إبداعات
12-11-08, 01:24 pm
د. عبدالله مرعي بن محفوظ
في مقالي هذا لا مجال لمقارنة ما بين عدالة الكتب السماوية والدستور الأمريكي بصفة عامة أو خاصة، لأن الدستور الأمريكي نظام علماني يستمد مواده ومضمونه من نظريات الفلاسفة الإنجليزيين توماس هوبز وجون لوك ومن الفرنسي جان جاك روسو، وهو قائم على أساس الحق والمنطق، والحقوق المدنية للمجتمع تفرضها الواجبات تجاه الدولة والعدالة للمواطن حسب الدستور.
ومن جهة أخرى، من يقرأ التاريخ الأميركي يجد أنها دولة لا تحكم بقرارات فردية، لأنها دولة مؤسسات وحزبين متساويين في القوة، ولن يستطيع الرئيس الجديد اوباما العمل إلا من خلال مجلس الكونجرس والنواب وبأسس ثابتة لا تتغير حسب الدستور، وقرارات (التغيير) التي وضعها اوباما في مشروع الترشيح سوف تخضع للتمحيص والتدقيق من قبل أجهزة كثيرة في الدولة، وإن استطاع جورج بوش تغيير تلك القواعد وأدار أميركا لصالح اليهود ولحكم البروتستانت المتشددين، فقد كان السبب أحداث 11 سبتمبر الذي فتح له ثغرات كثيرة تغلغل من خلالها إلى أروقة المؤسسات المدنية والأمنية ليحقق ما يريد وهو دمار العالم الإسلامي، ولكن هذه الدولة لا تنفك أن تتغير لتعود إلى العدالة الإنسانية ودستورها الأساسي.
بالتأكيد نحترم هذا الدستور، الذي لم يغير آليات القانون واحترم تصويت 53% من الشعب الأمريكي وامتثل معها 47 في المائة من الشعب لهذا الحق، والدستور ساعد باراك حسين اوباما أن ينطلق من رحم المعاناة حيث لا تمايز ولا تفاضل إلا بالجهد والعمل الصادق ليصل إلى اعلى مراتب الدولة، والبداية الحقيقية كانت تضحيات لهذا الحدث، والحلم أطلقها «مارتن لوثر كنيج»، في يونيو 1957م أمام نصب «إبراهام لينكولن» حين هاجم الحزبين السياسيين الرئيسيين (الجمهوري والديمقراطي) مطالباً بالحقوق المغتصبة وردد صيحته الشهيرة «أعطونا حق الانتخاب» الذي دفع حياته ثمناً برصاص العنصرية البيضاء، ولكن الصيحة والحلم ظل يرنو في نفوس التواقين للعدالة والمساواة.
وقد تحقق الحلم لاحقاً من خلال الدستور الأمريكي الذي لم يطلب أن يكون حسين اوباما الأب في وطنه الأم من قبيلة كبيرة أو عائلة ثرية للدراسة فيها، ولم يطلب من والدته (انا دونهام) بأن تكون من عائلة برجوازية أو سياسية حتى تمنح ابنها الجنسية الأمريكية ، بل الدستور أعطى الإفريقي المسلم حسين اوباما حق (التعليم) وأعطاه منحة للدراسة في الولايات المتحدة التي مثلت له ولكثيرين من دول العالم الثالث الفرصة للنجاح في بلد الحرية عبر العمل الدؤوب والمثابرة، والدستور مكن التلميذ النجيب باراك والمتخرج من قسم القانون بجامعة هارفارد، بان يخرج امة كاملة من التهميش المطلق إلى حلم العدالة.
نعلم أن انتصار اوباما وان كان في ظاهره يترجم عدالة الدستور الأمريكي، ولكن يقبع خلفه حزب سياسي وكنيسة كاثوليكية ومؤسسات مدنية، إلا أن في عمق هذا الحدث، توجد تجليات (التغيير) الواجبة أن تصل إلى العالم اجمع، وهو انتصار الحقوق المدنية، أما بأي اثر سوف يكون ردود الفعل خارج الولايات المتحدة الأمريكية، فهو محكوم بقدرة دول العالم الثالث على تأمل الواقع الجديد، وأنا لستُ مندفعاً بان اختيار اوباما سوف يجعل أمريكا تطالب بتطبيق الديمقراطية في العالم الثالث، ولكن من الواجب أن نحلم بان هذا التغير في مجتمع الدم الأزرق، يجب أن ينعكس ايجابياً على دول العالم بحيث تستوعب أبناءها المنتمين إلى الأقليات في رحاب الأمة الواحدة، كما استوعبت أمريكا ابنهم الإفريقي ليكون الرئيس الرابع والأربعين لأكبر وأقوى دولة في العالم.
