المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطاب المؤامرة... وتغييب العقل


أباالخــــــيل
18-06-02, 10:48 am
من الأوفق أن يصبح الجدل البيزنطي جدلا عربيا في التاريخ الحديث, فإن يقتل الإنسان نفسه في سبيل وطنه لهو عمل عظيم وتضحية كبيرة, ولكن الشرط الأساسي في ذلك أن يكون وراء ذلك القتل أو الاستشهاد نظرية سياسية تملك إمكان الصمود والوصول إلى النصر لتحقيق أهداف نبيلة فالوسيلة جزء من الغاية, أما أن يقتل الإنسان نفسه في سبيل وهم كبير فهو انتحار منهي عنه عقلا.
أقول هذا بمناسبة تجدد الحديث في وسائل إعلامنا عمن قام بفعلة الحادي عشر من سبتمبر ومن لم يقم بها, وليس من المصادفة أن تقوم مجلة أسبوعية مهمة هي مجلة "تايم" في عددها الأخير بتخصيص بضع صفحات فيها لتشرح للعالم بأسلوب لا يخلو من السخرية, "نظريات المؤامرة" التي يعتنقها بعضنا نحن العرب, وتنتشر في التفكير العربي انتشار النار في الهشيم, فتروج لأفكار مثل القول إن من قاموا بالهجوم ضحى الحادي عشر من سبتمبر الماضي, بالطائرات الانتحارية, ما هم إلا مجموعة من عملاء "الموساد" جهاز الاستخبارات الإسرائيلي وإن الطالبة المتدربة مونيكا لوينسكي ما هي إلا عميلة إسرائيلية زرعت لخلق فضيحة جنسية للرئيس بيل كلينتون من أجل تعطيل جهوده الرامية لإيجاد حل للقضية الفلسطينية!
وتذهب المجلة إلى سرد مجموعة من القصص التي سمعناها في محيطنا العربي منذ فترة, ولا أريد أن أعيدها هنا, وربما وصلت هذه القصص إلى المحرر أخيرا والقائلة بنوع من المؤامرة ضد العرب والعنوان الذي اختاره المحرر لذلك المقال هو "العقل المشكك" إن صحت الترجمة.
في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بمعرفة دوافع الإرهاب وكيفية مواجهته من أي مكان جاء, وتحت أي عباءة اختبأ يبدو أن بعضنا لا يزال يحارب طواحين الهواء, محاولا أن ينشغل بشيء آخر, هو أن يكتشف جذور "مؤامرة" خفية تتقصد العرب وتلقي بالتهم عليهم وهو أمر تكرر ويتكرر في وسائل إعلامنا وبلغ من كثرة تكراره أن اعتقد به ليس العامة من الناس فقط, بل اعتنقته النخبة أيضا, كما حدث في برنامج تليفزيوني بثته قناة "الجزيرة" أخيرا.
يعتمد البعض لترويج مثل نظرية المؤامرة هذه على مصادر في معظمها غريبة كأن يكون قد وقع تحت أيديهم مقال لكاتب "فرنسي أو أمريكي" يذهب ذلك المذهب من التفسير والمفارقة أن الاستشهاد بمثل هذه الكتابات يكون قطعيا وغير قابل للنقاش وهي أصلا في البدء والمجمل والنهاية كتابات هامشية, ولا يعتد بها لدى جمهور عريض من المراقبين والاستشهاد بها - في حد ذاته - يحمل تناقضا منهجيا واضحا لكل ذي بصيرة. فكيف يتأتي الإيمان بصحتها وهي أفكار قادمة من الغرب الذي يروج - في نظر هؤلاء - لإلصاق التهم بالعرب فهل كل شيء قادم من الغرب "غير صحيح" إلا هذا؟!
مثل هذه الاستشهادات يقول بها قلة في الغرب لهم دوافعهم المختلفة وأما ما يوقن به كثرة من المراقبين, وقد أصبح يقينا لدى كل لبيب أن من قام بالفعلة النكراء في الحادي عشر من سبتمبر هم عرب أساسا مولوا ودفعوا من تنظيم يحمل الكثير من الأفكار المشوشة عن العالم المحيط به وهذا التنظيم له - كما أصبح واضحا - أذرع يتقاسمها عدد كبير من الجنسيات بما فيها الأمريكية والبريطانية والباكستانية وغيرها فهو تنظيم دولي يتخذ من أعمال العنف مذهبا سياسيا له ويلتقط الساخطين والغاضبين والرافضين ليقدم لهم برنامجا قرن أوسطي ويجندهم تحقيقا لأهدافه أما قادة هذا التنظيم فهم عرب ومنفذو الحادي عشر من سبتمبر هم عرب أيضا تلك حقيقة علينا الاعتراف بها حتى يمكن مناقشتها بطريقة صحيحة وصحية دون تضييع الوقت في محاولة اكتشاف ما هو ظاهر للعيان أصلا وبذل الجهد في مناقشة أمور فرعية.
ثم من جانب آخر كيف يمكن لبلاد ترسخ فيها عمل المؤسسات معتمدا على الديمقراطية والشفافية والرقابة أن تقوم بحملة للخداع على هذا المستوى وبكل تلك الصلافة التي تدخلها حروبا قد تجرها إلى ما لا تحمد عقباه وتبني كل تلك الجهود التي تكلف بشرا ومالا على "أكذوبة" من هذا القبيل.
