المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إرهاب العولمة‏..‏... الجذور والأسباب والاحتمالات‏!‏


أباالخــــــيل
01-05-02, 02:56 pm
لقد غاب عن الذين وضعوا بذرة العولمة أن تخطيطهم لتغييب الأوطان وتذويب الأمم لكي تسهل لهم السيطرة علي مقدرات العالم‏,‏ سوف ينبت بذرة أخري لغضب ورفض وقلق قد يبدو غير منظور في البداية‏,‏ لكنه سرعان ما سوف يفصح عن نفسه في شكل تداعيات وانفجارات تتخذ أبعادا جديدة وخطيرة‏,‏ تتجاوز الأنماط التقليدية المعروفة عن الإرهاب‏.‏

مثل هذه العمليات الإرهابية المنتظرة ـ والتي بدأ الأمريكيون يدقون أجراس خطرها هذه الأيام ـ سوف يصعب اكتشافها وربما يستحيل تعقبها لأن إرهاب العولمة سوف يكتسب بحكم الأوضاع الدولية الجديدة طابعا دوليا‏,‏ وأنه إذا جاز الاقتناع والتسليم بصحة الاستنتاجات والتكهنات التي تروج لها أجهزة الاستخبارات الأمريكية حول هذا التنظيم أو ذاك في هذه الدولة أو تلك‏,‏ من نوع ما يشار به الآن إلي تنظيم القاعدة الذي يرأسه أسامة بن لادن‏,‏ فإنه من المؤكد أنه لن يكون التنظيم الوحيد وراء ما يمكن حدوثه‏.‏

ان هذا الخطر الذي يثير قلق واشنطن هذه الأيام‏,‏ لن يكون إرهابا تقليديا يعكس تصرفات مجنونة من أفراد محبطين أو مناضلين يائسين يستهدفون مجرد الفرقعة وبث رسائل غضب وتحذير فقط‏,‏ وإنما سوف يكون عملهم شكلا جديدا ومتطورا يعكس قدرة هذه التنظيمات علي التنسيق فيما بينها ـ مهما تبعد المسافات ـ اعتمادا علي ما وفرته تقنيات العصر من وسائل حديثة وسريعة للاتصالات‏.‏

وأغلب الدراسات والبحوث الدولية ـ وفي مقدمتها بحوث ودراسات أمريكية ـ مليئة بتنبؤات صريحة حول ضرورة الاعتراف بأن أسوأ افرازات العولمة هو ما يتعلق بزيادة المصاعب الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية خصوصا في المجتمعات المطحونة التي تعجز شعوبها عن توفير شربة الماء النقية أو حبة الدواء الضرورية‏,‏ بينما تقتحم حدودها وتدخل بيوتها رسائل بث فضائية عن مجتمعات الوفرة وأنماط البذخ ونماذج الاستهلاك الترفي المستفزة‏!‏ ان الإرهاب الذي يثير مخاوف دعاة العولمة ـ هذه الأيام ـ لن يكون إرهابا تحت مظلة المنازعات السياسية واستخلاص الحقوق الوطنية فقط‏,‏ وإنما استجدت دوافع أخري أهمها وأبرزها ما يتعلق بتزايد الشعور بالضيق من أوضاع نظام التجارة العالمية‏,‏ والإحساس بتعاظم رغبة الأقوياء في فرض ثقافتهم السلوكية علي الآخرين‏,‏ وهو ما يصطلح علي تسميته علميا الاستعمار بغير اسم‏.‏

والحقيقة أن من يرصد شكل الأوضاع الاقتصادية في العالم‏,‏ وخريطة التبادل التجاري مع السنوات الأولي لإطلاق ظاهرة العولمة لابد أن يصاب بالصدمة ـ خصوصا في الدول الفقيرة أو الدول الآخذة في النمو ـ حيث تؤكد الأرقام زيادة اتساع الفجوة بين دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة‏,‏ وأن كل ما حدث في السنوات الأخيرة لم يكن سوي تكريس لمزيد من الغني والثراء والتقدم والرخاء والرفاهية في الدول الغنية‏,‏ في حين تفاقمت الأوضاع وازدادت سوءا في الدول الفقيرة‏,‏ التي تعاظمت ديونها وتعطلت عجلة التنمية بها‏,‏ وطفحت علي السطح مظاهر تعكس واقع التخلف والتراجع‏.‏

