ابوانس الحميدان
28-08-08, 01:21 pm
بسم الله رب العالمين
الحمد لله وحده
والصلاة والسلام على من لانبي بعده ثم أما بعد : فمنذ سنة ونيفا من الشهور كنت أبحث عن سير عقيل وقصصهم ووقائع رحلاتهم وتنقلاتهم ودروب قوافلهم إلى الشام ومصر , رجوعا إلى نجد , ذلك الجيل الذي ضرب أروع الأمثلة في التضحية والفداء في سبيل طلب الرزق وكسب المعيشة الحلال . ولا شك من أنهم قد مروا بمواقف عديدة عصيبة وأخرى سارة , ورغم مرور عشرات السنين عليها وتبدل العيش وتغير الحال إلا أنها لاتزال عالقة في أذهان من عايشوها وكأنهم للتو فارقوها , أسأل الله أن يمتعهم بالصحة والعافية على طاعته .
وكان الهدف من وراء جمع تلك السير الجميلة هو البداءة في كتابة حوار وسيناريو لفيلم درامي يحكي إحدى القصص من قصص عقيل , قصة ذلك الشاب الذي غادر بيت أبيه خلسة منتصف الليل ولحق بقافلة عقيل ...... فتجري عليه أحداث ووقائع ....كان لابد لي أن أوثقها وأن أسمعها سماعا ممن يسمون بعقيل ..... وإن لم أستطع فوسيلتي كانت أن أكتب ما أريد في ورقة ثم أعطيه من يستطيع إتياني بالخبر الصحيح من المصدر الصحيح , فكتبت أكثر من أربعين سؤالا تساءلت فيها عن كل ما من شأنه خدمة الحوار والسيناريو وخاصة : ..... اللألفاظ.....الملابس......الديكور الأثاث.....الآثار.....المزارع.......ملابس الأطفال .......حال الرعاة وأنواع الأنعام........كيفية الأكل والشرب وأنواعهما........العلاقات الإجتماعية ... وقد وجدت تعاونا كبيرا من قبل الأخوة الأفاضل .
وكانت محطة البداية المباركة مع العقيلي الشيخ سليمان بن عمير الحجيلان متعه الله بالصحة والعافية . وكان لأستاذنا ومربينا الفاضل يوسف بن عبدالله الحجيلان الفضل بعد الله في التعرف على الشيخ سليمان , ومنها تعرفت على حفيده صالح بن عبدالعزيز الذي كان له يدا طولا في إجابة العديد من الأسئلة التي كنت أبحث عنها .
المعلومات التي أخذتها من العقيلي الشيخ سليمان الحجيلان جعلتني أمضي قدما في مشروعي على صعوبته ووعورته , فبدأت أبحث عن مصادر أخرى كان لها حضورها مع العقيلات كحضور الشيخ سليمان الحجيلان , فدللت على رجل مسن مقعد مصاب بالسكري ويعاني عدة تقرحات جلدية وكان قليل التحدث وقد أخبرني أحد أولاده من أن لديه من الأخبار مايمكن أن تكتب عدة أفلام , فسلمت ابنه ورقة البحث المقصودة وعزمت على زيارته إلا أن منيته وافته فتوفي رحمه الله , ورغم حزني الشديد إلا أن ذلك لم يثنن عن هدفي فداومت أبحث فذكر لي رجل يعتبر مرجعا في مثل هذه الأمور , فهاتفت ابنه لألتقي به , وفعلا تم اللقاء فوجدت ضالتي فلقد وقعت على كنز . فخرجت منه على أن أعود إليه بعد أسبوع , وياسبحانك ربي : يصدم الأب بمرض عضال ألم بابنه الذي يستلزم سفره إلى الرياض .... وستـأخذ فترة العلاج وقتا الله أعلم بها , وأنا في وسط همومي محتار هل أكمل مشوار المشروع أم لا ؟؟ يأتيني إتصال من أحد الإخوة هو الأخ الغالي والأستاذ الفاضل راشد العدوان ليخبرني من أنه أطلع على وثيقة تأريخية في مذكرات شيخ الشيخ علي الطنطاوي الشيخ محمد كرد رحم الله الجميع .
يثني فيها الشيخ محمد كرد على رجال العقيلات لشدة إعجابه بأخلاقهم وحسن تعاملهم ولماوجد من الشيم العربية الأصيلة التي اتصفوا بها والتي يندر أن يتخلق بها إلا من هو على جانب كبير من التمسك بدينه وبعده عن سفاسف الأمور وحقائرها ,.... فاطلعت على الوثيقة وإذ بها الباب الأول من الجزء الأول من مذكرات شيخ الشيخ علي الطنطاوي الشيخ محمد كرد رحم الله الجميع .
الجميل في الوثيقة فضلا على كونها وثيقة يستشهد بها على كرم ونبل رجال العقيلات ومشائخهم فهي زادتني قصة ومحورا جديدا من الممكن أن يكون محورا آخر مخففا عن المحور الأساسي لقصة الفيلم خاصة وأن وقائعها وأحداثها صحيحة واقعية .
وأترككم مع الوثيقة كما كتبها الشيخ محمد كرد رحمه الله مع اختصار بعض الصفحات :
بسم الله الرحمن الرحيم
في الهزيمتين
من أجمل الذكريات ذكريات الصبا وما فيه من مغامرات ،وما يتخللها من توفيق وخيبة ، قد لا يصيب المرء مثلها ، ولا يجسر على اقتحام أخطارها إذا طعن في السن ، {والذكريات صدى السنين الحاكي} وهي مما يحرص على تدوينه لما تحمل من عبر وسلوى .
وهذا تفصيل ما وقع لي عند هزيمتي مرتين ، من وجه من أراد بي السوء من عمال العثمانيين قبل أكثر من ثلاثين سنة ، وهو تدوين لا يخلو فيما أرى من طرافة وتفكيه . ولكثرة ماانهزمت ، ووفقت في هزائمي كلها ، فأنبت عن مهارة في الهزيمة دعاني بعض الظرفاء {هزيمة} وأرادني أحد العلماء من المصريين {العلامة أحمد زكي باشا رحمه الله } أن اؤسس في القاهرة مدرسة أعلم فيها كيف ينهزم الخائف الذي يترقب ، كما يتعلم الطلبة علوم الدين في الجامع الأزهر وعلوم الدنيا في الجامعة المصرية .
