تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : قصة مؤلمة، أدخل لتزتنزف الدمع من عينيك!!.


وحــي قلم !!
24-12-08, 09:13 pm
ا




لفصل الأول

1- الكفن

شاب في منتصف عمره... يَعَضُّ شفته السُّفلى... ثم يُخرج مَحْفَظَتَهُ... ويُقلِّبُ بين أدراجها... ويُخرج ورقة من فئة عشرة ريالات... ويدعو تلك المرأة المارّة من أمامه... ثم يقول لها :
- «خذي هذه... واشتري بها كفناًً... ثم أحضريه إلى هنا
أشاح بوجهه عن المرأة... وقال يحدث نفسه:
- لقد كذب المَثَل... ولم يجْنِ المرحوم من العنب الذي زرعه... سوى الشوك... الشوك الحاد... لقد مات... ولم يكن لمثله أن يموت... وبهذه الطريقة... لكن... لا فائدة... لقد انتهى كل شيء
في تلك الحادثة الغريبة... القاتل والمقتول... يُظِلُّهما سقف واحد... قاعة الانتظار... في المستشفى... ولكن جريمة القتل... أشنع بكثير... من أن تصبر على تحمُّل وِزْرِها جدران المستشفى... ولا حتى جبالٌ وبحار.
بعد دقائق... حضرت عاملة النظافة... وعلى يدها يُحمل الكفن... وعندما قدَّمته لذلك الجالس... قالت في حزن:
- هذا هو الكفن... وهذه ورقة العشرة ريالات... والله لن آخذها... اعتبر الكفن هدية... يبدو أنك غير قادر على شراء الكفن... إنه غالٍ بعض الشيء... قيمته تقارب السبعين... لا مشكلة... أنا أريد الأجر... والرجل... رحمه الله... كان مؤمناً مخلصاً... وقبل أن يموت... قال...( أشهد أن لا إله إلا الله) ».
صمت الشاب... وأخذ الكفن... وأخذ الريالات العشرة... في شبه بلاهة... وضعها في جيبه... واحتضن الكفن... ثم أبعده قليلا... ليتأمله... حتماً هو لا يفكر في شيء مما حوله... إنه فقط ينظر إلى الكفن الأبيض... ويتذكر... ويتذكر... وترتسم صورة المرحوم... بكل حزن... على جدار عقلة المنهك.
تحامل الشاب قليلاً على نفسه... وقام... كان يشعر بإعياءٍ شديد... عليه أن يذهب إلى الثلاجة... ليُلقي النظرة الأخيرة... وسيعطيهم الكفن... هم سيغسلون الجثة... وسيكفنونها.

2- الثلاجة
مكان مخيف... يقل الرعب عند دخوله قليلاً عن دخول القبر... والأدراج التي يوضع فيها الموتى... كفيلة بتكبيد النفس أشنع أعباء الحزن والكآبة.
دخل الشاب... ليلقي نظرته الأخيرة... لا يدري لماذا شعر أنه يموت... أو ربما شعر بشيء آخر... شعر أنه كان ميتاً... والآن لتوّه بُعث... الدنيا تتداخل أمامه... وتبدو صوراًً كاذبة... إلا أولئك الذين ينامون في الأدراج.
رافقه مسؤول الثلاجة... أوصله إلى الجثة المقصودة... وسحب الدُّرْج.
بدت الجثة للشاب... كانت أقرب حالاً لسؤالٍ صعب... يرجعُهُ للخلف... للخلف... أعواماً سحيقة.
وضع يده اليسرى على طرف الدُّرْج... ووضع يده اليمنى في تلك اليد الباردة... وطبع قبلةً حارقة... على الجبين المخيف... ثم سمح لنفسه المعتوهة... مصاحبة قسمات الوجه الراقد... إلى نقطة البداية.

