاد كان موجودا اصلا تحت السطح. وكان من المحرمات التي سقطت محظور التودد من اسرائيل، وهو ايضا لم يكن تحركا وليد لحظته. فقد اتضح ان هناك دولا عربية كانت تقيم علاقات مع اسرائيل لسنوات دون علم مواطنيها. وظهرت تيارات في بلدان عربية تجاهر بالمحبة لاسرائيل والكراهية للعرب عموما والفلسطينــيين خصوصا.
قناة الجزيرة ولدت في هذا الجو المنذر بانقلابات جوهرية، والذي كان من ابرز ملامحه الاعتقاد بألوهية امريكا والتوكل الأعمي عليها من قبل اوليائها الذين رأوا في الوجود في معسكرها فرصة لتصفية حسابات قديمة، بما في ذلك الخلافات الحدودية مع الجيران. وفي نفس الوقت فان الوجود الامريكي في الخليج اقترن بضغوط من أجل اعطاء مزيد من الحريات للشعوب، فقد كانت الولايات المتحدة تواجه احراجا كبيرا في الداخل والخارج بسبب تجييش جيوشها للدفاع عن انظمة يعتبر سجلها هو الاسوأ في العالم فيما يتعلق بالديمقراطية والحريات وحقوق الانسان. ولهذا انتزعت امريكا وعودا من هذه الأنظمة بالاصلاح، وروجت لذلك في اعلامها. واعطي هذا بدوره دفعة لتيارات الاصلاح في المنطقة، وتحققت من وراء ذلك نتائج محدودة، أبرزها عودة البرلمان الكويتي وانشاء مجالس للشوري في السعودية وسلطنة عمان واخيرا عودة الحياة السياسية الي البحرين.
ولكن استمرار الاوضاع علي ما هي عليه لا التغيرات الكبري المنتظرة هو الذي اعطي قناة الجزيرة حجمها وموقعها. مثلا اذا نظرنا الي شكاوي الدول الناقمة علي القناة لوجدنا انها تتركز اساسا حول تعليقات قصيرة وردت من مشاهدين او ضيوف علي القناة، مما يعني ان الاشكال الاساسي هو اتاحة منبر حر للمواطنين العرب للادلاء بآرائهم، وهذا بدوره يعكس شعورا بالهشاشة من قبل هذه الانظمة التي تعتبر الأقدم في العالم العربي ولكنها مع ذلك تتصرف كما لو انها بيوت من الثلج يكفي شعاع خافت من الرأي الحر لاذابتها.
هشاشة النظام العربي اذن لا القدرات الخارقة لقناة الجزيرة هي التي رسمت ملامح المواجهة الحالية. مهنياً فإن قناة الجزيرة، رغم تطورها المضطرد في السنوات الاخيرة، لا تزال تعاني من أوجه ضعف مهمة. فهي تعكس الي حد كبير الضعف العام في اجهزة الاعلام العربي الذي يجعلها تركز علي جانب الرأي والتعليق علي حساب الخبر والتحليل. فمع استثناءات قليلة ابرزها مكتب القناة في الاراضي المحتلة الذي كشف طاقمه عن مهنية عالية، نجد القناة لم تتطور بحيث تصبح مكاتبها مصدرا رئيسيا للاخبار، والتغطية الاخبارية الاصلية للقناة ضعيفة عموما، وتعكس ذلك نشراتها التي تعتمد كثيرا علي المصادر الاجنبية. وبنفس القدر فان الافلام الوثائقية الاصلية ما تزال تعاني من ضعف يجعلها دون المستوي العالمي بكثير.
وحتي في برامج الرأي نجد ان الشكوي من ان بعض الحلقات تعكس توجهات مسبقة تتمثل في اختيار الضيوف والمشاركين عبر الهاتف لها ما يبررها. ولكن كل هذه النواقص تعكس الي حد كبير الواقع العربي، من ناحية طبيعة الكفاءات المهنية المتوفرة والظروف العربية السائدة (ليس مصادفة مثلا ان مهنية مكاتب الجزيرة في فلسطين مقابل ضعف المكاتب الاخري تتطابق مع كون الشفافية الاعلامية في اسرائيل تفوق ما يوجد في اي بلد عربي). ولكي يتم تجاوز هذه الثغرات لا بد ان يتحرك الاعلام العربي والاوضاع العربية بمجملها الي الامام.