أقيمت دعوى على جريدتي والمقصد إ قفال الجريدة وإغلاق المجلة والمطبعة .فجاءني بعد منتصف الليل شابان من محلة القيمرية كان لأحدهما اتصال بإدارة البرق ، عرفا بالأمر فطلبا إلي أن ألبس ثيابي وأسير معهما ، فإن الشرطة تأتي بعد حين إلى داري لتفتشها وتقبض علي ، وكان الأمر كما قدرا ، وسرت معهما وأنا لاأعرفهما وغاية ماعرف أخي أنهما مشتركان بالجريدة ومن أرباب المروءة من الشبان ، فبت ليلتي في دار أحدهما وهي دار الشيخ غزال ، وبعد أيام أكرم أهل الدار مثواي.. فيها انتقلت إلى حي السويقة ، وأويت إلى دار الشيخ عبد الرحيم البابلي يطربني بصوته الرخيم وإنشاده البديع ، ثم عدت إلى داري وأعددت معدات الرحيل ، وقلت : مادمت مضطرا إلى الاختفاء في البيوت ربما أنظر في أوروبا ، وكنت منذ سنين أريد الرحيل إليها للدرس والبحث فتعوق العوائق . وفي ليل الثلاثين من شهر رمضان سنة 1327ه ركبت من دمشق يرافقني صديقي السيد شريف تقي الدين ، وكان بطلا نزالا يعرف الطرق والمسالك . ومن قرية القابون سرنا قبيل الفجر ، ومنها إلى قرى برزه فدير مقرن فكفير الزيت قانون فكفر العواميد ، وفي هذه القرية بتنا ليلتنا الأولى . ومن الغد قصدنا إلى سوق وادى بردى فعيتا الفخار فكامد اللوز فجب جينين فبعلول وفيها بتنا ليلتنا الثانية . وفي اليوم الثالث قصدنا مشفرة بلد المدابغ ، وأنجدنا قاصدين جزين في جنوبي لبنان . وعاد صاحبي إلى البلد وسرت وحدي إلى تاتر فدير القمر وبت فيها ، ووصلت إلى الباروك . وبت ليلتين في الباروك ومنها سرت إلى عين زحلقتا فبت فيها ، ومنها إلى حمانا فقر ثم قصدت الفريكة بلد الأستاذ امين الريحاني اقضي معه بعض ساعات النهار ، ومن الشاوية نزلت إلى بيروت في دار صديقي السيد أحمد إياس ريثما تيسر لي بعد الغروب النزول إلى باخرة نمساوية قبيل إقلاعها بقليل . كان راني في فندق دير القمر السيد صادق الكسم من تجار دمشق فأنكر علي جرأتي فنصحني بأن أرحل إلى مصر برا . فقلت له هذا متعذر الآن فقال : إذا تأوي إلى القرى ، وتتخذ من بيوت العجائز مسكنا ، ولا تنزل في الفنادق ، ولا تجتمع إلى الرجال ، وعلى هذا أردت النزول في عين زحلتا فخرجت إلى أسفل القرية فنزلت في الفندق . وكنت صنعت اسما أردت أن اسمي به ذاك اليوم ، وهو اسم أحد أصحابي المسيحين بدمشق {خليل العبسي } فلما راني صاحب الفندق ، قال لي : أن خليل العبسي شريكي في هذا الفندق ، وكان عندي وسافر /، فحمدت الله على أني لم استمر اسمه ، وسألني عن اسمي فاخترت له اسما آخر من أسماء النصارى ، وأظنه أعفاني من السؤال عن مذهبي . : مذهبك وذهبك وذهابك ، كانت العرب تحرص على كتمانها . و لتدين اللبناني يحاول أن يعرفك بما تدين به , ليزيد انسه بك وتبسطه معك ، ، ويود أن يطلع على مقدار مقامك عنده ليكون على..بصيره من أمره . ولقد نزلت على من نزلت عليه ، وهو خوري الشاوية وعلى الخورية امراته ، واتفق أن ابتعت من الطريق عدة كتب من كتب البرتستانت ،فتمت الحيلة على الخوري والخورية عشرة أيام . وكان الخوري يراني اقرأ كتب البرتستانت وانا اقصد بالقراءة ألا اطيل الحديث معه ، وهو يسألني لماذا يقرأ البرتستانت كثيرا ، فأجيبه لأن رؤساءنا يوصوننا بذلك . واتماما لما تحليت له كنت أطلب من الخورية أن تأتيني بزجاجة عرق ، وليس من نيتي أن أشرب منها ، فإذا انصرفت عني أخذت القدحين وصببتها في الحديقة ، لأوهمهما أني تناولت من عرقها
سافرت إلى المدينة المنورة عن طريق الباخرة وقد استغرقت الرحلة ثلاثة وعشرين يوما , فلما رجعت وجدت أن هناك دعوى أخرى أطالب من أجلها . لكني مابرحت دمشق . وبهذا فقط أثبت أنه ناظر ضبطية قديم . لما فوجئت بهذه الدعوى الجديدة . وكان الغرض من وراء هذه الدعاوي الملفقة اشتغالي بنفسي ، والراحة من نقد صحيفتي ، ولو أياما قليلة ، . ولما فررت أشاع في جماعة الجند والدرك أن كل من يأتي بي إليه حيا أو ميتا يرقيه من جندي عادي إلى رتبة (يوزباشي) مباشرة , عدا ما يعطاه من مكافأة نقدية . كنت قادما بعد العصر إلى إدارة الجريدة ، فرأيت سرية من الجند..تحيط بها ، فغمزني أحد الشبان أن أرجع ، وكنت على بضع خطوات من الباب فرجعت وتبعني فقال لي : إن أخاك قبضوا عليه الساعة وهم في تفتيش الإدارة . ولما رجعت إلى داري وقع في قلبي . وكان الأمر كما حسبت ، فخرجت من داري سائرا وأنا أفكر كيف اقطع نهر يزيد الحائل بيني وبين الجبل ، وكان الوقت ربيعا ، والأنهار طافحة بالمياه ، فطلبت إلى فلاح هناك أن يجتاز بي النهر فمشى إلى مجاز يعرفه ، وما كان أكثر تعجبه أن رأى شجرة صفصاف كبيرة قلعت من جذعها وأسندت على شاطئي النهر ، كأنها جسر وضع لأعبر عليه ، وسرت قليلا حتى بلغت قبة السيار ، ومنها سقطت إلى دمر أقصد بيت صديقي الأمير عمر الحسني ،
قصدت دار الأمير عمر لأنه افر نسي التبعة ، ومن المتعذر تفتيش داره ، ومع هذا احتاط وخبأني ثلاثة أيام في دار بعيدة . وفي اليوم الرابع ركبنا مع الأمير طاهر ابن أخي الأمير عمر من وراء جبال دمر فبلغنا المزة . وفي تلك الليلة بحث عني في قرية المزة هذه ، وكبست في صالحية دمشق دار صديقي عبد القادر بك المؤيد , ولم نقف في المزة بل اجتزنا أرضها فقط ومنها سرنا إلى قرية بلاس وهي مزرعة الأمراء آل الأمير عبد القادر الكبير ، فقضيت عنده أياما على غاية من الهناء والطمأنينة ، حتى ابتاع لي الأمير طاهر ثيابا بعضها من سوق الخلق ..كالمعطف والعباءة ، وهذه أول مرة لبست فيها ثياب غيري ، ولا سيما مثل هذه الثياب الوسخة ، وقد تكون موبوءة ، وذلك لينطلي أمري على من يراني ، وقد شعث هندامي حتى أشبهت صورتي بعض سكان الحاضر في حماة ، وكان جاءني أحد أصدقائي عبد القادر آغا سكر من أعيان حي الميدان وأبطال الرجال يريد أن يصحبني إلى مصر فطننته هازلا فإذا هو يجد ، ورجع بعد أيام يركب حصانه ، وقد ابتعت حصانا يحملني ، وفي الساعة التي كانت النار تلتهم سوق الحميدية بدمشق ، والناس مشتغلون بأطفالها , سرنا عصر ذاك اليوم من بلاس حافظا لصديقي الأمير محمد أجمل ذكرى ، وقد كتم وجودي في بيته حتى عن أهله وأنسبائه , ومنهم من كان يكرهني ، وربما كان يتقرب من العثمانيين بدلالتهم على مخبئي.
