أ.عبدالله الوابلي
11-09-07, 05:15 pm
بسم إلله الرحمن الرحيم
المدينـة التي لاتتثـاءب
شبه الرحالة ( داوتي ) الذي زار بريدة في عام 1879م ( بقدسٍ أخرى قامت في الصحراء ) وتحدث عن أسواقها فذكر سوق العلف ثم سوق المطاعم حيث قال ( راعني أن أجد حبال السجق الطويلة التي ربما تكون قد جلبت من بلاد الرافدين تتدلى على أبواب المطاعم ) وهو يقصد بذلك كروش الأغنام وأمعاءها التي تحشى بالشحوم والأوداك وتسمى بالمحزر وهي بالفعل نوع من أنواع السجق وقد إشتهرت به بريدة فعلاً وكانت تجهز فيها ولا تستورد ( كما يضن داوتي ) بل يصدر منها ، وذكر دواوتي بأنه ( يحضر في هذه المطاعم الوجبات الساخنة من الأرز ولحم الضأن والأبل المسلوق ) ، وقال ( لقد أدركت أن الإنسان يمكن أن يعيش هنا في بريدة في قلب شبه الجزيرة العربية ووسط بدوها كما يعيش في بلاد الرافدين ) ، كما قال ( أن بعض نساء بريده يعملن في بيع الخضروات وأجد هنا أن دمشق ليست بمثل هذا التحضر ) . وقال داوتي عن أهل بريدة بأنهم من أصحاب الإبل الذي يعملون في نقل القمح في بلاد مابين النهرين ومن الذين يجلبون من هناك الأقمشة والأرز إلى نجد ثم يحملون تمور القصيم وقمحه إلى المدينة المنورة كما يحملون السمن الذي يجلبونه من البوادي إلى مكه والتي يعودون منها بأثقال البن ) .
أما الرحالة لويمر فقد وصف سوق بريدة بقوله ( إن أقصى الطرف الشمالي من السوق يضم الحدادين والسمكرية ، وإلى جوارهم يقبع الحدادون والإسكافيون والبزازون ، ثم نجد أماكن لبائعي الملابس الجاهزة ، ثم أماكن بيع الحلوى فتجار السلاح والذخيرة فصاغة الذهب والمجوهرات والفضة ثم ينحدر شارع السوق الرئيسي عند طرفه الجنوبي تجاه الشرق وهناك تقع متاجر الزينة والسلع الخاصة بالنساء التي تباع فيها مستلزمات التجميل والمكاحل والحناء والفساتين ، أما مناطق البزازين والقصابين يتسع السوق ليشكل مساحتين خاليتين تعقد فيهما أسواق بيع الإبل والماشية ( يقصد الوسعة التي كانت شمال الجامع الكبير ثم أدخلت فيه الآن ) ، كما تعرف الساحة الأخيرة التي تقع أمام القصابين بسوق الدلالة ( يقصد السوق الذي يقع بين الجامع الكبير وقبة رشيد ) .
لقد شهدت بريدة عبر القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجري نمواً إقتصادياً وثقافياً مطَّرِداً ،وكبرت المدينة وكبر معها طموح أبنائها ، ولما أصبحت مقومات إقتصاد المدينة لاتلبي طموح الجميع بدأوا يبحثون عن أسواق جديدة ، فولوا وجوههم شطر العراق والشام وفلسطين والأردن ومصر والسودان والخليج وأصبحوا أرقاماً رئيسية في معادلات تلك البلدان الإقتصادية ، بل إن بعض أبناء بريده قد عبر المحيطات إلى أمريكا الشمالية بعد الحرب العالمية الأولى وقبل الثانية ، وبعضٍ منهم عمل في خط البريد من شرق آسيا إلى أوروبا حيث كانوا مسئولين عن المرحلة من محافظة الرها إلى أنطاكية وكان آخرهم من لآخر الرجال العاملين في هذا الخط رشيد الحميضي .
كما أن الكثير منهم ( لاسيما الشباب ) إنخرطوا في الجيش العثماني ومن ثم الجيش البريطاني والفرنسي في العراق وسوريا والأردن ، وكان لبعض هؤلاء الذين تلقوا تدريباً قتالياً حديثاً أثراً حاسماً في معركة البكيرية ، حينما قسم الملك عبدالعزيز جيشه إلى عدة ألوية وجعل أهل القصيم في مواجهة الجنود الأتراك الذين جاءوا لمناصرة آل الرشيد حيث ألحق أهل القصيم هزيمة حاسمة بالجنود الأتراك مما أضعف إلى حد كبير جبهة بن رشيد ، وكانت معركة البكيرية من المعارك الحاسمة التي أحدثت تغيراً كبيراً في ميزان القوى لصالح الدولة السعودية .
