المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معولمون ولا يعلمون


أباالخــــــيل
25-06-02, 08:07 pm
لا بد أن يصيبك الذهول حين تعلم أن ثمة، بين أبناء جلدتك، من لا يفرق بين «العولمة» و«العلمنة» ويعتبرهما لفظتين مترادفتين لعينتين تستحقان «لا» مدوية وقاطعة لا نقاش فيها. وشبيه بهؤلاء من يرون في العولمة محض «استعمار» و«هيمنة» و«هجمة» موجهة ضد العرب ليكملوا بها خيوط المؤامرة، المحببة إلى قلوبنا، والتي تتيح لنا، بترعرعها اللذيذ في أذهاننا، أن نستمر في لعب دور الضحايا المضطهدين على مذابح المجرمين. ومن العسير أن تقنع هؤلاء الواثقين المتحمسين، المرتجفين رعباً، بأنهم يخلطون بين العولمة باعتبارها حالة، لا رجعة عنها، بلغها البشر بفضل التطور التقني والصناعي حتى باتت الخليقة تتواصل بسرعة البرق (وهذا بديع) والطريقة الاستغلالية التي يدار بها هذا التطور من قبل حفنة من المتسلطين الذين لم يوفروا شرقاً ولا غرباً (وهذا مريع)، إذ أن كل محاولة منك لتفكيك المعاني أو إيضاح ما التبس، في هذا الموضوع الحساس، قد يحولك إما إلى خائن دساس أو كائن مغرر به.

ورغم أن الكلام على العولمة ملأ الصحف وغزا الشاشات إلا أن التبسيط والاختزال يسيطران على الذهنية العربية التي تكتفي بأن تلخص الكونية في العلاقة العدوانية بين «الأشرار» (الأميركيين) و«الأخيار» (العرب)، وهو مستوى من التسطيح لم يبلغه جورج بوش الابن على غرامه بالتسطيح.

والأنكى من ذلك، اننا نشتم ونلعن العولمة من جانب ونستدعيها لنحتضنها ونهدهدها من الجانب الآخر. وليس بين الشعوب، على ما نعتقد، من هم أكثر طواعية وفتنة وانجرافاً أمام إغراءات العولمة من الشعوب العربية. والذي لا يزال يعلن، مكابراً، عن رفضه لها، متجاهلاً أنها باتت فيه ومنه ومعه كيفما حلّ وارتحل، ليس له سوى أن ينظر إلى نفسه في المرآة، ويكشف على محتويات بيته، ثم يخرج في نزهة بسيارته إلى شوارعه المفضلة وأماكنه الأثيرة ليعرف أنه لم يبق له من جده، رحمه الله سوى الاسم وبعض الملامح الحياتية الضئيلة التي لا تكفي لترد عنه تهمة العولمة والأوربة ومعهما الأمركة أيضاً.

وبإمكان المنددين بالعولمة (والتنديد شغف عربي يحتاج إلى مقال منفرد) رغم أنهم يركبون قاطراتها، في غفلة منهم، أن يحذفوا من اعتبارهم سؤالهم المفضل الذي تجاوزه الزمن وهو: «هل أنت مع العولمة أم ضدها»؟ وليستبدلوه بأسئلة أخرى أكثر فاعلية من نوع: «ما بإمكانك أن تفعل بعد أن أدمنت الحياة في الرياض والكويت وبيروت والقاهرة بأدوات ومقاييس نيويورك واستوكهولم ولندن وباريس، علماً بأنك لم تسهم، ولو رمزياً، في صياغة هذه المقاييس؟ وماذا ستكون عليه حالك، وأنت ملزم بتسديد فاتورة معدات العولمة الباهظة الثمن، التي تعودتها، بعد أن أهدرت ما في جيبك واستدنت من جيوب أحفادك الذين لم يولدوا بعد؟ فها أنت معولم ومفلس وتحت الوصاية، وتصرخ وتستغيث ولا تستثير شفقة أحد، لأنك محض مستفيد سلبي من جهد شعوب كدّت وتعبت وهي تخترع وتجرّب وتفبرك وتنظّر وتخطط. وكل هذا لا يمكن أن يمنح بالمجان، إلا إذا كنت تفترض في الآخر البلاهة، وتعتقد في كسلك شطارة، وقررت أن تنضم إلى أنصار ذاك الرجل الذي يردد، لا مازحاً ولا ساخراً، وإنما شاكراً السماء: «سبحان الذي سخّر لنا هؤلاء الغربيين ليخترعوا ونتنعّم».

