عاشق الخير
16-12-08, 03:06 pm
((وتنازلتُ.. عن دموع الرجال))
هذه المرة.. هي اعترافات شاب.. مهداة.. إلى الأبطال المظلومين.. طلبة قسم العلاج الطبيعي.. في كلية لا تحترم طلابها!!
وإلى عميد هذه الكلية مع التحية!!
قلبت الورقة.. أغمضت عيني.. ووضعت وجهي بين يدي.. وأطلقت زفرة حارة.. كنت بحاجة لأن.. أتنفس..
ذكرت الله في سري ومنحت نفسي بضعة دقائق.. قبل أن أرفع رأسي ببطء.. ولسوء الحظ.. كان وجهه أول (شيء) أقابله..
كان ينظر إلينا وهو يبتسم بمكر.. ابتسامة المنتصر.. سحبت عدة أنفاس.. ونظرت مرة أخرى للورقة.. حاولت أن أفك طلاسم الأسئلة.. أن أجد ولو خيطاً بسيطاً يربط بينها وبين المنهج.. فلم أجد!!
يا إلهي! بدأت ألوم نفسي.. هل قصرت في شيء؟ لقد درست كتاب المنهج جيداً.. واظبت على الحضور.. فكيف يحدث هذا؟
بدأت كلمته تترد في ذاكرتي.."يا وسخ".. "يا زبالة".. "يا جزمة".. "أنتم مخكم جزمة" هل أنا "جزمة" فعلاً كما يقول؟ هل عقلي وعقل كل الشباب في قسمي.. هو مجرد كومة من الأحذية؟!.. ربما.. قد.. يكون.. صادق..
صرخ صوت بداخلي بكل قوة.. لااااااا.. لا تضعف.. لا تجعل هذا الـ (..) ينتصر على آخر ما تبقى من كرامتك..
أشعر بالألم يعتصر قلبي.. الوقت يمر.. أحاول أن أكتب شيئاً.. دون جدوى.. استسلمت لمرارة الرسوب..
*************************
- هل هذا بحث طالب جامعي؟ أم تلميذ ابتدائي؟!
- ولكن.. يا دكتور.. أنت لم تقرأه بعد..
لم يمهلني لأكمل كلامي.. فمزق بحثي قطعاً صغيرة أمام المريض الذي كان ينظر بدهشة.. ورماه على الأرض..
شعرت بالإهانة.. وقفت في مكاني.. شددت قبضة يدي بكل قوة.. كانت النار تغلي في عروقي.. شعرت برغبة شديدة في أن أوجه له لكمة.. وأنا قادر على ذلك..
بقيت صامتاً أمامه للحظات.. أستجمع شتاتي.. لن أضيع تعبي.. سأصبر.. سأضغط على نفسي.. سأتجرع من قطرات الذل.. حتى أتخرج..
*************************
أسير أمام مكاتب الإدارة.. تفوح روائح مختلفة هنا.. بخور.. فطائر.. قهوة.. وشطة.. يا للأكاديمية!!
أنظر في الأبواب المفتوحة.. أتأمل الوجوه.. أبحث عن وجه أستطيع أن أشكو إليه.. فلا أجد..
أقترب من مكتب رئيس القسم.. أقف قليلاً.. أشعر أني أقدم على عمل جنوني.. متهور.. لكنني أتقدم..
- إهمال.. وتسيب.. وجايين تشتكون.. شوفوا معدلاتكم وأدائكم الهزيل بعدين تعالوا اشتكوا..!
- لكن يا دكتور..المسألة ميب مسألة معدلات ونسب بس.. المسألة مسألة كرامة.. إنسان يشتم فينا طول الوقت.. ما يسمينا إلا (الجزم والبهايم) وأنتم بكرامة.. وإلا هذا الشيء عادي عندكم؟!
نظر إلي بحدة وصرخ..
- تكلم بأدب! واحترم من تكلم..!
