السيد نجل
13-09-09, 06:32 pm
قبل قرابة الستة أعوام, وفي أحد شوارع بلدة أوروبية نائية عتيقة يفوح من ارصفتها عبق التاريخ . ترجلت من حافلة كانت تقلني وأخذت أمشي في شارع من شوارعها التي أشاهدها للمرة الأولى في حياتي .
لم يدر في خلدي أنني سأشاهد في تلك البلدة غير العيون الملونة والشعر الأشقر, ولم يدر في خلدي أنني سأسمع صوتاً عربياً . كانت بلدة بعيدة عن العاصمة, أتيت لزيارتها بسبب صديق يسكنها طالما كان فخوراً انه قروي .
بدى كل شي جميل بالنسبة لي, فهي بلدة صغيرة و كل من قابلني ماشياً أو على دراجة هوائية بدى مهتما بشئونه الشخصية غير آبه بشعري الأسود أو شنطة ملابسي وضجيج عجلاتها .
كل شيء كان جميل وجميل جداً إلا لحظة الفصل بين سعادتي ودهشتي حين سمعت فيروز تغني من مقهي على شمالي!! لم أكن متخيلاً أن لفيروز حضور هناك . لم أفكر طويلاً قبل أن أشتم وألعن ولكن لم اشتم أو ألعن فيروز, بل شتمت العروبة ولعنت العروبة وكيف فرقت أبنائها في قارات العالم وفي جزر العالم وفي عواصم العالم وفي قرى العالم .
لقد جزمت أنه لن يستمتع بهذا الصوت غير عربي مُهجر هرب من عذاب العرب ومن تنكيل العرب, هرب من الإستبداد والدفن حياً .
قررت أن أحتسي فجان قهوة على صوت فيروز الأمل وألتقي أبن جلدتي الذي أختبى في هذه البلدة ولا آخاله يرقب عربياً يجاذبه أطراف الحديث في ذاك الصباح الجميل .
هممت بالدخول وجلست على طاولت توسطت المقهى الصغير! ولكن لم أجد في المقهى غير شقراء عشرينية كسى النمش وجنتيها . أتتني بقائمة المقهى فلم أنظر بالقائمة ولكن قلت كلمة واحدة ((Coffee فذهب وأحضرت فنجاناً ساخناً وقطعة بيتي فور ووضعتهم على الطاولة وعادت إلى المشرب . وأنا أتسائل هل تفهم هذه الشقراء ماتهمس به فيرو فهذه الشقراء بالتأكيد ليست عربية . فبادرتها وقد حملت بيدها ممسحة تمسح بعض أكواب القهوة (جميلة هذه الموسيقى ياسيدتي) فنظرت إلي ثم اعادت عينيها إلى أكواب القهوة وبعد صمت دام النصف دقيقة سألتني بدون أن تصوب نظرها إلي: هل أنت ((Arab فقلت لها: نعم . فقالت: لهذا السبب اعجبتك هذه الموسيقى الغريبة فقلت لها: لماذا إذا أبقيت عليها طالما أنها غريبة فقالت: أنا أجيرة في هذا المقهى وصاحب المقهي لايسمح بغير هذه الموسيقى . فصوبت نظرها إلي أنه يمضي الساعات على أنغامها وكثير من الأحيان أراه عيناه تغرق بالدموع . أظنه يفتقد أهله واصدقائه ويفتقد بلده ويفتقد أشياء كثيرة . لا أحبسه إن رأك أن لايأخذك بالاحضان . فقلت: أين هو؟ فقالت: لم يحن وقت قدومه بعد ..
أنتظرت لمدة نصف ساعة ولم يحظر, فدفعت ثمن الفنجان وأرتديت معطفي وقبضت على عنق شنطتي مستعداً للخروج وإذا بذلك السبعيني يدخل للمقهى الصغير بعصى يتكي عليها, فجزمت أنه العربي المنشود وما أنا رأني حتى قلت له (مرحبا عمو) فقال لي: متجهماً (مرحبا عمو تعى ياعمو تعى) فأقتربت منه فحضنني وصار يبكي كالطفل, أخذ يبكي بحرقة من فقد آخاه, يبكي ويبكي ثم صار يصرخ بصوت محطم بجملة أخذ يكررها (الله يلعنك يـ ... أحد قادة العرب) .............. وبعد أربع ساعات من الحديث معه غادرت المقهى محملاً بالألم والحزن .
ولأنني عاقد العزم أن أقضي بعض ساعات هذا العيد معه (إن كان على قيد الحياة) .. أخبرتكم بما آلمني قبل أعوام سته , وأسمحوا لي أن أهديكم قصيدة لمحمد الماغوط بهذه المناسبة:
وأنا طريح الفراش بين السيوف والرماح المبعثرة
فلسطين أريد شهدائي
إسرائيل أريد حطامي
أيتها الشواطئ أريد مرساتي
أيتها الصحراء أريد سرابي
أيتها الغابات أريد طيوري
أيها الصقيع أريد جدراني
أيها الشتاء أريد سعالي
أيتها العتبات أريد جدتي
أيتها العواصف أريد أشرعتي
أيها المطربون أريد تصفيقي
أيتها المراجيح أريد أعيادي
يا ملكات الجمال أريد تنهداتي وشهقاتي
أيتها المقابر الجماعية أريد رفاقي
أيها الصحفيون أريد خصوصياتي
أيها الغجر أريد مقتنياتي
أيتها الرياح أريد مذكراتي
أيتها القارات الخمس أريد أبنائي وأحفادي
لم يدر في خلدي أنني سأشاهد في تلك البلدة غير العيون الملونة والشعر الأشقر, ولم يدر في خلدي أنني سأسمع صوتاً عربياً . كانت بلدة بعيدة عن العاصمة, أتيت لزيارتها بسبب صديق يسكنها طالما كان فخوراً انه قروي .