منذ حوالى مائتي سنة ومئات ملايين المخلوقات، التي ندينها اليوم ونرميها بأقذع الصفات، كانت تجهد لابتكار وإنجاز شبكات تجمع أنحاء العالم وتتمرد وتنقلب على مفهومي الزمان والمكان بمعناهما التقليدي، وبالتأكيد لم يكن نفط العرب ولا قيمهم حينها بالحسبان. وقد نجح الجبابرة وأطلقوا قطارات وتلغرافات وطائرات وسيارات وغواصات وصواريخ وأقمارا وتلفونات وفاكسات وتلفزيونات وسينمات وأناروا الأرض بتمديدات الكهرباء، ثم جعلوا الكون كتلة واحدة تتشظى أو تتلظى بنار المعرفة الإلكترونية والاخطبوط الانترنتي العملاق. وهكذا لا بد أن ترى في العولمة نتاجاً منطقياً لسياق تاريخي، علمي وفكري لا نملك إلا أن نحترمه وننحني أمامه إجلالاً، ولو كنا نكنّ له، في سرنا حقداً دفيناً، وحسداً بغيضاً، فذلك لا ينتقص من عظمة النتائج وإنما يزيدنا قهراً، ويزيدها وهجاً في أعيننا المغشاة.

لم يكن انهيار المنظومة الشيوعية سوى الحدث الذي أسهم في إخراج مارد العولمة من القمقم حيث كانت تتحضر فيه للتوثب. وعلامة فارقة من وزن «مايكروسوفت» وأخواتها، على سبيل المثال ، ليست إلا استكمالاً طبيعياً لطموح عبور القارات، الذي بدأته «سنجر» و«وستنجهاوس» منذ القرن التاسع عشر ومن ثم «فورد» بداية القرن العشرين، يوم كنا في غاية الانشغال بسؤال الانتماء والهوية. وها نحن بعد مئة سنة ونيف نتحضّر لنكرس له قرناً إضافياً من البحث الذي لن يفضي إلى جواب، لأننا نجهل كيف أن الهويات تتشكل في ورشات العمل وتكتسب نكهتها من ملح عرق الجبين، ولا تتبلور في جلسات السمر تحت ضوء القمر.

ها هو الغيظ يأكلنا من الشركات العابرة للقارات، ونعترض بوقاحة، لأنها لا تحول نفسها من «مؤسسات تجارية» إلى جمعيات خيرية «حانية عطوف، تهدينا خبراتها ومنتوجاتها، وكأننا بهذا الموقف ندلل على أننا نرى في أنفسنا مخلوقات ناقصة الأهلية، تستجدي الإحسان ممن نصنفهم أعداء (وهذا في مفهومنا شائع). والفصام يتجلى بأبهى وأعتى أشكاله حين نتحدث بتشف مثير عن الانحطاط الأخلاقي والتهتك والانهيارات القيمية في بلاد الأجانب، لكننا في الوقت نفسه، لا نترك مناسبة دون أن نشيد بالعدالة والديمقراطية والرقي القانوني هناك، وكيف أن إنسانهم له حقوق وكيان ووجود، أين منه إنساننا. ولا شيء يوجع قدر هذه المقارنات الدؤوب التي نقيمها بيننا، نحن الشرفاء الأخلاقيين وهؤلاء المنحطين المنحلين الذين سبقونا في كل شيء وإلى كل شيء وتركونا خلفهم.

شيزوفرانيا العرب إلى تفاقم، فقطار العولمة يسير بسرعة تتجاوز إدراكهم. وهم في المقطورة الأخيرة يشعرون بدوار شديد وغثيان وضياع، ولا يعرفون النهاية ولا القرار. إنهم منقادون ومنساقون إلى وجهة غير معلومة ولا يملكون في انتظار أن يتوقف القطار وينزلهم في المحطة التي خصصت لهم، من دون استشارتهم، إلا أن يشتموا السائق ويكيلوا له اللعنات، ويدعوا عليه ويتسخطوا لتخسف الأرض من تحته، رغم أنهم يعرفون بأنه لا يسمعهم، ولا يعبأ بهم، ولا يهمه ما يقولون، ما دام متأكداً من عجزهم المزمن عن الانتقال من حيز الكلام إلى حيز الأفعال.




سوسن الأبطح

الشرق الأوسط الثلاثاء 14/4/1423هــ