سلكنا سبيلا معوجا في أول مرحلة رحلناها من حوش بلاس ، فاجتزنا أرض المزة وبلااس والأشرفية وصحنايا والدرخبية والطيبة وشقحب من قرى وادي العجم فدير العدس فالحارة من إقليم الجيدور حتى النقرة من إقليم الجولان ، وانتهينا عصر اليوم التالي إلى نهر الرقاد ، ولم نهوم في الطريق إلا دقائق قليلة ، لأن صاحبي كان يوجس خيفة من أن يعرف أصحاب العثمانيين بالأمر فيلحق بنا الجند ، وكنا رأينا في الليل ، والقمر ليلة البدر ، بضعة أنفار من الدرك فوقفنا عليهم وشربنا ماء وتعرف صاحبي عبد القادر آغا في الجولان إلى رجل نجدي اسمه عبد العزيز المحيسني يقود إلى مصر مع ستة من الرعاة سبعة وسبعين جملا هي ملك أحد أصدقائي الحاج ياسين دياب من تجار دمشق . فذكر عبد القادر آغا للمحيسني ماوقع لي ، وما يتوقع من شر يصيبني إذا سقطت في يد أحد رجال الوالي ، وانه رافقني حتى يبلغني مأمني ، فقال انه سمع بقصتي . ومما قال له صديقي : إنك إذا اخذته تحسن لأهل دمشق ، وهو يحمل دراهم يعطيك بقدر ماتحب . فأجابه : تقول لي أنك تحسن لأهل دمشق إذا نجا بروحه ، وتعرض علي إن اخذ من أجرة ، ومتى كان العربي يأخذ أجرا على المعروف . وعاد صاحبي عبد القادر آغا سكر وسرت على بركة الله مع جمال النجدين ، فقطعنا سهل الجولان وبتنا تلك الليلة دون عقبة فيق . واقترب مني ساعة نزولي فارس من خفراء شركة الدخان , يحادثني ويتحبب إلي ، فأزعجني بكلامه ، ولاحظ أني متعب كثيرا فقال لي : مالك وللجمال تتجر بها (يقول الشيخ محمد كرد : ورعاة الجمال يوهمون من نصادف أني أنا صاحبها ) لو فتحت لك دكانا في سوق باب البريد ببلدك لعشت في نعيم ؛ وخلصت من هذا الشقاء ، ومن قطع الصحاري والبراري فتثاءبت وتناومت . فقال لرفاقي (إنه تعبان المسكين ) وتركني وانصرف . ومن الغد هبطنا العقبة فأشرفنا على أراضي غور بيسان وبحيرة طبرية ونهر الأردن (الشريعة) فاجتزنا الجسر القديم المتداعي سباحة على الدواب ؛ ثم توقلنا الجبل إلى موقع الدلابكة ؛ وهو بين جبلين منفرجين متآزين ، وبتنا ليلتنا في سوق الخان بلد الصبيح على ساعتين من الناصرة . وفي اليوم الرابع دخلنا في غابة عضيمة من شجر البطم نحو ساعتين ,
فبلغنا قرية دبورية ؛ وفي منقطع أرض هذه الدسكرة يبتدئ مرج ابن عامر ( سهل بزرعيل ) فقطعناه عرضا في اربع ساعات حتى بلغنا قرية للجون ومنها إلأى وادي عارة ؛ وطوله ثلاث ساعات ؛ وهو ضيق متوازي الأضلاع . وبتنا ..الليلة الخامسة في عيون الأساور على ساعتين من قيسارية ؛ واجتزنا في اليوم السادس بقرى نابلس مثل قاقون وفلنسوة والطيرة ومسكة , فبلغنا نهر العوجاء على ساعة ونصف من يافا . وحدثني من أثق به بعد مدة ؛ أن جماعة من أعيان نابلس وشبانها المثقفين ، ومعظم شبانها مثقف ، استصرخوا أهل قرى نابلس التي يلاحظ أني اجتاز بها ، وأشاروا إليهم إذا رأوني أن يحملوني إلى مكان بعيد ، ويبعدوني ع أنظار كل من له علاقة بالحكومة ، فكان أهل القرية من القرى المستصرخة ينتدبون أناسا من شجعانهم وأصحاب المروءات منهم ، يقفون على الطرق في الليل والنهار ، لينقذوني من مخالب الظالمين وباتوا يترصدون المعابر والمسالك أياما وليالي حتى قرأوا في الصحف المصرية أني بلغت مصر . وهذه مروءة عربية استرق بها النابلسيون قلبي مادمت حيا . وفي اليوم السابع اجتزنا قرى الساحل مثل جبنة ، سدود ، مجدل بربرة ، بير هديد، غزة . ورأينا بعض المستعمرات اليهودية الزاهرة . وقضينا الليل في دير البلح ، وفي اليوم الثامن دخلنا في رمال على نحو ثلاث ساعات من غزة ، وبعد مسيرة ست ساعات بلغنا محطة رفح أول حدود مصر والشام . وفي اليوم التاسع دخلنا في رمال خمسة أيام حتى قالت الاسماعلية : ها أناذه . وكنا نسير في هذه الجفار على مقربة من البحر لانبعد عنه كثيرا ، والرمال لا يتبدل شكلها . ذكرت هذه المراحل لأني قطعتها على راحلتي وما كنت لأقطعها لو خيرت . وقد استفدت من هذه الرحلة فوائد جغرافية وطوبوغرافية . وما كان يومئذ خط حديدي يصل بين آسيا وافريقية أو بين دمشق والقاهرة ، ولا طرق معبدة تسلكها السيارات . وقصدت بتقييدي هذا تسجيل ظاهرة غريبة أو بدع قديم بطل ، وذكرى أيام قضيتها في عالم الأباعر فاستحيتها وهي مرة.. قلت في محاضرة ألقيتها في الأسبوع الذي بلغت فيه القاهرة ، في فندق ادن بالاس ، إجابة لمقترح جماعة السوريين ، بعد أن عددت ماوقع لي منذ خرجت من بلدي إلى أن دخلت الإسماعيلية ، وألمت بتاريخ ذاك الطريق الذي كان من أعمر الطرق منذ كان الإسلام : وكأن رحلتي في الشهر الماضي إلى الحجاز وجنوبي الشام ونزولي على أهل البادية من أهل المدر والوبر كانت مقدمة لما