ولبعض الوقت، كانت هناك دلائل علي ان الامور تسير في هذا الاتجاه. فقد حركت الغيرة والحسد معظم الدول العربية ذات الشأن الي التحرك لمنافسة القناة الوليدة. ورصد الكثيرون مئات الملايين لدخول حلبة المنافسة، واستقدموا لهذا الغرض الكفاءات الاعلامية. وعندما نبههم اهل العلم علي استحياء بان سر نجاح الجزيرة لم يكن المال ولا حتي الكفاءات المهنية، بل هامش الحرية الواسع المتاح لها اجاب المسؤولون: وما المانع؟ هيا خذوا ما شئتم من الحريات، شرط الا تقولوا كذا ولا تتناولوا الموضوع الفلاني او الفلاني. فكانت النتيجة بالطبع الا حريات ولا من يحزنون، خاصة وان القيمين علي هذه التجارب لاحظوا ان النوائب تتخطف الزملاء من حولهم لأتفه الاسباب. فهذا رئيس تحرير يقال لأنه نشر قصيدة، وآخر لانه نشر مقالا في نقد اسرائيل، اذا كان نشر القصائد وذم اسرائيل من المحرمات، فماذا بقي ليقال؟
الآن وقد ادرك الجميع بالتجربة ما لم يكن خافياً علي ذوي الالباب ابتداء، وهو ان قيام اعلام حر وفعال ينافس قناة الجزيرة لن يتأتي في ظل الاوضاع الحالية، عادت حليمة الي عادتها القديمة، واكتشف الزعماء العرب الا حياة للدكتاتوريات القائمة الا بتضامنها ضد كل نسمة حرية، مهما كانت خافتة، ومهما كان مصدرها. ويبدو ان العزم انعقد علي وأد القناة عبر هجمة جماعية تذكر باستراتيجية قريش في تفريق دمها بين القبائل.
ولعل البعض رأي في توابع زلزال ايلول الأسود الامريكي فرصة مواتية لتحريك الامور بهذا الاتجاه. فمع سيطرة اليمين المتشدد الموالي لاسرائيل علي مقاليد الأمور في امريكا، والنقمة في واشنطن علي العرب عموما وعلي قناة الجزيرة خصوصاً، فان الانظمة العربية تعتقد ان البواكي لن تبكي علي حريات العرب وحقوقهم، خاصة اذا اعلت الانظمة صياحها بالدعم لحرب بوش ضد الارهاب، وحذرت من ان اتاحة الحريات للجماهير العربية الناقمة علي شارون والمعارضة لحرب بوش ضد العراق لن تكون مما يحمد عقباه.
واذا لم يكن من الواقعي العمل علي اغلاق قناة الجزيرة تماما، فان الاستراتيجية ترمي علي ما يبدو الي تحجيمها وحصارها ومواصلة الضغوط لفرض الاعتدال عليها. وهذا بدوره يضع دولة قطر في معضلة لا تحسد عليها. فمن جهة فان القناة تمثل رصيدا عالميا لقطر يعزز من مكانتها الدولية، اضافة الي التقدير الذي تجده من الجماهير العربية التي اصبحت تجد في القناة متنفسها الأول. من جهة اخري فان القناة اصبحت تشكل صداعا لقطر وعبئا دبلوماسيا ثقيلا في علاقاتها العربية. وعلي الرغم من ان قطر تميزت بمواقفها الدبلوماسية المستقلة (لكي لا نقول المناكفة) الا ان الدبلوماسية القطرية تفخر كذلك بكونها دبلوماسية التواصل والجسور المفتوحة، وحتي الآن فان قطر نجحت نجاحا مدهشا في مد جسور التفاهم والحوار البناء مع اقطاب متضادة بما لم يتح لأي دولة اخري: من حماس والسلطة الفلسطينية الي اسرائيل، ومن العراق وايران الي الولايات المتحدة، ومن السودان الي يوغندا واريتريا.
ولكن حتي هذه المهارات الدبلوماسية قد تواجه امتحانا عسيرا في ظل الشعور السائد بين الانظمة بان قناة الجزيرة تمثل التهديد الاكبر للنظام العربي القائم، ذلك ان التوتر الذي يخلقه وجود القناة سيصبح عبئا كبيرا علي التفاهم العربي ما لم تتراجع القناة وتتأقلم، مما يعني عمليا نهايتها، او ما لم يتغير الواقع العربي ويدرك العرب ان الوقت قد حان للخروج من كهف التخلف الي حياة العصر. وهذا يعني ان بقاء القناة وازدهارها يحتاج الي معجزة، وهي معجزة يتمني كل عربي حدوثها. ولكن المؤكد هو ان بقاء الاوضاع علي ما هي عليه هو من قبيل المستحيلات. وهذا يعني ان الاوضاع العربية اما ان تتطور الي الاحسن او ان تواجه انهيارا وشيكا لن تكون قناة الجزيرة ضحيته الوحيدة.