كما يجب أن ندرك الحقيقة الساطعة أن باراك اوباما سواء أكان مسيحيا أو مسلما، أبيض أو اسود، سوف يركز على التعليم والصحة والبطالة والاقتصاد الداخلي، ولن يعمل على تحرير الشعوب في العالم من جذورها بالقوة مثلما كان يريد أو كما كان يتقمص الرئيس بوش.
حقيقة موجعة لن تتحقق وان أحيا فوز باراك اوباما التفاؤل للعرب والمسلمين في أمريكا حين تكلم عن التفرقة العنصرية ضدهم في خطابه أمام المؤتمر الديمقراطي عام 2004، وكررها في الانتخابات حين قال سأستمر ضد هذا العنصرية عندما أصبح رئيساً للولايات المتحدة، والحقيقة الأخرى وان بعث في انتخابه الآمال للملايين في إفريقيا ولآلاف «السود» في الدول العربية والذين يطمحون بالحصول على حقوقهم السياسية والاجتماعية، ولكن تظل الإجابة الواقعية ما ذكره قدوري عبد الخالق من ذوي البشرة السوداء في العراق قائلاً «إن الكثير منا عبّر عن فرحته بهذا الفوز المهم، إلا أننا كعراقيين من أصول إفريقية لا ننتظر من رئيس أمريكي أن ينصف هذه الشريحة الكبيرة، فلكل شعب ظروفه، واوباما جاء لخدمة الشعب الأمريكي في المقام الأول والأمل في الدستور العراقي الجديد لأخذ حقوقنا».
ختاماً أقول للذين يؤمنون بدين الإسلام وبعدالة القرآن الكريم أن يتجاوزوا في إيمانهم بـ اوباما الكاثوليكي وبالرجل الثاني اليهودي «رام إسرائيل إيمانويل» الذي سيكون الرجل الأكثر أهمية داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس الأمريكي القادم، وعلينا الإيمان بقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)، والقرآن هو الدستور الإلهي الذي نأخذ منه العدالة القضائية والاجتماعية والاقتصادية، متى ما استطعنا كعرب ومسلمين تقنين دستورنا بالقرآن، نعم.. نستطيع بدون اوباما تقنين الأنظمة القضائية وتوحيد القواعد الاجتماعية وتحديد الأحكام الجزائية، لننعم بالتغيير الحقيقي في أوطاننا الإسلامية.
www.abm.com.sa
* نقلاً عن صحيفة "المدينة"، الأربعاء 12 نوفمبر 2008م.
للتعليق على المقال:
http://www.al-madina.com/node/71737
في مقالي هذا لا مجال لمقارنة ما بين عدالة الكتب السماوية والدستور الأمريكي بصفة عامة أو خاصة، لأن الدستور الأمريكي نظام علماني يستمد مواده ومضمونه من نظريات الفلاسفة الإنجليزيين توماس هوبز وجون لوك ومن الفرنسي جان جاك روسو، وهو قائم على أساس الحق والمنطق، والحقوق المدنية للمجتمع تفرضها الواجبات تجاه الدولة والعدالة للمواطن حسب الدستور.
ومن جهة أخرى، من يقرأ التاريخ الأميركي يجد أنها دولة لا تحكم بقرارات فردية، لأنها دولة مؤسسات وحزبين متساويين في القوة، ولن يستطيع الرئيس الجديد اوباما العمل إلا من خلال مجلس الكونجرس والنواب وبأسس ثابتة لا تتغير حسب الدستور، وقرارات (التغيير) التي وضعها اوباما في مشروع الترشيح سوف تخضع للتمحيص والتدقيق من قبل أجهزة كثيرة في الدولة، وإن استطاع جورج بوش تغيير تلك القواعد وأدار أميركا لصالح اليهود ولحكم البروتستانت المتشددين، فقد كان السبب أحداث 11 سبتمبر الذي فتح له ثغرات كثيرة تغلغل من خلالها إلى أروقة المؤسسات المدنية والأمنية ليحقق ما يريد وهو دمار العالم الإسلامي، ولكن هذه الدولة لا تنفك أن تتغير لتعود إلى العدالة الإنسانية ودستورها الأساسي.
بالتأكيد نحترم هذا الدستور، الذي لم يغير آليات القانون واحترم تصويت 53% من الشعب الأمريكي وامتثل معها 47 في المائة من الشعب لهذا الحق، والدستور ساعد باراك حسين اوباما أن ينطلق من رحم المعاناة حيث لا تمايز ولا تفاضل إلا بالجهد والعمل الصادق ليصل إلى اعلى مراتب الدولة، والبداية الحقيقية كانت تضحيات لهذا الحدث، والحلم أطلقها «مارتن لوثر كنيج»، في يونيو 1957م أمام نصب «إبراهام لينكولن» حين هاجم الحزبين السياسيين الرئيسيين (الجمهوري والديمقراطي) مطالباً بالحقوق المغتصبة وردد صيحته الشهيرة «أعطونا حق الانتخاب» الذي دفع حياته ثمناً برصاص العنصرية البيضاء، ولكن الصيحة والحلم ظل يرنو في نفوس التواقين للعدالة والمساواة.