3- منذ أربعين سنة
هناك... وبجوار الموقد الصغير... يجلس سلمان الصغير... جلسة القرفصاء.
ثوبه ممزق من الخلف... ومن الأمام... ويكاد ينفصل من الخاصرة... والرُّقع الكثيرة... متعددة الألوان... وتوحي بفقر وبؤس لا يتناهيان.
عيناه الذابلتان... بالنسبة لحدقتيه... أقرب ما تكون شبهاً... لماء بئر غائرة... يكاد يجف في كل آنٍ وحين... ولمَّا يزل القََدَرُ العادل... يبثُُّّ فيهما... إيحاءً بشبح الموت الرهيب.
يمد سلمان يده إلى جهة الموقد... ليستمد قليلاً من الدفء.
ثم ينظر نظرةًً حزينةً... إلى أمه سِعدة... التي لم تنفكَّ نظراتها عنه... منذ جلس... في مكانه ذاك... قبل نصف ساعة تقريباً.
سأل سلمان أمه قائلاً:
- «هل ستكون الليلةُ يا أمي... باردةً مثل الليلة البارحة»
نظرت الأم إلى الطفل... نظرة شاردة... مفعمةً بالحزن... ثم قالت:
- «الله المستعان»
لم تكتِفِ الأم بِكَلِمَتِها الحزينة تلك... لقد خلعت خمارها الرَّث... من على رأسها (المصدوع) بالشقيقة... ثم قامت متثاقلة... تنوء بحملٍ ثقيلٍ من الهموم... حتى جلست بجوار الصغير... لِتَطْبَع على رأسه الأشعث... قبلةً بائسة... ثم تلفَّ الخمار على جسده الضامر.
قالت عند ذلك:
- «سلمان... يا ولدي... غداًً تطلع الشمس... وينتشر الدفء... في كل مكان»
الأب القابع في زاوية الغرفة... ينظر إلى المشهد... نظرةًً صامتةًً وقورة... وكأن شيئاً مما حصل لا يهمه... أبداً... كان يبتسم ويهز رأسه في شيء من اللامبالاة.
لكنَّ حقيقة الأمر... مغايرة تماماً لهذه الصورة... إنه يبكي من داخله... ويبكي بكاءً مراًً... صحيحٌ أن دموعه لم تخرج... ولكنها كانت تجري أنهاراً من داخله.
وخروج الدموع... في أحيانٍ كثيرة... تخفيفٌٌ لبعض الأحزان... وقد يكون عدم جريانها في تلك المواقف الصعبة... نوع قاتل من أنواع الحزن... قاتل أشْنع ما يكون القتل.
ذلك أن القلب إذا جَمَدَ بالذهول... تجمدت معه العينان... لتبقى الأحزان تغلي في القلب الجامد... حتى تصدعه... أو تكاد.
وربما قطَعته إرباً إرباً... كل ذلك يحصل... دون أن تشارك العينان في إخراج شيء... ولو يسير... من مظاهر الحزن.
إنه حقاً... (الحزن القاتل) .
قال أبو سلمان... وهو يتشاغلُ بحَكِّ كشطٍ حديثٍ تحت أحد أظافر قدمه اليسرى:
- «أم سلمان»
- «نعم يا أبا سلمان»
- «تعالي أريدك»
قامت أم سلمان... واتجهت إلى زوجها حتى وقفت عند قدميه ثم قالت:
- «لبيك»
- « حَاجَّةً تلبين... إن شاء الله... هل من عشاء؟»
جلست أم سلمان على ركبتيها... ثم مَدَّت يدها لتساعد زوجها في نقش ما كان يُشغل به نفسه... ثم قالت وهي تبتسم في رضا:
- «نعم يا أبا سلمان... الحمد لله... بقي الكثير من التمر... الكوز الأول... قارب على الانتهاء... لكنَّ الكوز الثاني... لم يزل ملآن... وسيكفينا إن شاء الله... حتى محصول العام القادم... هيه يا زوجي... إننا لا نشكو الجوع... ولكن...
- « أعلم... أعلم... تشكون البرد... وتشكون العُري... الناس كلهم يَشْكُون ذلك... ليس لنا إلا الصبر... حتماً سيكون لنا فرجٌ قريب... من هذا البلاء»
قالت أم سلمان... في صوت هادئ متودد:
- «أبا سلمان... لقد اقترب العيد»
دنَت أم سلمان من قدم زوجها المجروحة... تشاغلت بالجرح الصغير... ثم أردفت:
- «يجب أن تشتري قماشاً جديداً... كي أخيطه لك ثوباًً... تلبسه في العيد... أنت تصلي بالناس العيد... ومن الضروري أن يكون ثوبك جديداًً»
قال أبو سلمان في شرود:
- «هيه يا أم سلمان... ومن أين لنا ثمن القماش... صدقيني يا أم سلمان... أنا لا أهتم بنفسي كما يهمني شأنكم... ولكن... ليس باليد حيلة.. العين بصيرة... واليد قصيرة
ردّدت بتسليم:
- العين بصيرة... واليد قصيرة... هيه... صدقت
- ولكن... مع كل ذلك... لا محالة... يجب علي أن أتدبر الأمر... ثم... ثم...
- ماذا يا رجل؟