منقول.
_
الوسطية (http://www.wasatyah.com/vb/index.php)
- الحـلقــة الفـكـريـة والسـياسية (http://www.wasatyah.com/vb/forumdisplay.php?forumid=4)
(
ويعتبر هذا التحذير الخليجي الجماعي خطوة تصعيد مهمة في الحملة علي القناة المشاكسة. فقد سبقت هذه الخطوة تحذيرات اخري، كان أبرزها سحب السفير السعودي من الدوحة الشهر الماضي، وكان قد سبق ذلك سحب السفير الاردني، وحملات عنيفة ضد القناة في مصر وتونس والمغرب والكويت والبحرين ودول اخري. وقامت بعض هذه الدول باغلاق مكاتب القناة وطرد مراسليها، وهو ما لم تفعله السعودية لأنها لم توافق أصلاً علي فتح مكتب لقناة الجزيرة في العاصمة السعودية الرياض.
وفي القاموس العربي يعتبر سحب السفراء خطوة بطولية تمثل نهاية الاقدام ـ فأغلب الدول العربية التي سحبت سفراءها من الدوحة رفضت بالحاح، مطالب الجماهير بسحب سفرائها في تل ابيب، باعتبار ذلك أضعف الايمان للتعبير عن عدم الرضا عن جرائم شارون ضد ملايين العرب العزل في فلسطين، او علي الأقل اعطاء الانطباع بإن هذه الدول ليست شريكة لشارون في جرائمه. وهذا بدوره يشير الي ان هذه الدول تري في ما ارتكبته قناة الجزيرة من جرم امراً جللاً يفوق كثيراً ما كسبته يدا شارون المسكين. ولعل الخطوة التالية هي تجريد الجيوش العربية لتحرير الدوحة ومحو العار العربي الذي تمثله قناة الجزيرة.
وعلي الرغم من ان اعلان العرب الحرب علي طرف ما يعني البشري بطول السلامة لهذا العدو، الا ان تكاتف الضغوط علي الدوحة يشير الي تحول مهم في التيار في المنطقة العربية، ويعكس ان الاتجاه الآن قد انقلب من التقدم الخجول نحو إطلاق بعض الحريات للشعوب الي الهمة في العودة للماضي المظلم واغلاق كل الابواب والنوافذ. فالضغوط علي قناة الجزيرة ليست سوي جزء من ظاهرة عامة، تتمثل في زيادة حدة القمع ضد المعارضين، والتراجع عن اصلاحات سابقة تم الاتفاق عليها او الوعد بها في غير بلد عربي.
قناة الجزيرة ولدت كما هو معلوم من رحم الزلزال المزدوج الذي ضرب المنطقة في بداية التسعينات، وتمثل في انهيار المعسكر الشيوعي وانفراط ما بقي من تضامن عربي محدود غداة غزو العراق للكويت. وفي ظل هذه التطورات الجديدة انهارت مسلمات كثيرة، وسقطت محرمات ـ ويمكن ان يقال في الحقيقة ان حقائق كثيرة كان النفاق يحجبها انكشفت مثلا عمليات الطرد الجماعي التي تمت لجاليات عربية من بعض الدول (الفلسطينيون من الكويت واليمنيون من السعودية) لا يمكن ان تكون وليدة لحظتها، بل هي في حقيقة الأمر نتيجة لتوتر حاد كان موجودا اصلا تحت السطح. وكان من المحرمات التي سقطت محظور التودد من اسرائيل، وهو ايضا لم يكن تحركا وليد لحظته. فقد اتضح ان هناك دولا عربية كانت تقيم علاقات مع اسرائيل لسنوات دون علم مواطنيها. وظهرت تيارات في بلدان عربية تجاهر بالمحبة لاسرائيل والكراهية للعرب عموما والفلسطينــيين خصوصا.