وقد عاد الكثير من أولئك المغامرين إلى بريدة حاملين معهم ثقافات وعادات البلدان التي سافروا إليها بل إكتسبت لهجة أهل بريدة الكثير من مفردات العراق والأردن وبادية الشام ، وقد إستثمر الملك عبدالعزيز ( طيب الله ثراه ) هذا المورد الحظاري المختزن لدى أهل بريده ، وإعتمد عليهم إعتماداً كبيراً في ديوانه وتنفيذ خططه التنموية الطموحة وتأسيس أجهزته المدنية والعسكرية ( وعلى سبيل المثال ) فإن أول مدير للمدرسة التذكارية في الرياض ( الأهلية سابقاً 1367هـ ) هو الأستاذ عبدالله بن إبراهيم السليم الذي كان قبل ذلك مديراً للمدرسة الفيصلية ببريدة والتي تأسست عام 1356هـ ، كما كلف الملك عبدالعزيز عام 1351هـ خمسة من أبناء بريدة بتأسيس أول جهاز للشرطة في الرياض وهم محمد العطيشان وتركي العطيشان وعبدالعزيز السالم وناصر الرواف وعودة العوده ، كما كان أحد أبناء مدينة بريده وهو الشيخ ناصر السعوي إلى جانب الشيخ ناصربن راشد أول نواة لرئاسة تعليم البنات في المملكة . وقد كان الشيخان علي المطلق و عبدالعزيز المعارك من أبرز الأركان التي قامت عليها الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إبان تأسيسها . حتى في الشئون الخارجية فقد إستعان الملك عبدالعزيز بأهل بريدة في عام 1340هـ لتعيين أحد أبنائهم ليكون ( سفيراً ) له في الشام .
أضحت التجارة هاجس جميع من يسكن بريدة ومصدراً لأدبياتهم وأمثالهم الشعبية لدرجة أن الكثير يسرد سيرة حياته التجارية وفقاً لإنكساراته كأن يقول ( إشتريت العقار الفلاني قبل إنكسارتي الأولى ، وسافرت إلى الشام بعد إنكسارتي الثانية و ( دَشِّيت ) الغوص بعد إنكسارتي الثالثة هكذا ولايجد في ذلك أية غضاضة أو خجل . والغالب على تجار بريدة أنهم لم يجمعوا ثرواتهم نتيجة علاقات مع الحكومة أو الشركات الكبرى . بل بنوها عبر سنين طويلة تخللتها موجات عنيفة من الإخفاقات.
وبحكم طبيعة الحياة الإقتصادية في المدينة كان من أولويات الناس فيها التعليم وخاصة القراءة والكتابة والحساب ، فإنتشرت فيها مدارس الكتاتيب ( المطاوعة للأولاد والخالات للبنات ) . لقد تأسست في مدينة بريدة أول مدرسة بنين حكومية عام 1356هـ وهي المدرسة الفيصلية (قبل بداية العليم النظامي فيالرياض بأحد عشر سنة ) . أما تأريخ تعليم البنات النظامي في بريده فقد قرئ بطريقة مشوهة ، وساد مفهوم خاطئ بأن أهل بريدة رفضوا التعليم النظامي ، بل إن العكس هو الصحيح فالأغلبية العظمى من أهل البلد طالبوا بفتح المدرسة الحكومية وكان يقود هذه الأغلبية الأستاذ علي الحصين بالمقابل كان هناك ثلاثة وسبعون رجلاً فضلوا إستمرار تعليم البنات وفقاً للطريقة التقليدية ، حيث سافرت هذه المجموعة ( الأخيرة ) إلى الرياض من أجل هذا الغرض ، ولكن الحكومة لما رأت أن السواد الأعظم من الأهالي يطالبون بفتح المدرسة لبت مطلبهم و فتحت المدرسة ، وليس صحيحاً البتة أن الحكومة إستعانت بقوات أمن لفتح المدرسة بل قد يكون هذا قد حدث في مناطق أخرى ونسب إلى بريدة جهلاً وتخرصاً أو إمعاناً في التشويه .