وفي ظل أوضاع بمثل هذه الدرجة من الجنون‏,‏ سوف يكون طبيعيا أن تنشط الجماعات التي تروج للحقد علي الدول الغنية‏,‏ وتوجيه النقمات للنظام العالمي الجديد‏,‏ والدعوة لضرورة الانقلاب علي هذه الأوضاع‏,‏ والعمل علي تغييرها‏.‏ ‏***‏

ولعل أكبر خطأ تقع فيه الدول الكبري والغنية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ التي تشعر أنها أصبحت المستهدف الرئيسي لأي عمليات إرهابية محتملة‏,‏ هو استمرار التعامل مع الظاهرة علي أنها قضية أمنية وليست مأزقا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ينبغي بحث الطرق العلمية الكفيلة بالخروج منه بأقصي درجات الأمان وأقل درجة من الخسائر‏.‏

ان أمريكا ـ بكل أسف ـ لم تدرك الأسباب الحقيقية لاتساع مساحة الغضب عليها والرفض لسياساتها‏,‏ ومن ثم فإنها مازالت تحصر وتقصر حركتها علي الأبعاد الأمنية فقط‏,‏ دون أن تولي اهتماما للجذور السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تساعد علي استمرار نمو أجيال جديدة من الإرهابيين ـ حسب المسمي الأمريكي ـ بينما هم يعتبرون في أوطانهم ناشطين مناهضين للعولمة‏,‏ ورافضين لتوجهات الهيمنة وسياسة الكيل بمكيالين‏!‏

يغيب عن أمريكا وسائر الدول الغنية المتقدمة أنهم ـ هم الذين ـ يحرضون علي نمو القوي والتيارات المعادية لهم في معظم دول العالم‏,‏ بما يصدر عن الأغنياء من استعراض للقوة واستهانة بمصالح وحقوق الآخرين‏..‏ وليت الأمر يقتصر عند ذلك الحد‏,‏ وإنما يصاحب هذه العجرفة السياسية وتلك الغطرسة العسكرية وذلك الاحتكار المالي والتجاري للأسواق الاقتصادية‏,‏ إصرارا علي الترويج لثقافة استهلاكية مجنونة وغير منضبطة‏,‏ تستهدف إرضاء الشهوات والغرائز بغير حدود‏,‏ وهو ما يشكل استفزازا للمجتمعات المطحونة‏,‏ وبما يهييء التربة لنشاط الجماعات الأصولية والتنظيمات المتطرفة لكي تتحرك بكل الفاعلية وبكل الهمة تحت مظلة التصدي الضروري للإباحية والشذوذ والفسق الاجتماعي‏!‏

ويغيب أيضا عن أمريكا وسائر الدول الغنية والمتقدمة أن هناك شعورا بإصرار الأقوياء والأغنياء علي تهميش الدول الفقيرة‏,‏ وعدم وضع مصالحها في الاعتبار‏,‏ خصوصا بعد أن اكتشفت دول فقيرة عديدة أن الاستثمارات الصناعية الكبري التي وفدت إليها لم تجـء من أجل دعم مسيرة التنمية أو إصلاح الأحوال الاقتصادية لهذه الدول‏,‏ وانما كان الدافع الأساسي هو الرغبة في تحقيق المكاسب المالية التي أصبح من الصعب تحقيقها في دول الشمال الغني‏,‏ نتيجة احتجاجات أنصار حماية البيئة عندهم‏,‏ ولهذا لم يكن هناك من حل سوي نقل هذه الأخطار البيئية للدول الفقيرة والمتخلفة التي ارتضي بعضها ـ تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لهذه الدول ـ أن تكون أرضها مقلبا للنفايات النووية‏.‏ ‏***‏