- ثم... الحقيقة... هناك أمر آخر... يجب أن نناقشه معاً يا أم سلمان»
- «تفضل... قل يا أبا سلمان... أنا رهن إشارتك »
- «ابننا سلمان... قارب عمره السابعة.. وأنا أطمع في أن أُعلمه»
- «تعلمه؟... ولم لا... العلم نور... والشيخ سيعلمه القرآن في المسجد... لا تشغل نفسك»
- «لا يا أم سلمان... ما قصدته أمر آخر... المدرسة... يقال أن مدرسةً ستُفتح السنة القادمة... في القرية المجاورة... إنها أول مدرسة ستَفْتَحُ في هذه المنطقة... وهي فرصة يا أم سلمان... صدقيني... العلم نور»
- «مدرسة!... وما المدرسة؟...
- المدرسة يا عزيزتي... بناء... بناءٌ يذهب إليه طالب العلم... ويبقى فيه نصف نهار... ثم يعود... وفيه يتعلم الحساب والدين واللغة... وأشياء أخرى
- مدرسة غريبة... والله لا أدري يا زوجي... ولكن... ما المنفعة من المدرسة؟... الولد يكفيه القرآن... ثم... ثم...
- ثم ماذا؟... قولي
- يا أبا سلمان... أنت تعلم... نحن نحتاج الولد... إنه يساعدنا في كل شيء... المزرعة... رعي الأغنام... وأنت تقول إنه سيقضي في المدرسة نصف نهار... وذهابه وعودته ستقضي على بقية النهار... وحتما مع ذهابه وعودته سيرجع متعباً
- صحيح... هذا صحيح
- وهذا يعني إن ذهابه للمدرسة... سيجعلنا نتحمل جميع الأعمال... وحدنا
- صحيح... صحيح
- لم لا نكتفي بتعليمه القرآن في كتاتيب المسجد... أظن هذا يكفي»
- «سنفكر في الأمر مستقبلاً... لا تشغلي بالك... هذا إن تقرر فتح المدرسة فعلا... أنا لم أتأكد من خبرها حتى الآن... سمعت كلاماً من الناس»
نهض ساعتها أبو سلمان... وقال وهو يتقدم نحو عود مغروس في الجدار... ليأخذ عمامته وعصاه :
- «أم سلمان
- لبيك
- قررت أن أغيب عنكم... عشرة أيام... أو نصف شهر... لن يصبح نهار العيد إلا وقد أتيت»
قامت أم سلمان في ذهول... وتقدمت نحوه وهي تقول:
- «تغيب عنا!... ماذا تقول؟... إلى أين يا أبا سلمان... إلى أين تعتزم المسير؟»
قال وهو يلتفت نحوها... ويلف عمامته بهدوء... وأشعة السراج تنعكس على وجهه... وتبدي ابتسامته:
- « لطلب الرزق... سأعمل ليل نهار... يجب أن أشتري ملابس جديدة... ودافئة... وأنت يا أم سلمان... عليك الاهتمام بالولد... وأيضاً... أعانك الله على الاهتمام بالمزرعة... والنخيل... والأغنام »
أمسكت سِعدة بيدي زوجها... وقالت وهي تنظر إليه في غير قليل من الاستجداء:
- « تتركنا يا أبا سلمان... وتذهب... وفي الليل»
- « ليس باليد حيلة... لابد من تحمل أعباء الحياة... نحن نصارعها... فإما تغلبنا... أو نغلبها»
- «إذن أنت عازم... وقد أزمعت أمرك من قبل
- عازم... ومتوكل على الله
- فاترك الرحيل حتى طلوع الفجر... وانبلاج النور »
- «الرحيل مع طلوع الفجر... أو الرحيل في هذه الساعة... الأمر سيان... والوضع هو الوضع... والحال هي الحال... بل سأذهب الآن»
- الصبر جميل يا أبا سلمان... فاصبر حتى الفجر
- بل سأرحل الآن... فأنا لا أستطيع النظر إليكم... وأنتم على هذه الحال»
طاطأت سِعدة رأسها... وألقت بدمعتين على الأرض... ثم قالت في غصة:
- «سهل الله أمرك... وهوّن دربك... وأعادك إلينا سالماً
نظر إليها أبو سلمان... بدا في نظراته العطف... ثم قال:
- «سيكون الله معي ومعكم
استدارت سِعدة وهي تقول:
- «انتظر قليلاً... سأضع لك بعض التمر والماء في الجراب.. الله... الله... كم سَيَشْغَلُنَا فراقك»
تقدم الوالد نحو سلمان الذي نام لتوّه بجوار الموقد... وانحنى نحوه في خشوع... وقبله قبلة حارة... ثم نظر إليه مليَّاً... وقال وهو يتابع النظر:
_ ادعي الله لي يا أم سلمان... ادعي الله لي في كل صلاة
لحظات... وحمل أبو سلمان الجراب... واتجه نحو الباب... فَتح الباب... ثم أقفله... وتلاشت معالم الرجل الوحيد... في حياة أم سلمان... رحل أبو سلمان في تلك الليلة المظلمة... لا يَدرِي أحدٌ إلى أي جهة يتجه.