وتتداخل الحقائق لتختلط بالخرافة لدى المؤمنين بنظرية المؤامرة, حتى يبدو أنهم فقط هم الذين يمكنهم رؤية عناصرها التي لا تظهر إلا لهم وحدهم بينما هي خافية على غيرهم (!) وهي عناصر غائبة عن كل هذه المؤسسات التي يقف بعضها في خانة المعارضة السياسية وكذلك الصحافة التي إن لم تكن حرة فهي شبه حرة ومن ثم لا يمكنها السكوت عن مثل هذه "الأكذوبة" المدعاة ثم كيف يمكن أن نوازن - عقلا - بين الضجة التي تثور بين الفترة والأخرى حول أن معلومات وصلت للإدارة الأمريكية - لم تتحقق منها - تنذر بوقوع عمليات إرهابية وشيكة وتتحول إلى معركة سياسية وفي الوقت نفسه تدعي أن العملية كانت "داخلية" أو "موسادية" قصدها إخفاء الحقائق عن الجمهور العريض؟!
لا شك في أن البحث عن مؤامرة خفية وراء الأحداث وتصديق هذه المؤامرة يحملان على الإحساس المريح بامتلاك "ذكاء خاص" كما أنهما يرفعان عن الكاهل الإحساس الشديد بالمسؤولية عن الحدث (ولو جزئيا) وإزاحة هذه المسؤولية وتحميلها لـ"الآخر". فالادعاء بأن الذي قام بها ليس من جلدتنا هو "ادعاء" يعني تبرئة الذات وعدم بذل الجهد لمعرفة الأسباب الحقيقية ولكن يفوت على من يقول بهذا الرأي أنه يفقد في الوقت نفسه أسباب ومبررات التبرم والشكوى من الوضع المزري الذي نحن فيه وربما نفقد مبرر الاستعانة بالوضع الفلسطيني بالذات للتدليل على الاحتقان السياسي بجانب احتقانات سياسية أخرى فمن الطبيعي أن يقوم بعض الساخطين بما قاموا به من جراء ما شاهدوه ويشاهدونه من ظلم فادح يقع على الفلسطينيين - ربما ما تم من تخريب لا يكون مبررا لدى العاقل الذي يختار طرقه في الرد بعناية ولكنه يعطي العقل فسحة للمقارنة والفهم فالفلسطينيون يعانون من الاضطهاد ما لم يعانه شعب على هذه الأرض ليس فقط بسبب هدم منازلهم وإفقارهم وطردهم من ديارهم وقتلهم دون رحمة بل الأهم أن أحدا في الفضاء الدولي والعالمي الواسع (إلا ما ندر) لا يقول للمعتدي: "لقد أسرفت فتمهل" (!). بل إن الكثير من التعاطف والتبرير يقدم للمعتدي دون محاولة لفهم ظروف الضحية ربما مثل هذا الأمر يبرر لآخرين أن يقوموا بما قاموا به أو يستفيدوا من الوضع ويقدم لهم نظرية متكاملة حول من هو خلف ذلك الصلف المجنون, والقول إن ما حدث هو مؤامرة "موسادية" أو من غير "الموساد" يعطل النظرة الموضوعية للحدث ويجعلنا - مرة أخرى فوق ما نحن فيه - قوما بعيدين عن تفهم وتحليل الأحداث التي تدور من حولنا.
نظرية المؤامرة التي يعتنقها بعضنا بكل قوة - إلى جانب أنها غير موضوعية - هي معطلة لفهم الحقائق على الأرض فهناك أسباب اقتصادية وسياسية وثقافية وعولمية قادت بعضنا إلى ما قام به وهي أسباب معقدة الحرص على اكتشافها وتحليلها وتقويمها هو الطريق الأفضل لمعالجتها من الجذور وليس فقط التعاطي مع منتجها النهائي "الإرهاب" فما دامت هناك جذور ربما تجددت الأحداث ولو بشكل آخر وفي أماكن أخرى.
لا أستطيع أن أتجاوز مدخلين لفهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما شابهها "الغرب" بشكل عام لأنه هيأ المناخ لكل ما تم و"أنظمة عربية" انتهجت سياسات عشوائية لفترة طويلة مما أفضى إلى إنتاج ما يعانيه المجتمع الدولي اليوم ولكن أيضا بجانب كل ذلك هناك ضخ ثقافي معاكس معطل عن فهم الظاهرة وهو مكون "هروبي" إن صح التعبير يفسر الأشياء بغير أسبابها الحقيقية نتيجة تنحية العقل جانبا.
لقد استفادت الصهيونية العالمية من التفسير الغيبي لما حدث في سبتمبر الماضي الذي قال به بعضنا لتشير بأصابع اتهام جديدة إلينا بسبب هذا التفسير كما ذهب المقال الذي أشرت إليه في بداية هذه السطور في مجلة "تايم" فقد اتهمنا بأننا "لا ساميين" وهو أيضا يمثل جزءا من غيبية غربية في التفسير فكيف يكون الشيء ونقيضه في الوقت نفسه؟ كيف نكون "ساميين" كعرب و"لا ساميين" تجاه اليهود؟!
المعركة الثقافية ليست النهاية بل هي فقط "البداية" ففهم الأشياء على حقيقتها هو مقدمة للحل الصحيح أما التشخيص الأعوج فسوف يقود إلى علاج أكثر اعوجاجا يعقد المشكلة بدلا من أن يقدم لها الحلول.


محمد الرميحي

الوطن