بدى كل شي جميل بالنسبة لي, فهي بلدة صغيرة و كل من قابلني ماشياً أو على دراجة هوائية بدى مهتما بشئونه الشخصية غير آبه بشعري الأسود أو شنطة ملابسي وضجيج عجلاتها .
كل شيء كان جميل وجميل جداً إلا لحظة الفصل بين سعادتي ودهشتي حين سمعت فيروز تغني من مقهي على شمالي!! لم أكن متخيلاً أن لفيروز حضور هناك . لم أفكر طويلاً قبل أن أشتم وألعن ولكن لم اشتم أو ألعن فيروز, بل شتمت العروبة ولعنت العروبة وكيف فرقت أبنائها في قارات العالم وفي جزر العالم وفي عواصم العالم وفي قرى العالم .
لقد جزمت أنه لن يستمتع بهذا الصوت غير عربي مُهجر هرب من عذاب العرب ومن تنكيل العرب, هرب من الإستبداد والدفن حياً .
قررت أن أحتسي فجان قهوة على صوت فيروز الأمل وألتقي أبن جلدتي الذي أختبى في هذه البلدة ولا آخاله يرقب عربياً يجاذبه أطراف الحديث في ذاك الصباح الجميل .
هممت بالدخول وجلست على طاولت توسطت المقهى الصغير! ولكن لم أجد في المقهى غير شقراء عشرينية كسى النمش وجنتيها . أتتني بقائمة المقهى فلم أنظر بالقائمة ولكن قلت كلمة واحدة ((Coffee فذهب وأحضرت فنجاناً ساخناً وقطعة بيتي فور ووضعتهم على الطاولة وعادت إلى المشرب . وأنا أتسائل هل تفهم هذه الشقراء ماتهمس به فيرو فهذه الشقراء بالتأكيد ليست عربية . فبادرتها وقد حملت بيدها ممسحة تمسح بعض أكواب القهوة (جميلة هذه الموسيقى ياسيدتي) فنظرت إلي ثم اعادت عينيها إلى أكواب القهوة وبعد صمت دام النصف دقيقة سألتني بدون أن تصوب نظرها إلي: هل أنت ((Arab فقلت لها: نعم . فقالت: لهذا السبب اعجبتك هذه الموسيقى الغريبة فقلت لها: لماذا إذا أبقيت عليها طالما أنها غريبة فقالت: أنا أجيرة في هذا المقهى وصاحب المقهي لايسمح بغير هذه الموسيقى . فصوبت نظرها إلي أنه يمضي الساعات على أنغامها وكثير من الأحيان أراه عيناه تغرق بالدموع . أظنه يفتقد أهله واصدقائه ويفتقد بلده ويفتقد أشياء كثيرة . لا أحبسه إن رأك أن لايأخذك بالاحضان . فقلت: أين هو؟ فقالت: لم يحن وقت قدومه بعد ..
أنتظرت لمدة نصف ساعة ولم يحظر, فدفعت ثمن الفنجان وأرتديت معطفي وقبضت على عنق شنطتي مستعداً للخروج وإذا بذلك السبعيني يدخل للمقهى الصغير بعصى يتكي عليها, فجزمت أنه العربي المنشود وما أنا رأني حتى قلت له (مرحبا عمو) فقال لي: متجهماً (مرحبا عمو تعى ياعمو تعى) فأقتربت منه فحضنني وصار يبكي كالطفل, أخذ يبكي بحرقة من فقد آخاه, يبكي ويبكي ثم صار يصرخ بصوت محطم بجملة أخذ يكررها (الله يلعنك يـ ... أحد قادة العرب) .............. وبعد أربع ساعات من الحديث معه غادرت المقهى محملاً بالألم والحزن .
ولأنني عاقد العزم أن أقضي بعض ساعات هذا العيد معه (إن كان على قيد الحياة) .. أخبرتكم بما آلمني قبل أعوام سته , وأسمحوا لي أن أهديكم قصيدة لمحمد الماغوط بهذه المناسبة:
وأنا طريح الفراش بين السيوف والرماح المبعثرة
فلسطين أريد شهدائي
إسرائيل أريد حطامي
أيتها الشواطئ أريد مرساتي
أيتها الصحراء أريد سرابي
أيتها الغابات أريد طيوري
أيها الصقيع أريد جدراني
أيها الشتاء أريد سعالي
أيتها العتبات أريد جدتي
أيتها العواصف أريد أشرعتي
أيها المطربون أريد تصفيقي
أيتها المراجيح أريد أعيادي
يا ملكات الجمال أريد تنهداتي وشهقاتي
أيتها المقابر الجماعية أريد رفاقي
أيها الصحفيون أريد خصوصياتي
أيها الغجر أريد مقتنياتي
أيتها الرياح أريد مذكراتي
أيتها القارات الخمس أريد أبنائي وأحفادي