- آسف والله مب قصدي.. بس والله من حرقة قلبي يا دكتور.. خلاص ما عاد نقدر نصبر.. أنت رئيس القسم.. يعني لو ما شكينا لك من نشكي له؟
- الدكتور اللي تتكلمون عنه إنسان فاضل ومعروف بأخلاقه.. وحتى لو طلعت منه هالألفاظ أكيد إنكم أنتم استفزيتوه.. وبعدين أنا ما أقدر أصدق كلام طالب ومعدله بهالشكل "المزري"..
- يعني تنتظر من طالب معدله عالي يجي ويشتكي عليه علشان "ينخسف"! هه! والله اسمح لي يا دكتور هذا منطق معكوس.. أنت هنا عشان تقف مع المظلوم وإلا مع الظالم..؟
- أقول بلا تطاول! عندك كلام ثاني قوله لغيري.. تفضل.. عندي اجتماع الحين ومشغول..
سحبت قدماي.. وأنا أشعر بنار الظلم تحرق قلبي.. أثناء خروجي.. سمعته يقول بغضب للسكرتير..
- ناس متخلفة وكسلانة.. ما عندهم شغلة إلا يشكون في هالدكاترة..!
ابتلعت ألمي وما تبقى من كرامتي.. وابتعدت..
*************************
أجلس في القاعة بعيداً عن الصف الأول.. أشعر بشيء يخنقني في محاضرته.. أحاول أن أستنشق الهواء.. وأجبر نفسي على متابعة ما يقوله..
أنظر في الوجوه.. البعض من الواضح أنهم يشاركوني نفس الشعور المخنوق.. والبعض أصبح بلا إحساس في سبيل "تسول" رضاه.. فجأة يصرخ "البهايم اللي ورا!.." مططت شفتي.. الحمد الله لم أجلس في الخلف اليوم.. يكفيني ما تلقيته من إهانة من رئيس القسم..
تعود بي الذاكرة إلى سنوات مضت.. حين خرجت من الثانوية العامة بنسبة 98%.. كنت محط أنظار المدرسين.. كان الكل يتوقع لي مستقبلاً باهراً.. كانت لي أحلام كبيرة.. تهاوت واحداً بعد الآخر.. كنت أحلم بدخول كلية الطب.. لكن المقابلة.. لم تشفع لي بذلك.. فحملت ما بقي من أحلامي.. وقررت أن أدخل هذا القسم..
كنت أحلم بمساعدة المرضى..أعينهم على تجاوز محنهم.. أخطط لكيفية علاجهم وأتابع معهم..
بدأت بتفوق.. ثم شيئاً فشيباً.. بدأت الأحلام تتحطم على صخرة الواقع.. عرفت أن الكل يريدك هنا.. أن تحفظ فقط.. الكل يريدك فقط مجرد آلة صماء للحفظ ولنسخ نماذج الاختبارات مع حلولها.. من يفعل ذلك فقط.. هو الذي يتفوق.. (هه.. إن ساعده الحظ طبعاً)..
لا مجال للإبداع.. ولا للتفكير.. ولا للنقاش.. ولا البحث الميداني.. ولا حتى للتطبيق الواقعي..
أنت هنا مجرد آلة غبية للحفظ.. آلة لا تتكلم.. بل تنسخ وتكتب فقط.. ولو فكرت فقط أن تكون غير ذلك.. فستوصف بالجهل والإهمال والغباء والتخلف!!
فقط اصمت وافعل ما يريدون.. عرفت أن الأهم هو أن تسجل حضور (رأسك) في المحاضرة.. أما ما بداخل هذا الرأس.. فلا يهم!
عرفت أننا هنا.. قبل أن نرتدي المعطف الأبيض.. يجب.. أن نخلع ثوب كرامتنا.. ونتجرع قليلاً من ترياق الذل حتى نستطيع أن نقف على أقدامنا..
توقظني من أفكاري صرخته.. " فين الناس اللي فالحة بس في الشكاوي؟ هه؟" أبتلع غصة أخرى وأنا أراه ينظر بحقد دفين إلي.. حتى الطلاب التفتوا إلي.. شعروا بأنه يعنيني..
يا الله.. كيف عرف.. لم تمض ساعتان على دخولي مكتب رئيس القسم.. كيف؟!. كيف عرف؟ يا لي من أحمق.. كيف أثق في رئيس القسم؟!