4- بعد ساعة
خطواته الواسعة... تَطبع آثار قدميه الحافيتين... في أرض رملية قاحلة... وصفير الريح الباردة... يوحي بكل شيء... إلا بالأمن والطمأنينة!.
وذلك السائر المغلوب... ينتقل بقدميه... في هذا الوجود الرهيب... لا يأمن أبداً على حياته... فمرة يفكر في هجوم سبع ضارٍ... ومرة يتحسس هجوم لص... ومرة يرفع قدمة فجأة... كي لا تلدغه إحدى هوام الأرض... خشية أن تتلاشى كل الآمال المحدودة... التي لازال يعالجها قلبه الشارد.
شيء واحد... ربما كان أنيساً وسميراً... لقلب مهدود مُعنـَّى... تتخاطفه الأوهام والهواجس... في هذه الوحدة الصامتة.
النجم... إنه النجم البعيد.
وبعد أن استقرت عينا سالك الدرب الوحيد... على وميض النجم المرتفع... أقنع نفسه أنه ليس وحيداً في هذه القفار.
محظوظ من تكون رحلاته في اليالي المقمرة... ولكنّ أبا سلمان... لم يصحبه هنا سوى الظلام... ونجم يفيق ساعة... ثم ينام .
استمرت خطوات أبي سلمان... تنقله صعوداً إلى تل... أو هبوطاً إلى وادي... حتى آذن طلوع الفجر... وآذن معه طلوع نهار جديد.

5- نهار جديد
لا يُتَوقع بأي حال من الأحوال... أن يكون النهار الجديد... أحسنَ حالاً من النهار الفائت... خاصة على المرأة التي بدأت الهواجس تنهش مضغة قلبها النابض... خوفاً من الموت الذي قد يلتهم شريك حياتها... لتبقى بعده تقاسي مقابلة أشباح الوحدة... في حياة جرداء... بلا زوج أو سند.
وقد يكون النهار الجديد... أوفر حظاً للرَّجل الرَّحال... الذي ترك أهله في أسوأ حال... والأمل يدغدغ مشاعره الولهانة... رجاء انبلاج الأمل سعيد... في صباحً قادم... يحِيل حياة أسرته إلى حياة أفضل... وقد تُقدر له خيبة أمل قاسية... ترد أمانيه في الصباح الموعود... وتبقى المياه الراكدة... ثابتة في مجاريها الآسنة.