لقد أفرزت هذه الحالة الفكرية والثقافية جيلاً من الرواد في قطاع الأعمال والإدارة العامة والخاصة وكوكبة من المجددين ( بعضهم بنكهة دينية ) الذين أثروا الساحة الثقافية السعودية والخليجية والعربية بعطاءآتهم ومبادراتهم المتميزة والمشاغبة أحياناً وهنا يحضرني بعض هذه الأسماء ( بدون ترتيب مع الإعتذار الشديد لمن لم أستحضره وهم بلاشك أكثر إبداعاً وأقوى أثراً ) وهم من النساء عالمة النفس الدكتورة هناء المطلق والدكتورة سلوى الهزاع والرائدات الإجتماعيات الأستاذة الجوهرة الوابلي والأستاذة لولوة النغيمشي ومن الرجال ( المفكر الديني ) الشيخ سلمان العودة و الشيخ عبدالعزيز المسند والفيلسوف الكبير عبدالله القصيمي ورجل القانون الدولي صلاح الحجيلان ومن المفكرين الدكتور تركي الحمد والدكتور أحمد الربعي والدكتور خالد الدخيل والدكتور عبدالعزيز الجارالله والأستاذ إبراهيم البليهي والدكتور / عبدالرحمن الشلاش والأستاذ يوسف أبالخيل والأستاذ منصور النقيدان والأستاذ مشاري الذايدي والأستاذ صالح العييري ، والأستاذ علي العميم ومن الصحفيين الأستاذ عبدالله الصانع ( الذي أسس صحيفة القصيم في نهاية السبعينات الهجرية ) والأستاذ أحمد الجارالله ( مؤسس ورئيس تحرير صحيفة السياسة الكويتية ) و من كتاب المسرح مثل الأستاذ محمد العثيم والأستاذ محمد الهويمـل والأستاذ عبدالرحمن الجارالله ومن كتاب القصة الأستاذ يوسـف المحيميـد والأستاذ صالح الاشقر والأستاذ صالح الصقعبي وكاتب الدراما الأستاذ عبدالرحمن الوابلي ومن الباحثين الفلكيين كالشيخ عبدالله السليم والدكتور خالد الزعاق ومن الجغرافيين الدكتور محمد الربدي ومن الشعراء العوني والصغير ومحمد العرفج ومن أدباء الرحلات الشيخ محمد العبودي ومن المتخصصين في التنمية الإجتماعية فهد الرباح ومن المهتمين بتأريخ بريدة الأساتذة إبراهيم المعارك وإبراهيم المسلم ومن الممثلين عبدالله المزيني ومحمد الطويان وسعد الفرج وحياة الفهد ومن رواد الحداثة ورموزها الدكتور سعد البازعي والأستاذ عبدالكريم العودة ومن الإعلاميين الأستاذ إبراهيم الصقعوب والأستاذ داؤد الشريان والأستاذ تركي الدخيل ، والأستاذ عبدالرحمن الجارالله والأستاذ محمد الحنايا ، وليس من قبيل الصدف أن أول صحفي نجدي ( بشهادة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله ) كان من بريدة وهو الأستاذ جارالله الدخيل الذي أسس جريدة الرياض في بغداد عام 1327هـ الموافق 1909م وكذلك الأستاذ عبدالله الطامي مؤسس إذاعة طامي في الرياض قبل تأسيس إذاعة ( الرياض ) الحكومية .
وبالمقابل تجد تياراً ثقافياً محافظاً لايقل صولة وجولة وحضوراً عن التيار الأول مثل الشيخ حمود العقلاء ( رحمه الله ) والشيخ صالح الفوزان والشيخ صالح السدلان والدكتور ناصر العمر والدكتور ناصر القفاري والدكتور صالح التويجري والدكتور سليمان العودة والدكتور وليد الرشودي والمهندس علي المسند والشيخ علي الخضير والشيخ سليمان العلوان والشيخ خالد الصقعبي والشيخ عبدالكريم الحميد.