كيف تخيلت أنه يمكن أن يساعدني؟!. أتجرع الغصة وأسكت..
*************************
النتائج معلقة.. الطلاب مزدحمون عندها.. والجوالات ترتفع.. رأيت أحمد هناك..
- أحمد.. بشِّر؟
- راسب..
قالها بمرارة..
- 17 من 30 كلهم راسبين..
- طيب شف رقمي الله يعافيك.. عاد أنا حامل المادة من قبل.. الله يستر..
نظر إلى الورقة ثم أعاد النظر عدة مرات.. مط شفته.. سكت قليلاً ثم قال بأسى..
- الظاهر إنك سويتها مرة ثانية..
- لااااااااا حول ولا قوة إلا بالله.. متأكد؟ الله يعافيك تأكد زين..
- تعال شف بنفسك..
شعرت بألم الظلم.. كيف يكون.. وقفت أمام الورقة.. أسندت ظهري للجدار.. ووقفت حائراً لا أعرف ماذا أفعل.. فهذه المادة متطلب لعدة مواد أخرى.. وهذه المرة الثانية التي أحملها.. يا رب.. يا رب.. إليك المشتكى..
*************************
كان علي أن أقوم بشيء.. شيء قوي.. لا يمكن أن نسكت هكذا.. وافقني الزملاء..
أحضرت آلة تسجيل.. وسجلت صوته أثناء المحاضرات وهو يصرخ ويشتم في طلاب أقل ما يقال عنهم أن الله كرمهم بأنهم بشر.. "يا زبالة.. يا جزم.. ال*****ات اللي هناك.."
شعرت بالانتصار.. هذا دليل لا يمكن رده.. لو رفعته للمسئولين سيتم فصل هذا الدكتور.. لن يستطيعوا أن يكذبونا مثل كل مرة.. قررت الدخول على عميد الكلية لأريه ما لدي..
ذهبت إلى هناك وانتظرت ساعات طويلة.. لا أعرف ما هي مهمة العمداء.. إن لم تكن متابعة أحوال الطلاب..
تذكرت قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع.. وكلكم مسئول عن رعيته".. أليسوا مسئولين عنا؟ من يقتص لنا من ظلم الأساتذة إن لم يكن هؤلاء؟! ألا يخشون دعوة مظلوم ليس بينها وبين الله حجاب؟
وصلت إليه بصعوبة.. كان على عجلة من أمره.. وينتظرني أن أنهي كلامي فلديه الكثير من المهام..
أريته ورقة وقع عليها أكثر من سبعين طالباً من دفعتنا بالإقرار على ما يقوله هذا الدكتور من شتائم بذيئة وسوقية.. ومن ظلم بالأسئلة التعجيزية.. ثم عرضت عليه التسجيل الذي سجلته أثناء محاضراته من شتم وصل لأبناء بلدي بأكمله.. أخذ اسمي ورقم جوالي.. ووعدني بالنظر في هذا الكلام.. ذكرته بأهمية السرية.. فتمتم على مضض..
*************************
طالت المدة.. ولم يقم العميد بأي خطوة.. ولم يتغير دكتورنا عن حاله.. الإهانة والذل هو شرابنا اليومي.. أصبحنا نفقد كرامتنا يوماً بعد آخر.. غرقنا في قاع الذل.. وبدأنا نفقد آخر معالم الإنسانية.. ولم نجد وسيلة لإنقاذنا من هذا المستنقع الآسن.. سوى. .أن نوصل صوتنا للصحافة.. نعم.. سنهز الدنيا.. سيغضب المسئولون.. سيعاقب الأستاذ.. سيفصل.. وربما سيحاكم على ما قاله من شتائم. .يا سلام.. أمر رائع!..
أرسلنا كل ما لدينا لأحد الكتاب الذين تفاعلوا معنا.. تسجيلات صوته.. توقيع الطلاب.. وبعد أيام ظهر مقال في الصحيفة عن دكتورنا.. طرنا من الفرح.. قمنا بتصويره وتوزيعه فيما بيننا.. شعرنا أننا انتصرنا لكرامتنا المهدورة.. وانتظرنا أن يحصل شيء كبير..