6- بعد يومين
أم سلمان فوق سطح منزلها... تحاول إكمال عملها بسرعة... لتعود للداخل.
إنها قلقة على ولدها سلمان... لقد أصبح اليوم مريضاً.
المرض للطفل في مثل هذه البيئة أمر مرعب... إنه في كثير من الأحيان... لا يعني سوى الموت... الموت السريع... وربما الموت البطيء... وخيار الحياة لايرد إلا في أحيان قليلة جداً.
ولو قُدِّر للمطر أن ينزل... فهذا بلاشك نذير شؤم وموت... من البرد بالتأكيد.
سمعت الأم السعال الجاف... الذي يلهو بتقطيع حنجرة سلمان... هرولت من الأعلى والذعر يتمالك عقلها المكدود... لاشيء من الموجودات المريحة يمكن للإنسان هنا أن يتمتع به... أو يدركه... سوى شيء واحد... إنه النوم... وربما الموت:
- ليتك يا سلمان تبقى نائماً
ولكن... البرد والمرض حظرا على الطفل تمتعه بالرَّاحة الممكنة الأولى... (النوم)... وقد يكون ذلك إيذاناً بالراحة الثانية... (الموت).
حملت الأم طفلها الشاحب... وبدأت تدور به أطراف الغرفة الضيقة... حرارته بدأت ترتفع... وبطنه أصبح فارغاً... وبكائه ينبئ عن ألم شديد في صدره.
بقيت الأم فترة وهي تصارع أحزانها غير المتناهية... ثم اتجهت للمخزن... وأحضرت بعضاً من التمر... وبدأت تعجنه بين أصابعها... ثم تطعمه لابنها... ولكنه امتنع عن الأكل بعد لقمتين أو ثلاث... بلعها بصعوبة... وبقيت الحال كذلك... طيلة ساعات النهار.
وعندما آذنت الشمس بالغروب... كانت السماء متلبدة بغيوم كثيرة... لا توحي إلا بمطر شديد.
حالة الطفل تنتقل من سيء إلى أسوأ... ولا أمل في شفائه من مرضه إلا بالدواء.
الدواء لمثل هذه الحالات... موجود عند إحدى الجارات... علاج مُجرَّب... وعُرفت جدواه بالتجربة... التجربة فقط.
لقد جُرب على أيدي حكماء القرية... المشهود لهم بالخبرة والمعرفة... بعلاج الأمراض.
لبست الأم خمارها... وتركت طفلها في حفظ الله... حتى تعود إليه بالدواء.
كان منزل جارتهم قريبٌ بدرجة ما... وبعد دقائق... وصلت أم سلمان لجارتها... طرقت الباب... وفتحت الجارة... قالت أم سلمان:
- «أسعفيني يا أم محمد... أرجوك... الولد يكاد يموت... إنّ ألماً شديداً سيُتْلِفُ عليه بطنه... لا محالة... أعطيني من علاج البطن الذي عندك»
- «سلامات... ألف سلامات... اجلسي... سأحْضِرُ لكِ العلاج فوراً... وبإذن الله هو فعال جداًً... ومجرب»
انصرفت أم محمد لإحضار العلاج وهي تقول:
- «هل صحيح أن أبوكم مسافر»
- «نعم مسافر»
- «يعود إن شاء الله بالسلامة»
سكبت الجارة من إناء كبير... في إناء صغير... وفاحت رائحة ذلك العلاج المدهش... ثم أقبلت أم محمد ناحية أم سلمان... وقالت:
- «تفضلي... هذا علاج البطن... اسمه (القاز)... إنه علاج فعال... يقتل ديدان البطن... وأيضاً ينفع للصداع... كما قال الراعي علي... لقد جربه بنفسه
- شكراً يا أم محمد... لقد خسَّرناكم... ولكنه جميلٌ لن أنساه لكم أبداً»
قالت أم محمد وهي تُشيِّع أم سلمان للخارج:
- «هذا القاز إضافة لكونه دواء... فهو أيضا يوضع للفانوس... وتُنار به الفتيلة
- الفانوس؟!
- نعم... الفانوس... إنه اختراع عظيم جداً... أفضل من سراج الدهن... بآلاف المرات... يوضع فيه القاز... ويضيء كالشمس... ألم تفكروا يا أم سلمان... في شراء فانوس »
- «الله يكتب الذي فيه خير يا أم محمد... المهم الآن أن يشفى سلمان... ويعود أبوه بالسلامة»
- «سيعود بإذن الله»
- «في أمان الله»

يتبع الفصل الثاني

إشراق
25-12-08, 04:04 am
متى بتكمل ليتني ماقريت لين انتهيت من سردها

وحــي قلم !!
26-01-09, 05:25 am
7- مفعول الدواء
بعد دقائق قليلة... كانت أم سلمان جالسة بجوار ابنها... وتحمل فنجاناً صغيراً من القاز... الذي أخذته من جارتها... وتدنيه من فمه.
وحين لم يفتح سلمان فمه... فتحته أمه قسراً... وألقت بجرعة لا بأس بها في جوفه... وأسلمته لنوم عميق.
الحقيقة أن القاز... هذا هو ذاته الكيروسين... وهو أحد مشتقات النفط... وهو قابل للاشتعال... الأمر المدهش... أن يتخذه البشر علاجاً... والأمر الأكثر دهشة... أن يجزموا أن فيه علاجهم... ولكن... هكذا أوحت لهم عقولهم... وبهذا أجبرهم واقعهم.
مرت ساعات الليل هادئة... وأصبح الصباح... وحصل الأمر (الطبيعي)... بالنسبة لأم سلمان... لقد شُفي سلمان شفاءً كاملاً... (بفضل الله... ثم بفضل جرعة القاز)... فرحت الأم... وحمدت الله على نعمته... ودعت الله أن يجزي أم محمد خير الجزاء.
وانتهت همومٌ من نوع... وبدت هموم من نوع آخر... إنه القلق... القلق الذي يساورها خوفاً على زوجها المهاجر لطلب الرزق.