امتحنت به هذا الشهر من مؤاكلة الأعراب في صفحة واحدة ، وفقدان الملعقة والشوكة والسكين والفوطة والكأس ، والأكل من طعامهم ثمن العراق وجريش الحنطة والتمر الخبز المعمول بالملة أو على الساج يسجر ببعر الأباعر ، والرمال تسفو فتدخل كل مايعمل هناك من خبز وأدم ، وكل مطبوخ ومعجون . ولقد حملوا لي الماء في قربة فما هي إلا ساعات حتى تغير منه الطعم واللون والرائحة ،ى وبقيت خمسة أيام أسقى من هذا الماء وأعده نعمة بالقياس إلى مياه الجفار البشعة المهوعة ، وهي بعض ماء البحر روقتها الرمال قليلا . وأذكر أن {خويي} المحيسني ناداني مرة ، وجمالنا مسرعة في طريقها ، وحاديها يحدو لها بصوت بذكر بنجد وأهل نجد ، فالتحقت به مسرعا ، وما انحرفنا دقائق عن قارعة الطريق حتى كنا وسط فريق من العرب فاستسقى فأتوه بذكرة شرب منها وأعطاني فاذا بها لبن رائب ثم أرادني أن أشرب وأشرب . وكنت أتمنى شربة واحدة من هذا اللبن كل يوم وأدفع فيها جنيها وأنا غير مغبون . وكنت في الليلة التي نجتاز في صباحها برفح آخر الحدود العثمانية المصرية قلقا جدا وقضيت ليلي وأنا في هواجس أدبر وأقدر . وسرت قبيل الفجر أمام قطار الجمال وأنا أقول في نفسي : الآن فصل الخطاب فإما أن أنجو وأدخل أرض مصر ممتعا بالنعيم بعد هذا الشقاء ، أو أعود أدراجي وأنا في قبضة الترك إلى مطبق من مطابقهم ، ألقى ما ألقى من معاملتهم الجائرة . وبعد خمس ساعات سألت المحيسني متى نبلغ رفح فقال : قطعناها منذ كذا ساعة ودفعنا عنك للجندي ثمن علبة دخان لما اعترضنا قائلا إن إخراج الخيل من الأرض العثمانية ممنوع ، فأقنعناه بأن هذا حصان راعي الجمال الذي تراه فأخذ (البشلك) وهي تساوي قرشين ، ولم يمسسنا بسوء ولم يحقق من أمرنا غير ما رأى . وسعدت في هذه الرحلة أن رأيت بين الشام ومصر صورة مصغرة من عيش أهل جزيرة العرب ، وذلك بالاختلاط مع تجار الجمال ورعاتها ، وكلهم نجديون لا يعرفون الفضول ، وما رأيت أحدا سأل خويي عبد العزيز عني بالإشارة ولا بالعبارة ، وكانوا في كل مساء وصباح يختلفون إلينا ونختلف إليهم ونشرب القهوة معا ، وحديثهم في البعير وسوقه ورعيه وثمنه ورواجه وكساده . ولم اسمع في أربعة عشر يوما بليالها كلمة هجر وبذاء ، ولا تجديفا ولا لعنا ، ولا نميمة ولا غيبة ولا كذبا ولا منكرا ، وكان أولئك الأعراب مواظبين على صلواتهم ، يتيممون بالرمل إذا أعوزهم الماء ولا يسرفون فيه إذا وجد . وأنست بلهجتهم وفيها كثيرا من الفصح ولها رنة تطربك . :
دخلنا مصر فقصدت صديقا لي فيها وقلت له :
أنزل في الفندق ، فقال ما من فندق في القاهرة يقبلك وأنت على هذه الوساخة . ومن الغد خلعت حلتي ، وعدت إلى قيافتي . وعندها بدأ التعب يدب في جسمي ، ولم ترجع إلي قواي إلا بعد نحو أسبوعين ، حمدت الله على السلامة .
الأخلاق والصفات الحميدة التي تخلق بها رجال العقيلات على حسب وصف الوثيقة :
لا يعرفون الفضول ، وما رأيت أحدا سأل خويي عبد العزيز عني بالإشارة ولا بالعبارة ، وكانوا في كل مساء وصباح يختلفون إلينا ونختلف إليهم ونشرب القهوة معا ، وحديثهم في البعير وسوقه ورعيه وثمنه ورواجه وكساده . ولم اسمع في أربعة عشر يوما بليالها كلمة هجر وبذاء ، ولا تجديفا ولا لعنا ، ولا نميمة ولا غيبة ولا كذبا ولا منكرا ، وكان أولئك الأعراب مواظبين على صلواتهم ، يتيممون بالرمل إذا أعوزهم الماء ولا يسرفون فيه إذا وجد . وأنست
هكذا كان أجدادنا وهنيئا لنا و لعائلة المحيسني بهذه الوثيقة التأريخية المشرقة .
وياليت الشيخ محمد ذكر لنا أسماء الستة رجال الذين كانوا مع العقيلي عبدالعزيز المحيسني رحم الله الجميع . وبالمناسبة فلقد التقيت بأبناء الأخ الأكبرلعبدالعزيز المحيسني وأبدوا استعدادا كبيرا في التعاون في دعم مشروعي الفني ومنهم الأخ صالح المحيسني ,ابنه عبدالعزيز فلهم مني جزيل الشكر والعرفان .
الأخلاق التي يتصف بها رجال العقيلات من واقع مذكرات الشيخ محمد كرد رحمه الله :
أولا : المحافظة على الصلوات المكتوبة .
ثانيا : المحافظة على الماء وعدم الإسراف فيه .
ثالثا : حبهم للناس ومخالطتهم إياهم وإحسانهم إلى غيرهم .
رابعا : اشتغالهم بمايهم وتركهم مالا يعنيهمو مالا ليس لهم دخل فيه ولذلك سلمت أنفسهم وسلم الناس منهم .
خامسا : قوة تقواهم لله ويتجلى ذلك بحفظ ألسنتهم عن القيل والقال وكثرة السؤال والغيبة والنميمة والكذب والقول الفحش من اللعن وغيره . ولذلك استحقوا أن يكونوا سفراء للإسلام في كل بلد يحلون به .
سادسا : معرفتهم بأحكام و مسائل دينهم والتي تجهل البعض في هذا الزمن مثل أحكام التيمم .
فياليتنا نتشبه بهم إن لم نكن مثلهم .