وهناك تيار يقف في الوسط يقترب من التيار المجدد تارة ومن التيار المحافظ تارة أخرى (وفقاً لمقتضيات المرحلة ) لكنه في الغالب يحتفظ بمسافة واضحة بين التيارين ومن أبرز رموز هذا التيار الرائدات الإجتماعيات نورة السويلم ولطيفة الحميد وزهوة العوض و الدكتور حسن الهويمل والدكتور عبدالحليم العبداللطيف والدكتور أحمد الطامي والدكتور خالد الشريده والدكتور سعد الشارع والدكتور إبراهيم المشيقح والأستاذ عبدالكريم الطويان والشاعر عبدالعزيز النقيدان .
هل تعلم أن حركة المسرح في مدينة بريدة تعتبر من أعرق وأنشط الحركات المسرحية على مستوى المملكة ، وهي الآن تمثل المملكة في الكثير من المناسبات المسرحية العربية ، كما أن في مدينة بريدة جماعة نشطة للفنون التشكيلية يشترك في إحيائها شريحة عريضة من الفنانين والفنانات التشكيليات . كما حققت أحد الفرق الغنائية في أمريكا يقودها فنان أبوه من أبناء بريدة ومن مواليدها في إحدى المسابقات الغنائية المرتبة 45 على مستوى أمريكا .
هذا على المستوى الثقافي والفني أما على الساحة الإجتماعية فتنقسم المجموعات إلى إتجاهين ، إتجاه يهتم في شئون المدينة التنموية والإتجاه الآخر غارق حتى الهامة في عباب الأعمال الخيرية وتلمس إحتياجات الفقراء والمساكين كالدكتور صالح الونيان والدكتور عبدالعزيز الشاوي والدكتور محمد الثويني والشيخ عبدالله الغضيه .
أما ساحة الرياضة في بريدة فإنها ومنذُ نهاية السبعينات الهجرية لم ينطفئ لها سراج حيث تشهد تنافساً حام الوطيس بين قطبي الرحى ( ناديا الرائد والتعاون – الأهلي والشباب سابقاً ) ومن أبرز حاملي شعلة التنافس ناصر الرشودي وعبدالعزيز التويجري وعبدالله الشريدة وفهد المحيميد وعبدالعزيز المسلم وإبراهيم الربدي وعبدالرحمن السكاكر وسليمان أبالخيل . وأحمد الغراس وعلي الراشد وسليمان العضاض.
وهناك مجموعات ضغط دينية ورياضية وزراعية ، كما أن هناك مجموعات أخرى متخصصة تمارس هوايات إبداعية طريفة مثل هواة التطعيس بالسيارات وهواة الرحلات والقنص وهواة الحمام الزاجل وهواة تربية الأغنام .
إنها المدينة التي لاتتثاءب .
عبدالله الوابلي
المدينـة التي لاتتثـاءب
شبه الرحالة ( داوتي ) الذي زار بريدة في عام 1879م ( بقدسٍ أخرى قامت في الصحراء ) وتحدث عن أسواقها فذكر سوق العلف ثم سوق المطاعم حيث قال ( راعني أن أجد حبال السجق الطويلة التي ربما تكون قد جلبت من بلاد الرافدين تتدلى على أبواب المطاعم ) وهو يقصد بذلك كروش الأغنام وأمعاءها التي تحشى بالشحوم والأوداك وتسمى بالمحزر وهي بالفعل نوع من أنواع السجق وقد إشتهرت به بريدة فعلاً وكانت تجهز فيها ولا تستورد ( كما يضن داوتي ) بل يصدر منها ، وذكر دواوتي بأنه ( يحضر في هذه المطاعم الوجبات الساخنة من الأرز ولحم الضأن والأبل المسلوق ) ، وقال ( لقد أدركت أن الإنسان يمكن أن يعيش هنا في بريدة في قلب شبه الجزيرة العربية ووسط بدوها كما يعيش في بلاد الرافدين ) ، كما قال ( أن بعض نساء بريده يعملن في بيع الخضروات وأجد هنا أن دمشق ليست بمثل هذا التحضر ) . وقال داوتي عن أهل بريدة بأنهم من أصحاب الإبل الذي يعملون في نقل القمح في بلاد مابين النهرين ومن الذين يجلبون من هناك الأقمشة والأرز إلى نجد ثم يحملون تمور القصيم وقمحه إلى المدينة المنورة كما يحملون السمن الذي يجلبونه من البوادي إلى مكه والتي يعودون منها بأثقال البن ) .