وقد تحقق الحلم لاحقاً من خلال الدستور الأمريكي الذي لم يطلب أن يكون حسين اوباما الأب في وطنه الأم من قبيلة كبيرة أو عائلة ثرية للدراسة فيها، ولم يطلب من والدته (انا دونهام) بأن تكون من عائلة برجوازية أو سياسية حتى تمنح ابنها الجنسية الأمريكية ، بل الدستور أعطى الإفريقي المسلم حسين اوباما حق (التعليم) وأعطاه منحة للدراسة في الولايات المتحدة التي مثلت له ولكثيرين من دول العالم الثالث الفرصة للنجاح في بلد الحرية عبر العمل الدؤوب والمثابرة، والدستور مكن التلميذ النجيب باراك والمتخرج من قسم القانون بجامعة هارفارد، بان يخرج امة كاملة من التهميش المطلق إلى حلم العدالة.
نعلم أن انتصار اوباما وان كان في ظاهره يترجم عدالة الدستور الأمريكي، ولكن يقبع خلفه حزب سياسي وكنيسة كاثوليكية ومؤسسات مدنية، إلا أن في عمق هذا الحدث، توجد تجليات (التغيير) الواجبة أن تصل إلى العالم اجمع، وهو انتصار الحقوق المدنية، أما بأي اثر سوف يكون ردود الفعل خارج الولايات المتحدة الأمريكية، فهو محكوم بقدرة دول العالم الثالث على تأمل الواقع الجديد، وأنا لستُ مندفعاً بان اختيار اوباما سوف يجعل أمريكا تطالب بتطبيق الديمقراطية في العالم الثالث، ولكن من الواجب أن نحلم بان هذا التغير في مجتمع الدم الأزرق، يجب أن ينعكس ايجابياً على دول العالم بحيث تستوعب أبناءها المنتمين إلى الأقليات في رحاب الأمة الواحدة، كما استوعبت أمريكا ابنهم الإفريقي ليكون الرئيس الرابع والأربعين لأكبر وأقوى دولة في العالم.
كما يجب أن ندرك الحقيقة الساطعة أن باراك اوباما سواء أكان مسيحيا أو مسلما، أبيض أو اسود، سوف يركز على التعليم والصحة والبطالة والاقتصاد الداخلي، ولن يعمل على تحرير الشعوب في العالم من جذورها بالقوة مثلما كان يريد أو كما كان يتقمص الرئيس بوش.
حقيقة موجعة لن تتحقق وان أحيا فوز باراك اوباما التفاؤل للعرب والمسلمين في أمريكا حين تكلم عن التفرقة العنصرية ضدهم في خطابه أمام المؤتمر الديمقراطي عام 2004، وكررها في الانتخابات حين قال سأستمر ضد هذا العنصرية عندما أصبح رئيساً للولايات المتحدة، والحقيقة الأخرى وان بعث في انتخابه الآمال للملايين في إفريقيا ولآلاف «السود» في الدول العربية والذين يطمحون بالحصول على حقوقهم السياسية والاجتماعية، ولكن تظل الإجابة الواقعية ما ذكره قدوري عبد الخالق من ذوي البشرة السوداء في العراق قائلاً «إن الكثير منا عبّر عن فرحته بهذا الفوز المهم، إلا أننا كعراقيين من أصول إفريقية لا ننتظر من رئيس أمريكي أن ينصف هذه الشريحة الكبيرة، فلكل شعب ظروفه، واوباما جاء لخدمة الشعب الأمريكي في المقام الأول والأمل في الدستور العراقي الجديد لأخذ حقوقنا».
ختاماً أقول للذين يؤمنون بدين الإسلام وبعدالة القرآن الكريم أن يتجاوزوا في إيمانهم بـ اوباما الكاثوليكي وبالرجل الثاني اليهودي «رام إسرائيل إيمانويل» الذي سيكون الرجل الأكثر أهمية داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس الأمريكي القادم، وعلينا الإيمان بقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)، والقرآن هو الدستور الإلهي الذي نأخذ منه العدالة القضائية والاجتماعية والاقتصادية، متى ما استطعنا كعرب ومسلمين تقنين دستورنا بالقرآن، نعم.. نستطيع بدون اوباما تقنين الأنظمة القضائية وتوحيد القواعد الاجتماعية وتحديد الأحكام الجزائية، لننعم بالتغيير الحقيقي في أوطاننا الإسلامية.
www.abm.com.sa
* نقلاً عن صحيفة "المدينة"، الأربعاء 12 نوفمبر 2008م.
للتعليق على المقال:
http://www.al-madina.com/node/71737