أخوكم أبو أنس الحميدان .
الحمد لله وحده
والصلاة والسلام على من لانبي بعده ثم أما بعد : فمنذ سنة ونيفا من الشهور كنت أبحث عن سير عقيل وقصصهم ووقائع رحلاتهم وتنقلاتهم ودروب قوافلهم إلى الشام ومصر , رجوعا إلى نجد , ذلك الجيل الذي ضرب أروع الأمثلة في التضحية والفداء في سبيل طلب الرزق وكسب المعيشة الحلال . ولا شك من أنهم قد مروا بمواقف عديدة عصيبة وأخرى سارة , ورغم مرور عشرات السنين عليها وتبدل العيش وتغير الحال إلا أنها لاتزال عالقة في أذهان من عايشوها وكأنهم للتو فارقوها , أسأل الله أن يمتعهم بالصحة والعافية على طاعته .
وكان الهدف من وراء جمع تلك السير الجميلة هو البداءة في كتابة حوار وسيناريو لفيلم درامي يحكي إحدى القصص من قصص عقيل , قصة ذلك الشاب الذي غادر بيت أبيه خلسة منتصف الليل ولحق بقافلة عقيل ...... فتجري عليه أحداث ووقائع ....كان لابد لي أن أوثقها وأن أسمعها سماعا ممن يسمون بعقيل ..... وإن لم أستطع فوسيلتي كانت أن أكتب ما أريد في ورقة ثم أعطيه من يستطيع إتياني بالخبر الصحيح من المصدر الصحيح , فكتبت أكثر من أربعين سؤالا تساءلت فيها عن كل ما من شأنه خدمة الحوار والسيناريو وخاصة : ..... اللألفاظ.....الملابس......الديكور الأثاث.....الآثار.....المزارع.......ملابس الأطفال .......حال الرعاة وأنواع الأنعام........كيفية الأكل والشرب وأنواعهما........العلاقات الإجتماعية ... وقد وجدت تعاونا كبيرا من قبل الأخوة الأفاضل .
وكانت محطة البداية المباركة مع العقيلي الشيخ سليمان بن عمير الحجيلان متعه الله بالصحة والعافية . وكان لأستاذنا ومربينا الفاضل يوسف بن عبدالله الحجيلان الفضل بعد الله في التعرف على الشيخ سليمان , ومنها تعرفت على حفيده صالح بن عبدالعزيز الذي كان له يدا طولا في إجابة العديد من الأسئلة التي كنت أبحث عنها .
المعلومات التي أخذتها من العقيلي الشيخ سليمان الحجيلان جعلتني أمضي قدما في مشروعي على صعوبته ووعورته , فبدأت أبحث عن مصادر أخرى كان لها حضورها مع العقيلات كحضور الشيخ سليمان الحجيلان , فدللت على رجل مسن مقعد مصاب بالسكري ويعاني عدة تقرحات جلدية وكان قليل التحدث وقد أخبرني أحد أولاده من أن لديه من الأخبار مايمكن أن تكتب عدة أفلام , فسلمت ابنه ورقة البحث المقصودة وعزمت على زيارته إلا أن منيته وافته فتوفي رحمه الله , ورغم حزني الشديد إلا أن ذلك لم يثنن عن هدفي فداومت أبحث فذكر لي رجل يعتبر مرجعا في مثل هذه الأمور , فهاتفت ابنه لألتقي به , وفعلا تم اللقاء فوجدت ضالتي فلقد وقعت على كنز . فخرجت منه على أن أعود إليه بعد أسبوع , وياسبحانك ربي : يصدم الأب بمرض عضال ألم بابنه الذي يستلزم سفره إلى الرياض .... وستـأخذ فترة العلاج وقتا الله أعلم بها , وأنا في وسط همومي محتار هل أكمل مشوار المشروع أم لا ؟؟ يأتيني إتصال من أحد الإخوة هو الأخ الغالي والأستاذ الفاضل راشد العدوان ليخبرني من أنه أطلع على وثيقة تأريخية في مذكرات شيخ الشيخ علي الطنطاوي الشيخ محمد كرد رحم الله الجميع .
يثني فيها الشيخ محمد كرد على رجال العقيلات لشدة إعجابه بأخلاقهم وحسن تعاملهم ولماوجد من الشيم العربية الأصيلة التي اتصفوا بها والتي يندر أن يتخلق بها إلا من هو على جانب كبير من التمسك بدينه وبعده عن سفاسف الأمور وحقائرها ,.... فاطلعت على الوثيقة وإذ بها الباب الأول من الجزء الأول من مذكرات شيخ الشيخ علي الطنطاوي الشيخ محمد كرد رحم الله الجميع .
الجميل في الوثيقة فضلا على كونها وثيقة يستشهد بها على كرم ونبل رجال العقيلات ومشائخهم فهي زادتني قصة ومحورا جديدا من الممكن أن يكون محورا آخر مخففا عن المحور الأساسي لقصة الفيلم خاصة وأن وقائعها وأحداثها صحيحة واقعية .
وأترككم مع الوثيقة كما كتبها الشيخ محمد كرد رحمه الله مع اختصار بعض الصفحات :
بسم الله الرحمن الرحيم
في الهزيمتين
من أجمل الذكريات ذكريات الصبا وما فيه من مغامرات ،وما يتخللها من توفيق وخيبة ، قد لا يصيب المرء مثلها ، ولا يجسر على اقتحام أخطارها إذا طعن في السن ، {والذكريات صدى السنين الحاكي} وهي مما يحرص على تدوينه لما تحمل من عبر وسلوى .
وهذا تفصيل ما وقع لي عند هزيمتي مرتين ، من وجه من أراد بي السوء من عمال العثمانيين قبل أكثر من ثلاثين سنة ، وهو تدوين لا يخلو فيما أرى من طرافة وتفكيه . ولكثرة ماانهزمت ، ووفقت في هزائمي كلها ، فأنبت عن مهارة في الهزيمة دعاني بعض الظرفاء {هزيمة} وأرادني أحد العلماء من المصريين {العلامة أحمد زكي باشا رحمه الله } أن اؤسس في القاهرة مدرسة أعلم فيها كيف ينهزم الخائف الذي يترقب ، كما يتعلم الطلبة علوم الدين في الجامع الأزهر وعلوم الدنيا في الجامعة المصرية .
