المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وصايا لما بعد الحج


dordm
28-12-08, 08:43 pm
إليكم مقال هذا الاسبوع لفضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم بن عبدالله الدويش بعنوان


(10) وصايا لما بعد الحج


قد تكون ممن وفقه الله فرجع من حجه كيوم ولدته أمه، فعقد العزم على أن يفتح صفحة جديدة مع الله، فأوصيك بعشر: أولاً: الإخلاص في التوبة، أو وضوح الهدف، فأنت تبت من أجل الله، ويهمك رضا الله لا رضا غيره، فأنت تعيش في الحياة من أجل تحقيق عبودية الله، فرضا الله هدفك وغايتك، فلا إله إلا الله، ولا معبود بحق إلا الله، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لَا شَرِيكَ لَهُ}، فأخلص توبتك لله، وكن صادقاً في الترك من أجل الله، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وإياك أن تكون التوبة من أجل تلك المناسبة فقط، أو من أجل صاحبك فلان الذي أحببته، أو من أجل الزوجة، أو الخوف على المستقبل، فالتوبة هنا من أجل المخلوق، وليست من أجل الخالق، فإن من تاب من أجل الله بصدق ثبت على الإيمان، ولو كان وحيداً فريداً غريباً، ولك في قصة وتوبة كعب بن مالك t عبرة وعظة، فتدبرها، وانظرها في صحيح مسلم؛ ففيها عجائب ودروس، فقد وصل الأمر به منتهاه كما قال:"قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ..إلخ" لكنه بالصدق والإخلاص ثبت حتى تاب الله عليه. فاصبر وأخلص في استقامتك ولو هجرك الناس كلهم. ثانياً: لابد أن يبدأ التغيير من الداخل، فالله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} فلا بد أن تكون التوبة عن قناعة ورضا، وليس عن حماس وعاطفة، فإن التوبة العاطفية سرعان ما تبرد وتضعف، كمن تأثر برمضان أو بالحج فقط، أو بموت قريب أو صديق، فأيام قلائل وشهور، وإذا بالشهوات تمور، والنفس تخور، فالتوبة منهج تغيير فكري وروحي، فلا بد من القناعة بالمبادئ وتصحيح الأفكار، وهنا فقط يذوق العبد حلاوة التوبة كما قال الحبيب e:"ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا"(م)، فأعلن حقيقة الرضا، ليتجذر الإيمان كالجبال الرواسي، ولك بسعد بن أبي وقاص مثلاً يحتذى، فقد كان برّاً بأمه، فلما أسلم وكان عمره سبع عشرة سنة، قالت له أمه: لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتُعير بي؟! فقال: لا تفعلي يا أمّه، فإني لا أدع ديني!! قال: فمكثت يوماً وليلة لا تأكل، فأصبحت وقد جهدت، فقال لها سعد: يا أمّه! والله لو كان لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني. فلما رأت صدقه وتمسكه، أكلت وشربت، فنزل قوله تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(لقمان:4)[أسد الغابة 2/216]. ومثله مصعب بن عمير كما ذكر ابن سعد في طبقاته... فمصعب تحمل العجائب وهو ابن السادسة عشرة من عمره، لكنها القناعة الداخلية بالإيمان الصحيح إذا لامست بشاشته القلوب، إنه التغيير من الداخل الذي يولد القناعة والرضا، والصبر والتحمل من أجل المبادئ والأهداف، وهكذا يُصنع الرجال، ويُربي الأجيال؟!! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}. ثالثاً: الاعتصام بالله، فإياك أن تعتمد على نفسك الضعيفة مهما كانت، {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} ولا حول ولا قوة لك إلا بربك، ألست تقرأ في القرآن {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فأعلن الضعف والافتقار، وأكثر من الدعاء والانكسار، للعزيز الغفار، فلا عاصم لك من الفتن إلا هو، ولا معين ولا منجي لك في زمن الشهوات إلا هو، لقد كان e يكثر في سجوده قوله: "يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ"، وفي الحديث: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ". رابعاً: املأ قلبك بخوف الله، واغرس في نفسك رقابة الله، فحياة القلوب وأنس النفوس بخوف الله، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الوقوع في الحرام، فاعلم بأن الله يراك، خف من الله ولا تخف من الناس،{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}. خامساً: تمسك بل عض بالنواجذ على الصاحب الصالح، ولو تأملنا هذه الآية لكفتنا في الصحبة والمصاحبة {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.

ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي ... فكم من قرين بالمقارن يقتدي

كم من شاب يحب الخير، ويتمنى الصلاح، لكن شياطين الإنس له بالمرصاد، نعوذ بالله من شر الناس. فإياك وصحبة البطال، وعليك بالأبطال {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}. سادساً: عليك بمجاهدة النفس، فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فإن أردت الهداية بحق، فلا بد من الصبر والتحمل، وفي الحديث: "وما أُعطي أحدٌ عطاءً هو خير وأوسع من الصبر" (خ م). سابعاً: لا أعلم وسيلة أروع وأعظم من قراءة القرآن، {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}، فأكثر من قراءة القرآن،وانظر وتدبر الآيات، ألست تريد الهداية {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، فعليك بالقرآن، وعليك بكثرة ذكر الله، لا يفتر لسانك من الذكر، ولا يغفل قلبك عن سماع الذكر، وحضور مجالس الذكر، فكثرة الذكر مطر القلوب، فإياك أن يجف قلبك فيقسو ويظلم {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}[الحديد:16] فألن قلبك بكثرة ذكر الله، تجد لذةً وانشراحاً وعجباً. ثامناً: إن أقرب وأوضح طريق للهداية، قول الله تعالى في الحديث القدسي: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ" فحافظ على الفرائض أولاً، ثم إن أردت أن يحبك الله، فالأمر سهل وميسور، فاسمع لله تعالى يقول: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.."ومن علامات القبول الاستمرار والمداومة، فعليك بالمداومة وعدم الانقطاع، فقليل دائم خير من كثير منقطع، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ.تاسعاً:اهجر مكان المعصية، ووسائلها، وأهلها، وكل ما يذكرك بها، أما أن يُعرض الإنسان نفسه لوسائل الفساد ومواطن الشهوات وإثارة الغرائز وفتح باب التخيل والتذكر، حتى إذا وقعأخذ ينوح ويبكي ويلوم نفسه وهو ما زال على أرض الخطيئة لم يهجرها، فعلى هذا وأمثاله أن يتهم توبته ويراجع نفسه قبل فوات الأوان، واعلم أن لكل معصية أسباباً ودوافعَ وعلاجاً وموانعَ، ففكر وتأمل، لتصل للحل، وتبقى العزيمة والإصرار، والهمة العالية هي المفتاح بعد توفيق الله. عاشراً وأخيراً: الله تعالى يقول:{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6]، فإياك والعجب والدلال على الله، فكم من نفس مريضة الآن تقول: لقد حججت ورجعت كيوم الولادة، وصمت عرفة فغفرت ذنوب العام، فلا يزال مع الشيطان ونفسه الضعيفة يُغرران به حتى يفتح على نفسه باب المعاصي والغرور والأمل، أما الصادقون فـ{يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:60].


د. إبراهيم بن عبد الله الدويش