قناة الجزيرة ولدت في هذا الجو المنذر بانقلابات جوهرية، والذي كان من ابرز ملامحه الاعتقاد بألوهية امريكا والتوكل الأعمي عليها من قبل اوليائها الذين رأوا في الوجود في معسكرها فرصة لتصفية حسابات قديمة، بما في ذلك الخلافات الحدودية مع الجيران. وفي نفس الوقت فان الوجود الامريكي في الخليج اقترن بضغوط من أجل اعطاء مزيد من الحريات للشعوب، فقد كانت الولايات المتحدة تواجه احراجا كبيرا في الداخل والخارج بسبب تجييش جيوشها للدفاع عن انظمة يعتبر سجلها هو الاسوأ في العالم فيما يتعلق بالديمقراطية والحريات وحقوق الانسان. ولهذا انتزعت امريكا وعودا من هذه الأنظمة بالاصلاح، وروجت لذلك في اعلامها. واعطي هذا بدوره دفعة لتيارات الاصلاح في المنطقة، وتحققت من وراء ذلك نتائج محدودة، أبرزها عودة البرلمان الكويتي وانشاء مجالس للشوري في السعودية وسلطنة عمان واخيرا عودة الحياة السياسية الي البحرين.
ولكن استمرار الاوضاع علي ما هي عليه لا التغيرات الكبري المنتظرة هو الذي اعطي قناة الجزيرة حجمها وموقعها. مثلا اذا نظرنا الي شكاوي الدول الناقمة علي القناة لوجدنا انها تتركز اساسا حول تعليقات قصيرة وردت من مشاهدين او ضيوف علي القناة، مما يعني ان الاشكال الاساسي هو اتاحة منبر حر للمواطنين العرب للادلاء بآرائهم، وهذا بدوره يعكس شعورا بالهشاشة من قبل هذه الانظمة التي تعتبر الأقدم في العالم العربي ولكنها مع ذلك تتصرف كما لو انها بيوت من الثلج يكفي شعاع خافت من الرأي الحر لاذابتها.
هشاشة النظام العربي اذن لا القدرات الخارقة لقناة الجزيرة هي التي رسمت ملامح المواجهة الحالية. مهنياً فإن قناة الجزيرة، رغم تطورها المضطرد في السنوات الاخيرة، لا تزال تعاني من أوجه ضعف مهمة. فهي تعكس الي حد كبير الضعف العام في اجهزة الاعلام العربي الذي يجعلها تركز علي جانب الرأي والتعليق علي حساب الخبر والتحليل. فمع استثناءات قليلة ابرزها مكتب القناة في الاراضي المحتلة الذي كشف طاقمه عن مهنية عالية، نجد القناة لم تتطور بحيث تصبح مكاتبها مصدرا رئيسيا للاخبار، والتغطية الاخبارية الاصلية للقناة ضعيفة عموما، وتعكس ذلك نشراتها التي تعتمد كثيرا علي المصادر الاجنبية. وبنفس القدر فان الافلام الوثائقية الاصلية ما تزال تعاني من ضعف يجعلها دون المستوي العالمي بكثير.
وحتي في برامج الرأي نجد ان الشكوي من ان بعض الحلقات تعكس توجهات مسبقة تتمثل في اختيار الضيوف والمشاركين عبر الهاتف لها ما يبررها. ولكن كل هذه النواقص تعكس الي حد كبير الواقع العربي، من ناحية طبيعة الكفاءات المهنية المتوفرة والظروف العربية السائدة (ليس مصادفة مثلا ان مهنية مكاتب الجزيرة في فلسطين مقابل ضعف المكاتب الاخري تتطابق مع كون الشفافية الاعلامية في اسرائيل تفوق ما يوجد في اي بلد عربي). ولكي يتم تجاوز هذه الثغرات لا بد ان يتحرك الاعلام العربي والاوضاع العربية بمجملها الي الامام.