بعد يومين.. فوجئت باتصال من عميد الكلية.. يطلب حضوري.. سرت في نفسي قشعريرة.. لم أصدق.. أيعقل أنه تذكرني؟!
وصلت لمكتبه والفرحة لا تسعني.. وفي مخيلتي أشياء كثيرة.. لا بد أنه سيخبرني بما سيفعله مع الأستاذ.. سيعتذر لنا..سيفتح أوراق أسئلتنا التي
رسبنا بها..
لكن.. كل شيء تلاشى.. حين دخلت.. ورأيته.. يجلس واضعاً قدماً فوق أخرى.. أمام العميد.. وهو يبتسم لي بمنتهى الخبث..
شعرت بقلبي يكاد يقفز من مكانه.. دخلت وأنا غير مصدق.. لم أعرف ماذا أقول.. لكن العميد الغاضب لم يمهلني وبدأ بإخباري بأن الدكتور سيرفع علي قضية تشهير..لأني ذكرت هذا الكلام عنه.. وأرسلته للصحافة.. وأن التسجيلات تم التلاعب بها بصوته.. وأني سأتهم بالتزوير والتشهير والقذف..
لم تسعفني الكلمات لأقول شيئاً.. وقفت صامتاً.. تراءت لي أحلامي العريضة وهي تتلاشى..
شعرت بالظلم يصب على قلبي كسيل من حمم.. يكبل أطرافي ولساني كشجرة شيطانية.. شعرت بأني عاجز عن أن أصرخ أو أدافع أو أتكلم.. شعرت بالظلم يكبر ويعظم حتى يصبح عملاقاً عظيماً.. يطرحني.. يعفر وجهي بالتراب.. يطعنني..ويرقص ضاحكاً فوق جراحي..
فلم أملك سوى أن أتنازل له عن آخر ما تبقى لدي..
دموع الرجال..
منقول من مجلة حياة.. العدد (84)
مع تمنياتي لك بالتوفيق يا [you]
هذه المرة.. هي اعترافات شاب.. مهداة.. إلى الأبطال المظلومين.. طلبة قسم العلاج الطبيعي.. في كلية لا تحترم طلابها!!
وإلى عميد هذه الكلية مع التحية!!
قلبت الورقة.. أغمضت عيني.. ووضعت وجهي بين يدي.. وأطلقت زفرة حارة.. كنت بحاجة لأن.. أتنفس..
ذكرت الله في سري ومنحت نفسي بضعة دقائق.. قبل أن أرفع رأسي ببطء.. ولسوء الحظ.. كان وجهه أول (شيء) أقابله..
كان ينظر إلينا وهو يبتسم بمكر.. ابتسامة المنتصر.. سحبت عدة أنفاس.. ونظرت مرة أخرى للورقة.. حاولت أن أفك طلاسم الأسئلة.. أن أجد ولو خيطاً بسيطاً يربط بينها وبين المنهج.. فلم أجد!!
يا إلهي! بدأت ألوم نفسي.. هل قصرت في شيء؟ لقد درست كتاب المنهج جيداً.. واظبت على الحضور.. فكيف يحدث هذا؟
بدأت كلمته تترد في ذاكرتي.."يا وسخ".. "يا زبالة".. "يا جزمة".. "أنتم مخكم جزمة" هل أنا "جزمة" فعلاً كما يقول؟ هل عقلي وعقل كل الشباب في قسمي.. هو مجرد كومة من الأحذية؟!.. ربما.. قد.. يكون.. صادق..
صرخ صوت بداخلي بكل قوة.. لااااااا.. لا تضعف.. لا تجعل هذا الـ (..) ينتصر على آخر ما تبقى من كرامتك..
أشعر بالألم يعتصر قلبي.. الوقت يمر.. أحاول أن أكتب شيئاً.. دون جدوى.. استسلمت لمرارة الرسوب..
*************************
- هل هذا بحث طالب جامعي؟ أم تلميذ ابتدائي؟!