إن كل هذه الافرازات السيئة والتداعيات التي نجمت عن سياسات غير رشيدة للدول الغنية والمتقدمة تقع مسئولية احتوائها ودرء المخاطر التي يمكن أن تترتب عليها بفكر سياسي رشيد وليس بإجراءات أمنية حمقاء‏!‏ لعلي أكون أكثر وضوحا وأقول إنه ليس بالإجراءات الأمنية وحدها يمكن درء خطر الإرهاب العالمي الذي بدأوا يصرخون من مخاطره من قبل أن تتفجر القنابل أو تتناثر الأشلاء من جديد‏!‏

إن أكبر خطأ وقعت فيه أمريكا أنها لم تتعامل مع حادث تفجير سفارتيها في نيروبي ودار السلام‏,‏ أو مع حادث تفجير المدمرة الأمريكية العملاقة كول في ميناء عدن‏,‏ بفهم سياسي‏,‏ وإنما ركزت كل جهدها علي تعقب من اشتبهت في تورطهم واتجهت إلي ما هو أبعد من ذلك‏,‏ بتشكيل فرق قتل واغتيال ومطاردة مهمتها ملاحقة من تري فيهم خطرا علي مصالحها الحيوية بجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة‏.‏

كان كل هم الولايات المتحدة الأمريكية أن توفر تعاونا وثيقا مع معظم الحكومات والأنظمة من أجل تبادل المعلومات ومطاردة المشتبه فيهم وحرمانهم من حق الإقامة المشروعة ودفعهم إلي الاختفاء والتقوقع باستخدام سياسة الترغيب والترهيب‏..‏ ولكن لم تفكر واشنطن ـ للحظة ـ في حلول سياسية واقتصادية تعالج أسباب النقمة المتزايدة علي أمريكا في عدد من دول العالم‏!‏

ولست هنا في معرض الإثارة لأسباب هذه النقمة المتزايدة علي السياسة الأمريكية في عديد من دول العالم‏,‏ كما أنني لست معنيا بالقول ما إذا كانت هذه النقمة مشروعة أو غير مشروعة‏,‏ ولكن الذي لا شك فيه أن كثيرا من توجهات السياسة الأمريكية باعتبارها قوة عظمي تنفرد بقيادة النظام العالمي تمثل استفزازا لشعوب كثيرة‏.‏

إن السياسة الأمريكية تستفز الكثيرين نتيجة هيمنتها المطلقة علي الأمم المتحدة‏,‏ وادراك الجميع أنها هي التي تعين الأمين العام للمنظمة الدولية‏,‏ وأنها تستطيع عزله إذا لم ترض عن سياسته‏..‏ وإن كل الكبار في المسرح الدولي قد تحولوا إلي كومبارس يسهون ـ رضاء أو كرها ـ في تمكين البطل الأوحد من أداء كل ما يحلو له‏!‏

والسياسة الأمريكية تستفز الكثيرين بقدرتها علي إجهاض أي قرار في مجلس الأمن الدولي باستخدامها غير المبرر لحق الفيتو‏,‏ وبالتالي تعطيل ارادة المجتمع الدولي عن إنجاز حلول سياسية عادلة لمشكلات عويصة ومزمنة مثل المشكلة الفلسطينية‏,‏ وفي نفس الوقت تكرس لدي الآخرين مشاعر اليأس والاحباط وعدم القدرة علي إنجاز أي حلول عسكرية اعتمادا علي قدرتها العسكرية الهائلة التي تجعلها قادرة علي امتهان العالم كله تحت أمرها‏!‏ ان ذاكرة الشعوب مهما تضعف لايمكن لها أن تنسي أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة التي استخدمت القنابل الذرية ـ علي طول التاريخ البشري ـ وأزهقت أرواح مئات الألوف عندما أسقطت قنبلتين فوق هيروشيما ونجازاكي قبل أكثر من نصف قرن‏..‏ هي نفسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تصادر حق كوريا الشمالية مثلا في صنع قنبلة ذرية وتواصل الحصار والعقوبات الذكية وغير الذكية لأكثر من‏10‏ سنوات ضد العراق‏,‏ بدعوي ضرورات حرمانه من امتلاك أسلحة دمار شامل في الوقت الذي تغمض فيه عيونها تماما عن الترسانة النووية التي تمتلكها إسرائيل‏,‏ والتي تمارس في ظلها عدوانا مستمرا ضد معظم الدول العربية التي مازالت بعض أراضيها تحت الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من‏30‏ عاما‏.‏