أقيمت دعوى على جريدتي والمقصد إ قفال الجريدة وإغلاق المجلة والمطبعة .فجاءني بعد منتصف الليل شابان من محلة القيمرية كان لأحدهما اتصال بإدارة البرق ، عرفا بالأمر فطلبا إلي أن ألبس ثيابي وأسير معهما ، فإن الشرطة تأتي بعد حين إلى داري لتفتشها وتقبض علي ، وكان الأمر كما قدرا ، وسرت معهما وأنا لاأعرفهما وغاية ماعرف أخي أنهما مشتركان بالجريدة ومن أرباب المروءة من الشبان ، فبت ليلتي في دار أحدهما وهي دار الشيخ غزال ، وبعد أيام أكرم أهل الدار مثواي.. فيها انتقلت إلى حي السويقة ، وأويت إلى دار الشيخ عبد الرحيم البابلي يطربني بصوته الرخيم وإنشاده البديع ، ثم عدت إلى داري وأعددت معدات الرحيل ، وقلت : مادمت مضطرا إلى الاختفاء في البيوت ربما أنظر في أوروبا ، وكنت منذ سنين أريد الرحيل إليها للدرس والبحث فتعوق العوائق . وفي ليل الثلاثين من شهر رمضان سنة 1327ه ركبت من دمشق يرافقني صديقي السيد شريف تقي الدين ، وكان بطلا نزالا يعرف الطرق والمسالك . ومن قرية القابون سرنا قبيل الفجر ، ومنها إلى قرى برزه فدير مقرن فكفير الزيت قانون فكفر العواميد ، وفي هذه القرية بتنا ليلتنا الأولى . ومن الغد قصدنا إلى سوق وادى بردى فعيتا الفخار فكامد اللوز فجب جينين فبعلول وفيها بتنا ليلتنا الثانية . وفي اليوم الثالث قصدنا مشفرة بلد المدابغ ، وأنجدنا قاصدين جزين في جنوبي لبنان . وعاد صاحبي إلى البلد وسرت وحدي إلى تاتر فدير القمر وبت فيها ، ووصلت إلى الباروك . وبت ليلتين في الباروك ومنها سرت إلى عين زحلقتا فبت فيها ، ومنها إلى حمانا فقر ثم قصدت الفريكة بلد الأستاذ امين الريحاني اقضي معه بعض ساعات النهار ، ومن الشاوية نزلت إلى بيروت في دار صديقي السيد أحمد إياس ريثما تيسر لي بعد الغروب النزول إلى باخرة نمساوية قبيل إقلاعها بقليل . كان راني في فندق دير القمر السيد صادق الكسم من تجار دمشق فأنكر علي جرأتي فنصحني بأن أرحل إلى مصر برا . فقلت له هذا متعذر الآن فقال : إذا تأوي إلى القرى ، وتتخذ من بيوت العجائز مسكنا ، ولا تنزل في الفنادق ، ولا تجتمع إلى الرجال ، وعلى هذا أردت النزول في عين زحلتا فخرجت إلى أسفل القرية فنزلت في الفندق . وكنت صنعت اسما أردت أن اسمي به ذاك اليوم ، وهو اسم أحد أصحابي المسيحين بدمشق {خليل العبسي } فلما راني صاحب الفندق ، قال لي : أن خليل العبسي شريكي في هذا الفندق ، وكان عندي وسافر /، فحمدت الله على أني لم استمر اسمه ، وسألني عن اسمي فاخترت له اسما آخر من أسماء النصارى ، وأظنه أعفاني من السؤال عن مذهبي . : مذهبك وذهبك وذهابك ، كانت العرب تحرص على كتمانها . و لتدين اللبناني يحاول أن يعرفك بما تدين به , ليزيد انسه بك وتبسطه معك ، ، ويود أن يطلع على مقدار مقامك عنده ليكون على..بصيره من أمره . ولقد نزلت على من نزلت عليه ، وهو خوري الشاوية وعلى الخورية امراته ، واتفق أن ابتعت من الطريق عدة كتب من كتب البرتستانت ،فتمت الحيلة على الخوري والخورية عشرة أيام . وكان الخوري يراني اقرأ كتب البرتستانت وانا اقصد بالقراءة ألا اطيل الحديث معه ، وهو يسألني لماذا يقرأ البرتستانت كثيرا ، فأجيبه لأن رؤساءنا يوصوننا بذلك . واتماما لما تحليت له كنت أطلب من الخورية أن تأتيني بزجاجة عرق ، وليس من نيتي أن أشرب منها ، فإذا انصرفت عني أخذت القدحين وصببتها في الحديقة ، لأوهمهما أني تناولت من عرقها
سافرت إلى المدينة المنورة عن طريق الباخرة وقد استغرقت الرحلة ثلاثة وعشرين يوما , فلما رجعت وجدت أن هناك دعوى أخرى أطالب من أجلها . لكني مابرحت دمشق . وبهذا فقط أثبت أنه ناظر ضبطية قديم . لما فوجئت بهذه الدعوى الجديدة . وكان الغرض من وراء هذه الدعاوي الملفقة اشتغالي بنفسي ، والراحة من نقد صحيفتي ، ولو أياما قليلة ، . ولما فررت أشاع في جماعة الجند والدرك أن كل من يأتي بي إليه حيا أو ميتا يرقيه من جندي عادي إلى رتبة (يوزباشي) مباشرة , عدا ما يعطاه من مكافأة نقدية . كنت قادما بعد العصر إلى إدارة الجريدة ، فرأيت سرية من الجند..تحيط بها ، فغمزني أحد الشبان أن أرجع ، وكنت على بضع خطوات من الباب فرجعت وتبعني فقال لي : إن أخاك قبضوا عليه الساعة وهم في تفتيش الإدارة . ولما رجعت إلى داري وقع في قلبي . وكان الأمر كما حسبت ، فخرجت من داري سائرا وأنا أفكر كيف اقطع نهر يزيد الحائل بيني وبين الجبل ، وكان الوقت ربيعا ، والأنهار طافحة بالمياه ، فطلبت إلى فلاح هناك أن يجتاز بي النهر فمشى إلى مجاز يعرفه ، وما كان أكثر تعجبه أن رأى شجرة صفصاف كبيرة قلعت من جذعها وأسندت على شاطئي النهر ، كأنها جسر وضع لأعبر عليه ، وسرت قليلا حتى بلغت قبة السيار ، ومنها سقطت إلى دمر أقصد بيت صديقي الأمير عمر الحسني ،
قصدت دار الأمير عمر لأنه افر نسي التبعة ، ومن المتعذر تفتيش داره ، ومع هذا احتاط وخبأني ثلاثة أيام في دار بعيدة . وفي اليوم الرابع ركبنا مع الأمير طاهر ابن أخي الأمير عمر من وراء جبال دمر فبلغنا المزة . وفي تلك الليلة بحث عني في قرية المزة هذه ، وكبست في صالحية دمشق دار صديقي عبد القادر بك المؤيد , ولم نقف في المزة بل اجتزنا أرضها فقط ومنها سرنا إلى قرية بلاس وهي مزرعة الأمراء آل الأمير عبد القادر الكبير ، فقضيت عنده أياما على غاية من الهناء والطمأنينة ، حتى ابتاع لي الأمير طاهر ثيابا بعضها من سوق الخلق ..كالمعطف والعباءة ، وهذه أول مرة لبست فيها ثياب غيري ، ولا سيما مثل هذه الثياب الوسخة ، وقد تكون موبوءة ، وذلك لينطلي أمري على من يراني ، وقد شعث هندامي حتى أشبهت صورتي بعض سكان الحاضر في حماة ، وكان جاءني أحد أصدقائي عبد القادر آغا سكر من أعيان حي الميدان وأبطال الرجال يريد أن يصحبني إلى مصر فطننته هازلا فإذا هو يجد ، ورجع بعد أيام يركب حصانه ، وقد ابتعت حصانا يحملني ، وفي الساعة التي كانت النار تلتهم سوق الحميدية بدمشق ، والناس مشتغلون بأطفالها , سرنا عصر ذاك اليوم من بلاس حافظا لصديقي الأمير محمد أجمل ذكرى ، وقد كتم وجودي في بيته حتى عن أهله وأنسبائه , ومنهم من كان يكرهني ، وربما كان يتقرب من العثمانيين بدلالتهم على مخبئي.