- ولكن.. يا دكتور.. أنت لم تقرأه بعد..
لم يمهلني لأكمل كلامي.. فمزق بحثي قطعاً صغيرة أمام المريض الذي كان ينظر بدهشة.. ورماه على الأرض..
شعرت بالإهانة.. وقفت في مكاني.. شددت قبضة يدي بكل قوة.. كانت النار تغلي في عروقي.. شعرت برغبة شديدة في أن أوجه له لكمة.. وأنا قادر على ذلك..
بقيت صامتاً أمامه للحظات.. أستجمع شتاتي.. لن أضيع تعبي.. سأصبر.. سأضغط على نفسي.. سأتجرع من قطرات الذل.. حتى أتخرج..
*************************
أسير أمام مكاتب الإدارة.. تفوح روائح مختلفة هنا.. بخور.. فطائر.. قهوة.. وشطة.. يا للأكاديمية!!
أنظر في الأبواب المفتوحة.. أتأمل الوجوه.. أبحث عن وجه أستطيع أن أشكو إليه.. فلا أجد..
أقترب من مكتب رئيس القسم.. أقف قليلاً.. أشعر أني أقدم على عمل جنوني.. متهور.. لكنني أتقدم..
- إهمال.. وتسيب.. وجايين تشتكون.. شوفوا معدلاتكم وأدائكم الهزيل بعدين تعالوا اشتكوا..!
- لكن يا دكتور..المسألة ميب مسألة معدلات ونسب بس.. المسألة مسألة كرامة.. إنسان يشتم فينا طول الوقت.. ما يسمينا إلا (الجزم والبهايم) وأنتم بكرامة.. وإلا هذا الشيء عادي عندكم؟!
نظر إلي بحدة وصرخ..
- تكلم بأدب! واحترم من تكلم..!
- آسف والله مب قصدي.. بس والله من حرقة قلبي يا دكتور.. خلاص ما عاد نقدر نصبر.. أنت رئيس القسم.. يعني لو ما شكينا لك من نشكي له؟
- الدكتور اللي تتكلمون عنه إنسان فاضل ومعروف بأخلاقه.. وحتى لو طلعت منه هالألفاظ أكيد إنكم أنتم استفزيتوه.. وبعدين أنا ما أقدر أصدق كلام طالب ومعدله بهالشكل "المزري"..
- يعني تنتظر من طالب معدله عالي يجي ويشتكي عليه علشان "ينخسف"! هه! والله اسمح لي يا دكتور هذا منطق معكوس.. أنت هنا عشان تقف مع المظلوم وإلا مع الظالم..؟
- أقول بلا تطاول! عندك كلام ثاني قوله لغيري.. تفضل.. عندي اجتماع الحين ومشغول..
سحبت قدماي.. وأنا أشعر بنار الظلم تحرق قلبي.. أثناء خروجي.. سمعته يقول بغضب للسكرتير..
- ناس متخلفة وكسلانة.. ما عندهم شغلة إلا يشكون في هالدكاترة..!
ابتلعت ألمي وما تبقى من كرامتي.. وابتعدت..
*************************
أجلس في القاعة بعيداً عن الصف الأول.. أشعر بشيء يخنقني في محاضرته.. أحاول أن أستنشق الهواء.. وأجبر نفسي على متابعة ما يقوله..
أنظر في الوجوه.. البعض من الواضح أنهم يشاركوني نفس الشعور المخنوق.. والبعض أصبح بلا إحساس في سبيل "تسول" رضاه.. فجأة يصرخ "البهايم اللي ورا!.." مططت شفتي.. الحمد الله لم أجلس في الخلف اليوم.. يكفيني ما تلقيته من إهانة من رئيس القسم..
تعود بي الذاكرة إلى سنوات مضت.. حين خرجت من الثانوية العامة بنسبة 98%.. كنت محط أنظار المدرسين.. كان الكل يتوقع لي مستقبلاً باهراً.. كانت لي أحلام كبيرة.. تهاوت واحداً بعد الآخر.. كنت أحلم بدخول كلية الطب.. لكن المقابلة.. لم تشفع لي بذلك.. فحملت ما بقي من أحلامي.. وقررت أن أدخل هذا القسم..