8- بعد يومين
الغيوم التي تهدد القرية... منبسطة في السماء... لتدخل الرعب إلى قلوب الناس... مع كل زخة مطر صغيرة... بسبب البرد الذي سيصحبه.
لحسن الحظ... لم تُكشِّر أيما غيمة عن أنيابها اللامعة بالبرق... حتى الآن.
قارب وقت العصر... والأم وولدها جالسان في وادي ( تالق)... بين جبلي (مِرَّان) و (رهوة).
لقد خرجت أم سلمان للوادي منذ ساعة تقريبا... وهو واديٍ قريب جداً من القرية.
إن قُرب الأم من القرية يجعلها تحس بغير قليل من الأمن... والرعاة من أهل القرية ليسو بعيدين عن هذا الموقع.
الأم جالسة في الظل... تتمتع أيما تمتع بالنظر إلى لهو ولدها البريء... وتراقب أغنامهم القريبة هناك في المرعى.
سلمان يلهو سعيداً بلعبته المفضلة... والوحيدة... الحثو بالتراب... وبين الفينة والأخرى... ينطلق مسرعاً نحو الأغنام... ليعيدها لموقعها الطبيعي.
مع الأسف... بدأت السماء تبسط رهبتها من جديد... وبدأت الغيوم تجتمع بصورة مذهلة... وبدأت الرهبة تحل قلب الأم من جديد... سارعت سعدة مع ولدها في جمع الأغنام... استعداداً للرحيل... حمعوا الأغنام... وانطلقوا.
وَصَلُوا بعد قليل لمنزلهم... وهتَّانٌ من المطر يبلل كل شيء في الخارج.
أظلم الليل... وأظلمت معه الحياة... وأظلمت الغرفات التي يسكنها سلمان وأمه... وأظلم قلب الأم خوفاً وقلقاً... وبدأت قوة المطر تزداد... وتزداد... وتحول الهتان لمطر غزير... وازداد معه تسرب الماء... عن طريق السقف... إلى داخل المنزل... والأم هنا وهناك... تقفز بسرعة لتضع الآنية القديمة... تحت قطرات الماء المتسربة.
حليب الماعز في قدر صغير على النار... وسلمان ينتظر غليانه بكل لهفة... وما أن اطمأنت الأم على إنْهاء مشكلة التسرب... حتى حملت الحليب وأحضرته إلى السفرة... ذات الصنف الواحد... وبدأت هي وطفلها يتعشيان الحليب والتمر.
وبعد فترة ليست بالقصيرة... انتهى هطول المطر... وبدأت مهمة جديدة... على الأم القيام بها فوراً... وتحت جنح الظلام.
تلفعت سعدة بمروطها البالية... وخرجت يدهدِهُها البرد والظلام...
لقد تركت الأم ابنها في أحضان الدفء المنبعثة من الموقد... وما أن لفح وجهها زمهرير البرد القارس... حتى تذكرت ودون مقدمات... زوجها التائه في حيث لا تعلم... والله وحده من يعلم.
حتى وصلت للمزرعة... عليها أن تشرع في تقسيم ماء السيول... الناتج من هطول المطر... بدقة متناهية... على الحقول المتعطشة للماء.
بدأت أم سلمان في ممارسة الأعمال الشاقة... أولى بمعدات الحفر الخفيفة أن تقوم بها... بدلاً من هذه المرأة التي أكل منها الحزن ما أبقاه الفقر والجوع... ولكن ذلك لم يحصل.
كانت قدماها العاريتان... تغوصان في الماء الساقع... إلى الركبتين... وكانت المسحاة في يدها... تسحب الطين لتفتح فرجة كي يدخل الماء... ويرتوي الزرع... منظر ليلي مذهل... لكل عاقل لو رآه... ولكن ذهول المرأة تلك... أكثر من ذهول ذلك العاقل... عندما رأت طفلها سلمان... يتخبط في الماء البارد... ليصل إليها.
ألقت سعدة المسحاة... عند سماعها صوت ولدها المبحوح الباكي... وهو ينادي:
- " يا أمي... يا أمي"
اتجهت نحوه في قلق بالغ... وصلت إليه... وإذا به يكاد يُخرج آخر أنفاسه من البرد... حملته في لوعة... واتجهت للمنزل... كانت من سرعتها تتعثر في خطواتها... وصلت للمنزل... ودخلت... ووضعت ابنها في فراشه... وأحضرت المزيد من الحطب... وبدأت في إيقاده.
لم تلبث ساعات قليلة... حتى بدأت صحة الطفل في التدهور الواضح... وارفعت درجة حرارته ارتفاعاً كبيراً... وعاد صديقها القلق... ليساور عليها قلبها من جديد.
طلع الفجر... وواصلت الأم صلاتها في خشوع تام... ثم عادت تقلب النظر في وجه طفلها... كان أصفر شاحباً.
أحضرت الأم العلاج... الذي تدّخرة بحرص كما يُدّخر الذهب... سكبت منه في فنجان صغير... وأسقته ابنها جرعة صغيرة... من «القاز»... أخذاً بنصيحة أم محمد... التي نقلتها عن الراعي علي.
أشرقت الشمس... وخرجت سعدة لتقوم بواجبها اليومي... وتتابع آخر تطورات صنيع مطر البارحة... لم يطل بقاءها في الخارج... لقد عادت للمنزل... والأمل يداعب قلبها... بأن طفلها أصبح أفضل حالاً... بعد تناوله لجرعة القاز.
لكن مع الأسف... كانت النتائج عكسية جداً... وصحة الطفل تتجه نحو الأسوأ.