أما الرحالة لويمر فقد وصف سوق بريدة بقوله ( إن أقصى الطرف الشمالي من السوق يضم الحدادين والسمكرية ، وإلى جوارهم يقبع الحدادون والإسكافيون والبزازون ، ثم نجد أماكن لبائعي الملابس الجاهزة ، ثم أماكن بيع الحلوى فتجار السلاح والذخيرة فصاغة الذهب والمجوهرات والفضة ثم ينحدر شارع السوق الرئيسي عند طرفه الجنوبي تجاه الشرق وهناك تقع متاجر الزينة والسلع الخاصة بالنساء التي تباع فيها مستلزمات التجميل والمكاحل والحناء والفساتين ، أما مناطق البزازين والقصابين يتسع السوق ليشكل مساحتين خاليتين تعقد فيهما أسواق بيع الإبل والماشية ( يقصد الوسعة التي كانت شمال الجامع الكبير ثم أدخلت فيه الآن ) ، كما تعرف الساحة الأخيرة التي تقع أمام القصابين بسوق الدلالة ( يقصد السوق الذي يقع بين الجامع الكبير وقبة رشيد ) .
لقد شهدت بريدة عبر القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجري نمواً إقتصادياً وثقافياً مطَّرِداً ،وكبرت المدينة وكبر معها طموح أبنائها ، ولما أصبحت مقومات إقتصاد المدينة لاتلبي طموح الجميع بدأوا يبحثون عن أسواق جديدة ، فولوا وجوههم شطر العراق والشام وفلسطين والأردن ومصر والسودان والخليج وأصبحوا أرقاماً رئيسية في معادلات تلك البلدان الإقتصادية ، بل إن بعض أبناء بريده قد عبر المحيطات إلى أمريكا الشمالية بعد الحرب العالمية الأولى وقبل الثانية ، وبعضٍ منهم عمل في خط البريد من شرق آسيا إلى أوروبا حيث كانوا مسئولين عن المرحلة من محافظة الرها إلى أنطاكية وكان آخرهم من لآخر الرجال العاملين في هذا الخط رشيد الحميضي .
كما أن الكثير منهم ( لاسيما الشباب ) إنخرطوا في الجيش العثماني ومن ثم الجيش البريطاني والفرنسي في العراق وسوريا والأردن ، وكان لبعض هؤلاء الذين تلقوا تدريباً قتالياً حديثاً أثراً حاسماً في معركة البكيرية ، حينما قسم الملك عبدالعزيز جيشه إلى عدة ألوية وجعل أهل القصيم في مواجهة الجنود الأتراك الذين جاءوا لمناصرة آل الرشيد حيث ألحق أهل القصيم هزيمة حاسمة بالجنود الأتراك مما أضعف إلى حد كبير جبهة بن رشيد ، وكانت معركة البكيرية من المعارك الحاسمة التي أحدثت تغيراً كبيراً في ميزان القوى لصالح الدولة السعودية .
وقد عاد الكثير من أولئك المغامرين إلى بريدة حاملين معهم ثقافات وعادات البلدان التي سافروا إليها بل إكتسبت لهجة أهل بريدة الكثير من مفردات العراق والأردن وبادية الشام ، وقد إستثمر الملك عبدالعزيز ( طيب الله ثراه ) هذا المورد الحظاري المختزن لدى أهل بريده ، وإعتمد عليهم إعتماداً كبيراً في ديوانه وتنفيذ خططه التنموية الطموحة وتأسيس أجهزته المدنية والعسكرية ( وعلى سبيل المثال ) فإن أول مدير للمدرسة التذكارية في الرياض ( الأهلية سابقاً 1367هـ ) هو الأستاذ عبدالله بن إبراهيم السليم الذي كان قبل ذلك مديراً للمدرسة الفيصلية ببريدة والتي تأسست عام 1356هـ ، كما كلف الملك عبدالعزيز عام 1351هـ خمسة من أبناء بريدة بتأسيس أول جهاز للشرطة في الرياض وهم محمد العطيشان وتركي العطيشان وعبدالعزيز السالم وناصر الرواف وعودة العوده ، كما كان أحد أبناء مدينة بريده وهو الشيخ ناصر السعوي إلى جانب الشيخ ناصربن راشد أول نواة لرئاسة تعليم البنات في المملكة . وقد كان الشيخان علي المطلق و عبدالعزيز المعارك من أبرز الأركان التي قامت عليها الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إبان تأسيسها . حتى في الشئون الخارجية فقد إستعان الملك عبدالعزيز بأهل بريدة في عام 1340هـ لتعيين أحد أبنائهم ليكون ( سفيراً ) له في الشام .