ولبعض الوقت، كانت هناك دلائل علي ان الامور تسير في هذا الاتجاه. فقد حركت الغيرة والحسد معظم الدول العربية ذات الشأن الي التحرك لمنافسة القناة الوليدة. ورصد الكثيرون مئات الملايين لدخول حلبة المنافسة، واستقدموا لهذا الغرض الكفاءات الاعلامية. وعندما نبههم اهل العلم علي استحياء بان سر نجاح الجزيرة لم يكن المال ولا حتي الكفاءات المهنية، بل هامش الحرية الواسع المتاح لها اجاب المسؤولون: وما المانع؟ هيا خذوا ما شئتم من الحريات، شرط الا تقولوا كذا ولا تتناولوا الموضوع الفلاني او الفلاني. فكانت النتيجة بالطبع الا حريات ولا من يحزنون، خاصة وان القيمين علي هذه التجارب لاحظوا ان النوائب تتخطف الزملاء من حولهم لأتفه الاسباب. فهذا رئيس تحرير يقال لأنه نشر قصيدة، وآخر لانه نشر مقالا في نقد اسرائيل، اذا كان نشر القصائد وذم اسرائيل من المحرمات، فماذا بقي ليقال؟
الآن وقد ادرك الجميع بالتجربة ما لم يكن خافياً علي ذوي الالباب ابتداء، وهو ان قيام اعلام حر وفعال ينافس قناة الجزيرة لن يتأتي في ظل الاوضاع الحالية، عادت حليمة الي عادتها القديمة، واكتشف الزعماء العرب الا حياة للدكتاتوريات القائمة الا بتضامنها ضد كل نسمة حرية، مهما كانت خافتة، ومهما كان مصدرها. ويبدو ان العزم انعقد علي وأد القناة عبر هجمة جماعية تذكر باستراتيجية قريش في تفريق دمها بين القبائل.
ولعل البعض رأي في توابع زلزال ايلول الأسود الامريكي فرصة مواتية لتحريك الامور بهذا الاتجاه. فمع سيطرة اليمين المتشدد الموالي لاسرائيل علي مقاليد الأمور في امريكا، والنقمة في واشنطن علي العرب عموما وعلي قناة الجزيرة خصوصاً، فان الانظمة العربية تعتقد ان البواكي لن تبكي علي حريات العرب وحقوقهم، خاصة اذا اعلت الانظمة صياحها بالدعم لحرب بوش ضد الارهاب، وحذرت من ان اتاحة الحريات للجماهير العربية الناقمة علي شارون والمعارضة لحرب بوش ضد العراق لن تكون مما يحمد عقباه.
واذا لم يكن من الواقعي العمل علي اغلاق قناة الجزيرة تماما، فان الاستراتيجية ترمي علي ما يبدو الي تحجيمها وحصارها ومواصلة الضغوط لفرض الاعتدال عليها. وهذا بدوره يضع دولة قطر في معضلة لا تحسد عليها. فمن جهة فان القناة تمثل رصيدا عالميا لقطر يعزز من مكانتها الدولية، اضافة الي التقدير الذي تجده من الجماهير العربية التي اصبحت تجد في القناة متنفسها الأول. من جهة اخري فان القناة اصبحت تشكل صداعا لقطر وعبئا دبلوماسيا ثقيلا في علاقاتها العربية. وعلي الرغم من ان قطر تميزت بمواقفها الدبلوماسية المستقلة (لكي لا نقول المناكفة) الا ان الدبلوماسية القطرية تفخر كذلك بكونها دبلوماسية التواصل والجسور المفتوحة، وحتي الآن فان قطر نجحت نجاحا مدهشا في مد جسور التفاهم والحوار البناء مع اقطاب متضادة بما لم يتح لأي دولة اخري: من حماس والسلطة الفلسطينية الي اسرائيل، ومن العراق وايران الي الولايات المتحدة، ومن السودان الي يوغندا واريتريا.
ولكن حتي هذه المهارات الدبلوماسية قد تواجه امتحانا عسيرا في ظل الشعور السائد بين الانظمة بان قناة الجزيرة تمثل التهديد الاكبر للنظام العربي القائم، ذلك ان التوتر الذي يخلقه وجود القناة سيصبح عبئا كبيرا علي التفاهم العربي ما لم تتراجع القناة وتتأقلم، مما يعني عمليا نهايتها، او ما لم يتغير الواقع العربي ويدرك العرب ان الوقت قد حان للخروج من كهف التخلف الي حياة العصر. وهذا يعني ان بقاء القناة وازدهارها يحتاج الي معجزة، وهي معجزة يتمني كل عربي حدوثها. ولكن المؤكد هو ان بقاء الاوضاع علي ما هي عليه هو من قبيل المستحيلات. وهذا يعني ان الاوضاع العربية اما ان تتطور الي الاحسن او ان تواجه انهيارا وشيكا لن تكون قناة الجزيرة ضحيته الوحيدة.
منقول.
_
الوسطية (http://www.wasatyah.com/vb/index.php)
- الحـلقــة الفـكـريـة والسـياسية (http://www.wasatyah.com/vb/forumdisplay.php?forumid=4)
(