وليس من شك في أن وقائع الماضي ودروسه المريرة ومتغيرات الحاضر وشواهدها المقلقة هي التي تزيد من حجم هذا التناقض المتزايد بين شعوب تبحث لنفسها عن مكان آمن تحت الشمس‏,‏ وبين من يريدون فرض هيمنتهم وتوسيع نفوذهم وإضعاف قبضة الشرعيات السياسية الوطنية وتخفيف عمق الانتماء للأرض والمكان والتاريخ‏!‏ ‏***‏

وربما يشجعني ذلك الحديث المتشعب والممتد ـ لأسبوعين متتاليين ـ عن إفرازات ومخاطر العولمة‏,‏ أن أنبه إلي حاجتنا ـ كأمة عربية ـ إلي قراءة رسائل التحذير الموجهة لأمريكا بعيون وعقول عربية خالصة تركز علي الجانب الآخر الذي يهمنا‏!‏

أريد أن أقول بوضوح إنه إذا كان صحيحا أنه ليس بمقدورنا أن نعزل أنفسنا عما يجري حولنا من متغيرات باسم العولمة إلا أنه يتحتم علينا أن نتعامل مع هذه المتغيرات بفكر مفتوح وأفق متسع‏!‏

إننا يجب أن نكون مستعدين لمجاراة الحداثة والأخذ بلغة العصر وتقنياته الحديثة‏,‏ ولكن مع ضرورة الاحتفاظ بقوة جذور انتمائنا العربية والإسلامية التي تشكل أهم روافد ثقافتنا وحضارتنا القومية‏.‏

واذا كان صحيحا ـ في ظل قوانين العولمة ـ أن التقدم نحو المستقبل رهن بالقدرة علي مجاراة التطورات العلمية والتكنولوجية المذهلة‏,‏ فإن علينا ألا ننسي أو نتجاهل أن سبيلنا للتقدم المنشود رهن أيضا بمدي قدرتنا علي إعادة الاعتبار والاحترام لثقافتنا العربية والإسلامية التي تظل بالنسبة لنا ـ وحتي آخر الزمان ـ الشعلة المضيئة التي لا تنطفئ ولا يخفت ضوؤها تحت أي ظرف من الظروف‏.‏

وأظن أن السجل التاريخي لتعامل أمتنا العربية مع الآخرين في سنوات الاستعمار الصريح أو في حقبة الاستعمار بغير اسم المواكبة للعولمة‏,‏ لابد أن يدفعنا لمزيد من الحذر ومزيد من اليقظة ومزيد من التأهب‏.‏

بل إنني أقول ما هو أكثر من ذلك وأنبه إلي أن حساباتنا وتقديراتنا الراهنة والمستقبلية ينبغي لها ألا ترتكز علي أوهام صداقات مشكوك في صدقيتها خصوصا أن عديدا من الأزمات السابقة كشفت لنا عن أن معظم الأصدقاء الكبار يستسهلون إلقاء التهم علينا دون دليل ومحاولة الإيهام ـ كذبا ـ بأن الإرهاب صناعة عربية وإسلامية‏,‏ رغم أن العكس هو الصحيح‏..




المصدر : الساحة السياسية