أضحت التجارة هاجس جميع من يسكن بريدة ومصدراً لأدبياتهم وأمثالهم الشعبية لدرجة أن الكثير يسرد سيرة حياته التجارية وفقاً لإنكساراته كأن يقول ( إشتريت العقار الفلاني قبل إنكسارتي الأولى ، وسافرت إلى الشام بعد إنكسارتي الثانية و ( دَشِّيت ) الغوص بعد إنكسارتي الثالثة هكذا ولايجد في ذلك أية غضاضة أو خجل . والغالب على تجار بريدة أنهم لم يجمعوا ثرواتهم نتيجة علاقات مع الحكومة أو الشركات الكبرى . بل بنوها عبر سنين طويلة تخللتها موجات عنيفة من الإخفاقات.
وبحكم طبيعة الحياة الإقتصادية في المدينة كان من أولويات الناس فيها التعليم وخاصة القراءة والكتابة والحساب ، فإنتشرت فيها مدارس الكتاتيب ( المطاوعة للأولاد والخالات للبنات ) . لقد تأسست في مدينة بريدة أول مدرسة بنين حكومية عام 1356هـ وهي المدرسة الفيصلية (قبل بداية العليم النظامي فيالرياض بأحد عشر سنة ) . أما تأريخ تعليم البنات النظامي في بريده فقد قرئ بطريقة مشوهة ، وساد مفهوم خاطئ بأن أهل بريدة رفضوا التعليم النظامي ، بل إن العكس هو الصحيح فالأغلبية العظمى من أهل البلد طالبوا بفتح المدرسة الحكومية وكان يقود هذه الأغلبية الأستاذ علي الحصين بالمقابل كان هناك ثلاثة وسبعون رجلاً فضلوا إستمرار تعليم البنات وفقاً للطريقة التقليدية ، حيث سافرت هذه المجموعة ( الأخيرة ) إلى الرياض من أجل هذا الغرض ، ولكن الحكومة لما رأت أن السواد الأعظم من الأهالي يطالبون بفتح المدرسة لبت مطلبهم و فتحت المدرسة ، وليس صحيحاً البتة أن الحكومة إستعانت بقوات أمن لفتح المدرسة بل قد يكون هذا قد حدث في مناطق أخرى ونسب إلى بريدة جهلاً وتخرصاً أو إمعاناً في التشويه .
لقد أفرزت هذه الحالة الفكرية والثقافية جيلاً من الرواد في قطاع الأعمال والإدارة العامة والخاصة وكوكبة من المجددين ( بعضهم بنكهة دينية ) الذين أثروا الساحة الثقافية السعودية والخليجية والعربية بعطاءآتهم ومبادراتهم المتميزة والمشاغبة أحياناً وهنا يحضرني بعض هذه الأسماء ( بدون ترتيب مع الإعتذار الشديد لمن لم أستحضره وهم بلاشك أكثر إبداعاً وأقوى أثراً ) وهم من النساء عالمة النفس الدكتورة هناء المطلق والدكتورة سلوى الهزاع والرائدات الإجتماعيات الأستاذة الجوهرة الوابلي والأستاذة لولوة النغيمشي ومن الرجال ( المفكر الديني ) الشيخ سلمان العودة و الشيخ عبدالعزيز المسند والفيلسوف الكبير عبدالله القصيمي ورجل القانون الدولي صلاح الحجيلان ومن المفكرين الدكتور تركي الحمد والدكتور أحمد الربعي والدكتور خالد الدخيل والدكتور عبدالعزيز الجارالله والأستاذ إبراهيم البليهي والدكتور / عبدالرحمن الشلاش والأستاذ يوسف أبالخيل والأستاذ منصور النقيدان والأستاذ مشاري الذايدي والأستاذ صالح العييري ، والأستاذ علي العميم ومن الصحفيين الأستاذ عبدالله الصانع ( الذي أسس صحيفة القصيم في نهاية السبعينات الهجرية ) والأستاذ أحمد الجارالله ( مؤسس ورئيس تحرير صحيفة السياسة الكويتية ) و من كتاب المسرح مثل الأستاذ محمد العثيم والأستاذ محمد الهويمـل والأستاذ عبدالرحمن الجارالله ومن كتاب القصة الأستاذ يوسـف المحيميـد والأستاذ صالح الاشقر والأستاذ صالح الصقعبي وكاتب الدراما الأستاذ عبدالرحمن الوابلي ومن الباحثين الفلكيين