9- بعد عشرين يوما
مرت أيام عدة... واستمر الوضع السيء فترة أطول... لم يعد الطفل قادراً على البقاء في الحياة أكثر مما مضى... وبدأ المرض الذي سببه البرد يجثم بعنف على رئته الغضة... وأم سلمان تقاسي لأجل ذلك الأمرَّين... وزوجها الغائب طال غيابه أكثر من المقرر... يجب أن تعمل شيئاً من أجل تدفئة الصغير... أنزلت قميصها... لفته حوله... واستترت بشيء يسير من الخَوْصْ... لقد قررت احتمال البرد... في سبيل أن يحصل سلمان على كمية أكثر من الدفء... شيء واحد لا تستطيع تحمُّله... السؤال الحائر:
- " ماذا حل بك يا أبا سلمان؟... هل من المحتمل أن يكون الدهر قد ضربك ضربة قاصمة؟... أودت بحياتك... وهل سيكون انتظاري لك... بابٌ من أبواب العبث؟... ومن أبواب انتظار رجل كان زاداً لسبع ضار في يوم سابق... أو ربما قتيلاً في أيما واد أو شعب"
في أثناء تلك الهواجس المرعبة... وحيث لا يُسمع مما في الخارج... سوى صوت صافرة الليل... المطربة الوحيدة في أحوالٍ كتلك... سَمعت أم سلمان طرقاً على الباب... رفََّّ قلبها... وهف... وطفرت آمالها من خلف حناياها:
- " هل أذِنَ الحظ السعيد... بقدومك يا" أبا سلمان... ووصول الغنائم" "
قامت أم سلمان مسرعة... فتحت الباب... ولكن... أمر مؤسف... لم ينشق الباب عن وجه زوجها... وإنما عن وجه رجلٍ آخر... يبدو أكثر بؤساً ونكداً من زوجها:
- " يا ترى مَن يكون هذا الرجل؟"
ارتجف قلب سعدة... عندما حدَّثتها نفسها :
- " هل يكون هذا الرجل... هو حامل الخبر المفجع... عن أبي سلمان... أم تراه... يحمل خبراً ساراً عن موعد وصوله القريب ؟"
قال الرجل:
- «أهل الدار»
- «أهلها الله»
عادت سعدة للداخل... وسحبت الخمار عن جسد ولدها... وتلفعت به... ثم سارت للباب بقلق... وقالت:
- «من أنت؟ »
- «عابر سبيل... جائع وبردان... اعملوا المعروف... واكسبوا الثواب»
تنفست أم سلمان الصعداء... لم يكن الطارق سوى عابر سبيل... قد يكون حاله أسوأ من حال زوجها... وربما خرج من عند أهله بحثاً عن طعام أو كساء... لا أحد يدري... العادة والأصول هنا تقول:
- " لابد من إغاثة الغريب... وتقديم العون له... أياً كان ذلك الغريب"
والأمر على كل حال... لا يحتمل الخطر... فلن يكون بداخل المنزل أي دافع يدفع مثل هذا الغريب... لفعل الشر.
قالت سعدة:
- «تفضل... ادخل يارجل»
دخل الرجل مُسَلِّماً... وبعد أن جلس بجوار الموقد... نظر إلى سلمان نظرةً غير ذات معنى... وقال:
- «يا بنت الأجواد... هل من طعام؟ »
- «نعم... خير الله واجد»
قامت أم سلمان... وبعد لحظات... أصبح إناء التمر ماثلاً أمام الرجل... ليسد جوعته... وكان اللهب في الموقد المجاور... ينفث الحياة في يد الرجل... الذي كاد الموت يستولي على بدنه البارد.
قالت أم سلمان وهي واقفة تنظر إلى الرجل بقلق شديد:
- «أسألك بالله يا رجل... هل تعرف أي خبر عن زوجي؟... هل أصابه مكروه؟»
قال الرجل في استغراب:
-«زوجك!... وأين هو أبوكم؟... أليس هنا؟»
- «كلا يا جار... لقد سافر منذ فترة... رحل منذ عشرين يوماً... لطلب الرزق... قال إنه سيعود بعد عشرة أيام... لقد تأخر كل هذا التأخر... ولا ندري... هل عرض لك في الطريق... أو رأيته؟»
- «وما اسمه»
- «إنه أبو سلمان... صالح بن شيمان»
قال الرجل في عدم اكتراث:
- «أوه... أبو سلمان... لقد عرفته»
نظر إليها باهتمام مصطنع... ثم أردف وهو يطأطيء رأسه للأرض.
- «لقد دفناه منذ فترة... مات... مات من الجوع والعطش... أوه... حاله كحال الكثير من أمثاله... ماتوا تلك الليلة... أنا نفسي كدت أموت... رحمه الله... بعد أن دفناه... شع من قبره نور ساطع... رآه جميع الناس... إنه من أهل الجنة»
ثم أردف وهو يمضغ التمر بنهم... ويبدو غير مهتم بسرد القصة:
- «رأيته في المنام تلك الليلة... ووجهه منير وكأنه البدر»
ثم صمت ليكمل بلع طعامه.
جَمُدت أم سلمان مكانها... وذرفت عيناها بدموع غزيرة... أشبه بشلال صغير... وانتهى الرجل في أثناء ذلك من طعامه... وقام مستأذناً للرحيل.
بقيت الأم المسكينة... جامدة في مكانها... ولم تكلِّف نفسها مؤونة تشييع الرجل للخارج... ولم تكلف نفسها أيضاً سؤاله عن مكان موت زوجها... أو سبب موته... أو أحداث تلك الفاجعة... لقد بقيت مكانها.
مر الوقت قاتلا راكدا... يدحرج نفسه بثقل وكدر... ولم تكلِّف سعدة نفسها عمل أي شيء... حتى الذهاب إلى فراش النوم... لقد بقيت جامدة صلبة... تقاسي كل أنواع الوحشة والحزن... وبقيت تنظر في نقطة ثابتة... وساعات الليل تمر من أمامها بثقلها الثقيل... وتتلكأ في مضغ قلبها الجزع.
ويدنو منتصف الليل... وتغير أم سلمان جلستها... لتضع كفها على خدها... وتزفر زفرة طويلة.
يجب عليها الآن... أن تبدأ رحلة عناء جديدة... وتبدأ رحلة البحث عن الحقيقة... وأسبابها... غداً ستترك ابنها عند جارتها... وتذهب... لتضرب على وجهها في الأرض... للبحث والسؤال... أو لعلها ستصرخ في رجال القرية... ليهبوا للبحث عن حقيقة الخبر المفجع... أو ليبحثوا عن قبر زوجها... كي تبكي عليه... وتبلله بالدموع... أو ربما تغرقه بها... أو ستبقى في بيتها... تبكي وتبكي... حتى تموت.
الجزء2