كنت أحلم بمساعدة المرضى..أعينهم على تجاوز محنهم.. أخطط لكيفية علاجهم وأتابع معهم..
بدأت بتفوق.. ثم شيئاً فشيباً.. بدأت الأحلام تتحطم على صخرة الواقع.. عرفت أن الكل يريدك هنا.. أن تحفظ فقط.. الكل يريدك فقط مجرد آلة صماء للحفظ ولنسخ نماذج الاختبارات مع حلولها.. من يفعل ذلك فقط.. هو الذي يتفوق.. (هه.. إن ساعده الحظ طبعاً)..
لا مجال للإبداع.. ولا للتفكير.. ولا للنقاش.. ولا البحث الميداني.. ولا حتى للتطبيق الواقعي..
أنت هنا مجرد آلة غبية للحفظ.. آلة لا تتكلم.. بل تنسخ وتكتب فقط.. ولو فكرت فقط أن تكون غير ذلك.. فستوصف بالجهل والإهمال والغباء والتخلف!!
فقط اصمت وافعل ما يريدون.. عرفت أن الأهم هو أن تسجل حضور (رأسك) في المحاضرة.. أما ما بداخل هذا الرأس.. فلا يهم!
عرفت أننا هنا.. قبل أن نرتدي المعطف الأبيض.. يجب.. أن نخلع ثوب كرامتنا.. ونتجرع قليلاً من ترياق الذل حتى نستطيع أن نقف على أقدامنا..
توقظني من أفكاري صرخته.. " فين الناس اللي فالحة بس في الشكاوي؟ هه؟" أبتلع غصة أخرى وأنا أراه ينظر بحقد دفين إلي.. حتى الطلاب التفتوا إلي.. شعروا بأنه يعنيني..
يا الله.. كيف عرف.. لم تمض ساعتان على دخولي مكتب رئيس القسم.. كيف؟!. كيف عرف؟ يا لي من أحمق.. كيف أثق في رئيس القسم؟!
كيف تخيلت أنه يمكن أن يساعدني؟!. أتجرع الغصة وأسكت..
*************************
النتائج معلقة.. الطلاب مزدحمون عندها.. والجوالات ترتفع.. رأيت أحمد هناك..
- أحمد.. بشِّر؟
- راسب..
قالها بمرارة..
- 17 من 30 كلهم راسبين..
- طيب شف رقمي الله يعافيك.. عاد أنا حامل المادة من قبل.. الله يستر..
نظر إلى الورقة ثم أعاد النظر عدة مرات.. مط شفته.. سكت قليلاً ثم قال بأسى..
- الظاهر إنك سويتها مرة ثانية..
- لااااااااا حول ولا قوة إلا بالله.. متأكد؟ الله يعافيك تأكد زين..
- تعال شف بنفسك..
شعرت بألم الظلم.. كيف يكون.. وقفت أمام الورقة.. أسندت ظهري للجدار.. ووقفت حائراً لا أعرف ماذا أفعل.. فهذه المادة متطلب لعدة مواد أخرى.. وهذه المرة الثانية التي أحملها.. يا رب.. يا رب.. إليك المشتكى..
*************************
كان علي أن أقوم بشيء.. شيء قوي.. لا يمكن أن نسكت هكذا.. وافقني الزملاء..
أحضرت آلة تسجيل.. وسجلت صوته أثناء المحاضرات وهو يصرخ ويشتم في طلاب أقل ما يقال عنهم أن الله كرمهم بأنهم بشر.. "يا زبالة.. يا جزم.. ال*****ات اللي هناك.."
شعرت بالانتصار.. هذا دليل لا يمكن رده.. لو رفعته للمسئولين سيتم فصل هذا الدكتور.. لن يستطيعوا أن يكذبونا مثل كل مرة.. قررت الدخول على عميد الكلية لأريه ما لدي..
ذهبت إلى هناك وانتظرت ساعات طويلة.. لا أعرف ما هي مهمة العمداء.. إن لم تكن متابعة أحوال الطلاب..