سلكنا سبيلا معوجا في أول مرحلة رحلناها من حوش بلاس ، فاجتزنا أرض المزة وبلااس والأشرفية وصحنايا والدرخبية والطيبة وشقحب من قرى وادي العجم فدير العدس فالحارة من إقليم الجيدور حتى النقرة من إقليم الجولان ، وانتهينا عصر اليوم التالي إلى نهر الرقاد ، ولم نهوم في الطريق إلا دقائق قليلة ، لأن صاحبي كان يوجس خيفة من أن يعرف أصحاب العثمانيين بالأمر فيلحق بنا الجند ، وكنا رأينا في الليل ، والقمر ليلة البدر ، بضعة أنفار من الدرك فوقفنا عليهم وشربنا ماء وتعرف صاحبي عبد القادر آغا في الجولان إلى رجل نجدي اسمه عبد العزيز المحيسني يقود إلى مصر مع ستة من الرعاة سبعة وسبعين جملا هي ملك أحد أصدقائي الحاج ياسين دياب من تجار دمشق . فذكر عبد القادر آغا للمحيسني ماوقع لي ، وما يتوقع من شر يصيبني إذا سقطت في يد أحد رجال الوالي ، وانه رافقني حتى يبلغني مأمني ، فقال انه سمع بقصتي . ومما قال له صديقي : إنك إذا اخذته تحسن لأهل دمشق ، وهو يحمل دراهم يعطيك بقدر ماتحب . فأجابه : تقول لي أنك تحسن لأهل دمشق إذا نجا بروحه ، وتعرض علي إن اخذ من أجرة ، ومتى كان العربي يأخذ أجرا على المعروف . وعاد صاحبي عبد القادر آغا سكر وسرت على بركة الله مع جمال النجدين ، فقطعنا سهل الجولان وبتنا تلك الليلة دون عقبة فيق . واقترب مني ساعة نزولي فارس من خفراء شركة الدخان , يحادثني ويتحبب إلي ، فأزعجني بكلامه ، ولاحظ أني متعب كثيرا فقال لي : مالك وللجمال تتجر بها (يقول الشيخ محمد كرد : ورعاة الجمال يوهمون من نصادف أني أنا صاحبها ) لو فتحت لك دكانا في سوق باب البريد ببلدك لعشت في نعيم ؛ وخلصت من هذا الشقاء ، ومن قطع الصحاري والبراري فتثاءبت وتناومت . فقال لرفاقي (إنه تعبان المسكين ) وتركني وانصرف . ومن الغد هبطنا العقبة فأشرفنا على أراضي غور بيسان وبحيرة طبرية ونهر الأردن (الشريعة) فاجتزنا الجسر القديم المتداعي سباحة على الدواب ؛ ثم توقلنا الجبل إلى موقع الدلابكة ؛ وهو بين جبلين منفرجين متآزين ، وبتنا ليلتنا في سوق الخان بلد الصبيح على ساعتين من الناصرة . وفي اليوم الرابع دخلنا في غابة عضيمة من شجر البطم نحو ساعتين ,
فبلغنا قرية دبورية ؛ وفي منقطع أرض هذه الدسكرة يبتدئ مرج ابن عامر ( سهل بزرعيل ) فقطعناه عرضا في اربع ساعات حتى بلغنا قرية للجون ومنها إلأى وادي عارة ؛ وطوله ثلاث ساعات ؛ وهو ضيق متوازي الأضلاع . وبتنا ..الليلة الخامسة في عيون الأساور على ساعتين من قيسارية ؛ واجتزنا في اليوم السادس بقرى نابلس مثل قاقون وفلنسوة والطيرة ومسكة , فبلغنا نهر العوجاء على ساعة ونصف من يافا . وحدثني من أثق به بعد مدة ؛ أن جماعة من أعيان نابلس وشبانها المثقفين ، ومعظم شبانها مثقف ، استصرخوا أهل قرى نابلس التي يلاحظ أني اجتاز بها ، وأشاروا إليهم إذا رأوني أن يحملوني إلى مكان بعيد ، ويبعدوني ع أنظار كل من له علاقة بالحكومة ، فكان أهل القرية من القرى المستصرخة ينتدبون أناسا من شجعانهم وأصحاب المروءات منهم ، يقفون على الطرق في الليل والنهار ، لينقذوني من مخالب الظالمين وباتوا يترصدون المعابر والمسالك أياما وليالي حتى قرأوا في الصحف المصرية أني بلغت مصر . وهذه مروءة عربية استرق بها النابلسيون قلبي مادمت حيا . وفي اليوم السابع اجتزنا قرى الساحل مثل جبنة ، سدود ، مجدل بربرة ، بير هديد، غزة . ورأينا بعض المستعمرات اليهودية الزاهرة . وقضينا الليل في دير البلح ، وفي اليوم الثامن دخلنا في رمال على نحو ثلاث ساعات من غزة ، وبعد مسيرة ست ساعات بلغنا محطة رفح أول حدود مصر والشام . وفي اليوم التاسع دخلنا في رمال خمسة أيام حتى قالت الاسماعلية : ها أناذه . وكنا نسير في هذه الجفار على مقربة من البحر لانبعد عنه كثيرا ، والرمال لا يتبدل شكلها . ذكرت هذه المراحل لأني قطعتها على راحلتي وما كنت لأقطعها لو خيرت . وقد استفدت من هذه الرحلة فوائد جغرافية وطوبوغرافية . وما كان يومئذ خط حديدي يصل بين آسيا وافريقية أو بين دمشق والقاهرة ، ولا طرق معبدة تسلكها السيارات . وقصدت بتقييدي هذا تسجيل ظاهرة غريبة أو بدع قديم بطل ، وذكرى أيام قضيتها في عالم الأباعر فاستحيتها وهي مرة.. قلت في محاضرة ألقيتها في الأسبوع الذي بلغت فيه القاهرة ، في فندق ادن بالاس ، إجابة لمقترح جماعة السوريين ، بعد أن عددت ماوقع لي منذ خرجت من بلدي إلى أن دخلت الإسماعيلية ، وألمت بتاريخ ذاك الطريق الذي كان من أعمر الطرق منذ كان الإسلام : وكأن رحلتي في الشهر الماضي إلى الحجاز وجنوبي الشام ونزولي على أهل البادية من أهل المدر والوبر كانت مقدمة لما امتحنت به