10- بعد ثلاث ساعات
طَرْقٌ على الباب... بدأ خفيفا... ثم تزايدت قوته... أم سلمان جالسة مكانها... دموعها تنهمر... وأفكارها تروح وتجيء... لم يكن لذلك الطرق أي معنى عندها... لقد مات من تنتظره.
هذا الطارق... ربما كان عابراً آخر... أو ربما كان أحد سكان القرية... جاء حاملاً خبر الوفاة... الذي أصبح بالنسبة لها خبراً قديماً.
استمر الطرق على الباب... واستمرت هي في المعاندة... غير راغبة في القيام لفتح الباب... ولكنها في النهاية قررت أن تفتح الباب... خشية أن يُزعج الطرق ابنها المحموم النائم.
قامت متثاقلة... قررت أن تطلب من الطارق الانصراف... غير مأسوفٍ عليه.
وصلت للباب... أوشكت أن تقول:
- " إذهب... هذا ليس وقت زيارة... ولا وقت نقلٍ للأخبار السيئة"
ولكنها لم ترد أن تكلف نفسها مؤونة الكلام... لذا... مدت يدها... وفتحت الباب... نظرت دون مبالاة... لوجه الطارق... ولكنها تفاجأت بما رأت... تسمرت أمام الباب في دهشة... لقد أطل الباب... عن وجه من حسبته كان ميتا... عن وجه زوجها أبو سلمان.
إنه سليم معافى... كانت ابتسامته العريضة مرتسمة على جميع تقاطيع وجهه المكدود... وكانت عيناه تبرقان وداً وحناناً... وملامح وجهه تدل على شوقٍ جامح... ويحمل في يمينه كيساً متوسط الحجم... ويبدو لمدقق النظر... أن الكيس مليء بالهدايا والأمتعة... قال ومعالم النشوة تبدو عليه:
- «السلام عليكم... السلام عليكم»
لم تردَّ أم سلمان بكلمة... ولم تنبس ببنت شفة... صكت وجهها في ذعر... وبدت تنتحب في بكاء مدهش... ظن أبو سلمان أن دموعها دموع فرح... ولكن لأول مرة يدري أن للفرح بكاءً ولطماً للوجوه... بالطبع لم يكن ذاك بكاء فرح... وإنما هو شيء آخر... لا يعرف كنهه إلا المرأة التي عايشت تلك الحادثة المدهشة.
أمسك أبو سلمان كتفيها برفق بالغ... وقال وهو يسير بجوارها للداخل:
- «ماذا بك يا أم سلمان؟... خير إن شاء الله... هل حصل مكروه؟... هل أصيب سلمان بمكروه؟»
وقفت أم سلمان... أعادت النظر في وجهه... ثم قالت:
- «مكروه؟!...مكروه؟... هل لازلت حياً... هل أنت زوجي؟... هل أنا في حلم؟... هل هو حلم سرعان ما سينقضي؟»
ضمها إلى صدره بحنان... لقد أدرك شيئاً مما يجول في خاطرها... ثم قال:
- «لا عليك... يبدو أن غيابي طال عنكم... ولا بد أنكم قلقتم عليّ كثيرا»
سار أبو سلمان... زوجته مستندة على ذراعه... ودُوارُ السقوط يدور برأسها... وعندما جلسا على قطعة الفراش البالية... طبع على جبينها قبلة حانية... وقال في رفق:
- «أين سلمان؟... هل هو بخير؟»
- «إنه نائم... سيكون بأحسن حال»
- «ماذا بك إذن؟»
زفرت سعدة زفرات ارتياح عميقة... وقالت:
- «إني لا أكاد أصدق عيني... هل صحيح أنك الآن بجواري؟... آه يا زوجي... كم عانينا بعد فراقك... ولكن العناء الذي تلقته قلوبنا منذ ساعات ثلاث... لا يمكن لبشر أن يحتمله""
قال في قلق:
- «وأي عناء تقصدين»
- «عناء رهيب... أُغلقت أبواب الدنيا أمامنا... بسبب ترهات رجل معتوه... أو مريض" "
- " ماذا حدث؟... لم أفهم"
- " رجل جاءنا... منذ ساعات... لا أدري!... مالذي دفعه لقول ذلك... يبدو أنه مجنون... بل هو مجنون... لا محالة... أعوذ بالله... لقد زعم أنك مت... وزعم أيضاً أنه دفنك بيده»"
بدأ البكاء من جديد يهز أطراف سعده... قال لها أبو سلمان مشفقا:
- «لا عليك... الحمد لله... أنا كما ترين... بأتم صحة وعافية... بالفعل... ربما كان مجنونا... ولكن قولي لي... أين سلمان... أريد أن أراه.. أوه كم اشتقت لكما... الحياة بعيداً عنكما أشبه بكابوس مخيف... مخيف للغاية»
لم تشأ الأم أن تفصح عن مرض الطفل... أرادت تأجيل الخبر للغد... لا تريد أن تفجع زوجها بالخبر السيئ حال حضوره... تأثير الخبر قد يهوِّن كثيراً من وقع الفاجعة على قلب المسافر المكدود... لكن إصرار أبي سلمان على رؤية ولده لم يُمكِّن الأم من الوقوف في طريقه.
قام أبو سلمان في عزم وفرحة... واتجه لفراش طفله.
الفراش لا يعدو كونه جزءاً من الأرض الصلبة... غطيت بقطعة من الحصير البالي المتهالك... وعندما جلس أبو سلمان بجوار طفله... تصفح الملامح البريئة... تحت ضوء السراج اليتيم... ثم أودع جبينه قبلة عطشى.
طُبعت القبلة بردا وسلاما على جبين الطفل النائم... وما لبث أن استيقظ.
الأم جالسة في مكانها... الذعر يتداركها... خشية وقع خبر مرض سلمان على قلب أبيه السافر... تتوقع أن تسمع نحيبه في كل لحظة.
ولكنها لم تسمع شيئا من ذلك... سمعت سلمان يقول لوالده:
- «أبي هل أحضرت معك ثياباً جديدة»
- «نعم يا ولدي... ثياب جديدة... وكل شيء»
كانت الدهشة في أثناء ذلك تكاد تفرض سيطرتها على قلب الأم... أي صحة وعافية بدأت تدب في هذا الطفل الذي كادت تيأس من بقائه... نظرت سعدة للسماء نظرة امتنان... وقالت بإيمان صادق:
- «اللهم لك الحمد... يا من أنت على كل شيء قدير»
في أثناء ذلك... نهض الطفل من فراشه... وارتمى في حضن أبيه... وبعد عناق حار... أطلق الطفل سراح والده وهو ينظر إلى الجعبة هناك... من المحتمل أن يكون الوالد أحضر فيها أمتعة وهدايا.
تناول الوالد الجعبة... وأخرج منها قطعتين من القماش... ونظر إلى زوجته... وقال:
- «خذي يا أم سلمان... هذا القماش... خيطيه ثوباً لك... وهذا... خيطيه لسلمان... اللهم لك الحمد... سأراكم هذا العيد بملابس جديدة... لقد أعانني الله على تأدية بعض واجبي نحوكم»
نظرت أم سلمان للأعلى... ولازالت تخالط تقاسيم وجهها... دهشتُها لشفاء سلمان... وقالت في خشوع تام:
- " اللهم ربنا ولك الحمد ... يا من أنت على كل شيء قدير"
ثم أدارت وجهها تجاه زوجها وقالت :
- «ولكن... أنت... أين قماشك أنت يا أبا سلمان... قماشك الذي سأخيطه لك... كي تلبسه في العيد»
- «لا تشغلي بالك بي»
- «كيف!!»
- «المسألة بسيطة جداً... ستغسلين ثوبي القديم... وسألبسه... لاشك أنه سيعيش على ظهري فترة أطول»
ابتسمت أم سلمان... ولم تنبس ببنت شفة.
لحظات سريعة... وتقوم أم سلمان بسرعة خاطفة... وتُحضر شيئاً من التمر... وتضعه بين يدي أبي سلمان... وتقول:
- «هيا... هيا... سَمِّ الله... وكُل على بركة الله... لاشك أن التعب بلغ منك مبلغه»
- «بل أكل التَّعبُ مني وشرب... هـ... هـ... هـ...»
- «إذن تناول طعامك... وحدثنا عن قصتك»
بدأ أبو سلمان في الأكل والحديث:
- «لقد عملت ليل نهار... يا زوجتي... الحياة بين أحضان الغربة صعبة... صعبة جداًً... ويزيدها صعوبة... تلك المخاوف الجسام... التي يبث رعبها في القلوب... قُطَّاع الطرق... ذات يوم... نمت في مغارة... وذات يوم... نمت بين حشائش كثيفة... في الوادي... وذات يوم... نمت في بئر... صدقيني... في بئر... خوفاً على نفسي من اللصوص... أو السباع... أحسن الأيام حالاً... عندما قُدِّر لي أن أبيت في أحد المساجد... كانت بحق نومة هانئة... أحسست بعدها بعظم ديننا... الذي يجعل من بيت ربنا... مأوى لفقرا

هنا المدونة:
http://almarea.maktoobblog.com/ (http://almarea.maktoobblog.com/)