تذكرت قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع.. وكلكم مسئول عن رعيته".. أليسوا مسئولين عنا؟ من يقتص لنا من ظلم الأساتذة إن لم يكن هؤلاء؟! ألا يخشون دعوة مظلوم ليس بينها وبين الله حجاب؟
وصلت إليه بصعوبة.. كان على عجلة من أمره.. وينتظرني أن أنهي كلامي فلديه الكثير من المهام..
أريته ورقة وقع عليها أكثر من سبعين طالباً من دفعتنا بالإقرار على ما يقوله هذا الدكتور من شتائم بذيئة وسوقية.. ومن ظلم بالأسئلة التعجيزية.. ثم عرضت عليه التسجيل الذي سجلته أثناء محاضراته من شتم وصل لأبناء بلدي بأكمله.. أخذ اسمي ورقم جوالي.. ووعدني بالنظر في هذا الكلام.. ذكرته بأهمية السرية.. فتمتم على مضض..
*************************
طالت المدة.. ولم يقم العميد بأي خطوة.. ولم يتغير دكتورنا عن حاله.. الإهانة والذل هو شرابنا اليومي.. أصبحنا نفقد كرامتنا يوماً بعد آخر.. غرقنا في قاع الذل.. وبدأنا نفقد آخر معالم الإنسانية.. ولم نجد وسيلة لإنقاذنا من هذا المستنقع الآسن.. سوى. .أن نوصل صوتنا للصحافة.. نعم.. سنهز الدنيا.. سيغضب المسئولون.. سيعاقب الأستاذ.. سيفصل.. وربما سيحاكم على ما قاله من شتائم. .يا سلام.. أمر رائع!..
أرسلنا كل ما لدينا لأحد الكتاب الذين تفاعلوا معنا.. تسجيلات صوته.. توقيع الطلاب.. وبعد أيام ظهر مقال في الصحيفة عن دكتورنا.. طرنا من الفرح.. قمنا بتصويره وتوزيعه فيما بيننا.. شعرنا أننا انتصرنا لكرامتنا المهدورة.. وانتظرنا أن يحصل شيء كبير..
بعد يومين.. فوجئت باتصال من عميد الكلية.. يطلب حضوري.. سرت في نفسي قشعريرة.. لم أصدق.. أيعقل أنه تذكرني؟!
وصلت لمكتبه والفرحة لا تسعني.. وفي مخيلتي أشياء كثيرة.. لا بد أنه سيخبرني بما سيفعله مع الأستاذ.. سيعتذر لنا..سيفتح أوراق أسئلتنا التي
رسبنا بها..
لكن.. كل شيء تلاشى.. حين دخلت.. ورأيته.. يجلس واضعاً قدماً فوق أخرى.. أمام العميد.. وهو يبتسم لي بمنتهى الخبث..
شعرت بقلبي يكاد يقفز من مكانه.. دخلت وأنا غير مصدق.. لم أعرف ماذا أقول.. لكن العميد الغاضب لم يمهلني وبدأ بإخباري بأن الدكتور سيرفع علي قضية تشهير..لأني ذكرت هذا الكلام عنه.. وأرسلته للصحافة.. وأن التسجيلات تم التلاعب بها بصوته.. وأني سأتهم بالتزوير والتشهير والقذف..
لم تسعفني الكلمات لأقول شيئاً.. وقفت صامتاً.. تراءت لي أحلامي العريضة وهي تتلاشى..
شعرت بالظلم يصب على قلبي كسيل من حمم.. يكبل أطرافي ولساني كشجرة شيطانية.. شعرت بأني عاجز عن أن أصرخ أو أدافع أو أتكلم.. شعرت بالظلم يكبر ويعظم حتى يصبح عملاقاً عظيماً.. يطرحني.. يعفر وجهي بالتراب.. يطعنني..ويرقص ضاحكاً فوق جراحي..
فلم أملك سوى أن أتنازل له عن آخر ما تبقى لدي..
دموع الرجال..
منقول من مجلة حياة.. العدد (84)
مع تمنياتي لك بالتوفيق يا [you]