هذا الشهر من مؤاكلة الأعراب في صفحة واحدة ، وفقدان الملعقة والشوكة والسكين والفوطة والكأس ، والأكل من طعامهم ثمن العراق وجريش الحنطة والتمر الخبز المعمول بالملة أو على الساج يسجر ببعر الأباعر ، والرمال تسفو فتدخل كل مايعمل هناك من خبز وأدم ، وكل مطبوخ ومعجون . ولقد حملوا لي الماء في قربة فما هي إلا ساعات حتى تغير منه الطعم واللون والرائحة ،ى وبقيت خمسة أيام أسقى من هذا الماء وأعده نعمة بالقياس إلى مياه الجفار البشعة المهوعة ، وهي بعض ماء البحر روقتها الرمال قليلا . وأذكر أن {خويي} المحيسني ناداني مرة ، وجمالنا مسرعة في طريقها ، وحاديها يحدو لها بصوت بذكر بنجد وأهل نجد ، فالتحقت به مسرعا ، وما انحرفنا دقائق عن قارعة الطريق حتى كنا وسط فريق من العرب فاستسقى فأتوه بذكرة شرب منها وأعطاني فاذا بها لبن رائب ثم أرادني أن أشرب وأشرب . وكنت أتمنى شربة واحدة من هذا اللبن كل يوم وأدفع فيها جنيها وأنا غير مغبون . وكنت في الليلة التي نجتاز في صباحها برفح آخر الحدود العثمانية المصرية قلقا جدا وقضيت ليلي وأنا في هواجس أدبر وأقدر . وسرت قبيل الفجر أمام قطار الجمال وأنا أقول في نفسي : الآن فصل الخطاب فإما أن أنجو وأدخل أرض مصر ممتعا بالنعيم بعد هذا الشقاء ، أو أعود أدراجي وأنا في قبضة الترك إلى مطبق من مطابقهم ، ألقى ما ألقى من معاملتهم الجائرة . وبعد خمس ساعات سألت المحيسني متى نبلغ رفح فقال : قطعناها منذ كذا ساعة ودفعنا عنك للجندي ثمن علبة دخان لما اعترضنا قائلا إن إخراج الخيل من الأرض العثمانية ممنوع ، فأقنعناه بأن هذا حصان راعي الجمال الذي تراه فأخذ (البشلك) وهي تساوي قرشين ، ولم يمسسنا بسوء ولم يحقق من أمرنا غير ما رأى . وسعدت في هذه الرحلة أن رأيت بين الشام ومصر صورة مصغرة من عيش أهل جزيرة العرب ، وذلك بالاختلاط مع تجار الجمال ورعاتها ، وكلهم نجديون لا يعرفون الفضول ، وما رأيت أحدا سأل خويي عبد العزيز عني بالإشارة ولا بالعبارة ، وكانوا في كل مساء وصباح يختلفون إلينا ونختلف إليهم ونشرب القهوة معا ، وحديثهم في البعير وسوقه ورعيه وثمنه ورواجه وكساده . ولم اسمع في أربعة عشر يوما بليالها كلمة هجر وبذاء ، ولا تجديفا ولا لعنا ، ولا نميمة ولا غيبة ولا كذبا ولا منكرا ، وكان أولئك الأعراب مواظبين على صلواتهم ، يتيممون بالرمل إذا أعوزهم الماء ولا يسرفون فيه إذا وجد . وأنست بلهجتهم وفيها كثيرا من الفصح ولها رنة تطربك . :
دخلنا مصر فقصدت صديقا لي فيها وقلت له :
أنزل في الفندق ، فقال ما من فندق في القاهرة يقبلك وأنت على هذه الوساخة . ومن الغد خلعت حلتي ، وعدت إلى قيافتي . وعندها بدأ التعب يدب في جسمي ، ولم ترجع إلي قواي إلا بعد نحو أسبوعين ، حمدت الله على السلامة .
الأخلاق والصفات الحميدة التي تخلق بها رجال العقيلات على حسب وصف الوثيقة :
لا يعرفون الفضول ، وما رأيت أحدا سأل خويي عبد العزيز عني بالإشارة ولا بالعبارة ، وكانوا في كل مساء وصباح يختلفون إلينا ونختلف إليهم ونشرب القهوة معا ، وحديثهم في البعير وسوقه ورعيه وثمنه ورواجه وكساده . ولم اسمع في أربعة عشر يوما بليالها كلمة هجر وبذاء ، ولا تجديفا ولا لعنا ، ولا نميمة ولا غيبة ولا كذبا ولا منكرا ، وكان أولئك الأعراب مواظبين على صلواتهم ، يتيممون بالرمل إذا أعوزهم الماء ولا يسرفون فيه إذا وجد . وأنست
هكذا كان أجدادنا وهنيئا لنا و لعائلة المحيسني بهذه الوثيقة التأريخية المشرقة .
وياليت الشيخ محمد ذكر لنا أسماء الستة رجال الذين كانوا مع العقيلي عبدالعزيز المحيسني رحم الله الجميع . وبالمناسبة فلقد التقيت بأبناء الأخ الأكبرلعبدالعزيز المحيسني وأبدوا استعدادا كبيرا في التعاون في دعم مشروعي الفني ومنهم الأخ صالح المحيسني ,ابنه عبدالعزيز فلهم مني جزيل الشكر والعرفان .
الأخلاق التي يتصف بها رجال العقيلات من واقع مذكرات الشيخ محمد كرد رحمه الله :
أولا : المحافظة على الصلوات المكتوبة .
ثانيا : المحافظة على الماء وعدم الإسراف فيه .
ثالثا : حبهم للناس ومخالطتهم إياهم وإحسانهم إلى غيرهم .
رابعا : اشتغالهم بمايهم وتركهم مالا يعنيهمو مالا ليس لهم دخل فيه ولذلك سلمت أنفسهم وسلم الناس منهم .
خامسا : قوة تقواهم لله ويتجلى ذلك بحفظ ألسنتهم عن القيل والقال وكثرة السؤال والغيبة والنميمة والكذب والقول الفحش من اللعن وغيره . ولذلك استحقوا أن يكونوا سفراء للإسلام في كل بلد يحلون به .
سادسا : معرفتهم بأحكام و مسائل دينهم والتي تجهل البعض في هذا الزمن مثل أحكام التيمم .
فياليتنا نتشبه بهم إن لم نكن مثلهم .
أخوكم أبو أنس الحميدان .