كالشيخ عبدالله السليم والدكتور خالد الزعاق ومن الجغرافيين الدكتور محمد الربدي ومن الشعراء العوني والصغير ومحمد العرفج ومن أدباء الرحلات الشيخ محمد العبودي ومن المتخصصين في التنمية الإجتماعية فهد الرباح ومن المهتمين بتأريخ بريدة الأساتذة إبراهيم المعارك وإبراهيم المسلم ومن الممثلين عبدالله المزيني ومحمد الطويان وسعد الفرج وحياة الفهد ومن رواد الحداثة ورموزها الدكتور سعد البازعي والأستاذ عبدالكريم العودة ومن الإعلاميين الأستاذ إبراهيم الصقعوب والأستاذ داؤد الشريان والأستاذ تركي الدخيل ، والأستاذ عبدالرحمن الجارالله والأستاذ محمد الحنايا ، وليس من قبيل الصدف أن أول صحفي نجدي ( بشهادة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله ) كان من بريدة وهو الأستاذ جارالله الدخيل الذي أسس جريدة الرياض في بغداد عام 1327هـ الموافق 1909م وكذلك الأستاذ عبدالله الطامي مؤسس إذاعة طامي في الرياض قبل تأسيس إذاعة ( الرياض ) الحكومية .
وبالمقابل تجد تياراً ثقافياً محافظاً لايقل صولة وجولة وحضوراً عن التيار الأول مثل الشيخ حمود العقلاء ( رحمه الله ) والشيخ صالح الفوزان والشيخ صالح السدلان والدكتور ناصر العمر والدكتور ناصر القفاري والدكتور صالح التويجري والدكتور سليمان العودة والدكتور وليد الرشودي والمهندس علي المسند والشيخ علي الخضير والشيخ سليمان العلوان والشيخ خالد الصقعبي والشيخ عبدالكريم الحميد.
وهناك تيار يقف في الوسط يقترب من التيار المجدد تارة ومن التيار المحافظ تارة أخرى (وفقاً لمقتضيات المرحلة ) لكنه في الغالب يحتفظ بمسافة واضحة بين التيارين ومن أبرز رموز هذا التيار الرائدات الإجتماعيات نورة السويلم ولطيفة الحميد وزهوة العوض و الدكتور حسن الهويمل والدكتور عبدالحليم العبداللطيف والدكتور أحمد الطامي والدكتور خالد الشريده والدكتور سعد الشارع والدكتور إبراهيم المشيقح والأستاذ عبدالكريم الطويان والشاعر عبدالعزيز النقيدان .
هل تعلم أن حركة المسرح في مدينة بريدة تعتبر من أعرق وأنشط الحركات المسرحية على مستوى المملكة ، وهي الآن تمثل المملكة في الكثير من المناسبات المسرحية العربية ، كما أن في مدينة بريدة جماعة نشطة للفنون التشكيلية يشترك في إحيائها شريحة عريضة من الفنانين والفنانات التشكيليات . كما حققت أحد الفرق الغنائية في أمريكا يقودها فنان أبوه من أبناء بريدة ومن مواليدها في إحدى المسابقات الغنائية المرتبة 45 على مستوى أمريكا .
هذا على المستوى الثقافي والفني أما على الساحة الإجتماعية فتنقسم المجموعات إلى إتجاهين ، إتجاه يهتم في شئون المدينة التنموية والإتجاه الآخر غارق حتى الهامة في عباب الأعمال الخيرية وتلمس إحتياجات الفقراء والمساكين كالدكتور صالح الونيان والدكتور عبدالعزيز الشاوي والدكتور محمد الثويني والشيخ عبدالله الغضيه .
أما ساحة الرياضة في بريدة فإنها ومنذُ نهاية السبعينات الهجرية لم ينطفئ لها سراج حيث تشهد تنافساً حام الوطيس بين قطبي الرحى ( ناديا الرائد والتعاون – الأهلي والشباب سابقاً ) ومن أبرز حاملي شعلة التنافس ناصر الرشودي وعبدالعزيز التويجري وعبدالله الشريدة وفهد المحيميد وعبدالعزيز المسلم وإبراهيم الربدي وعبدالرحمن السكاكر وسليمان أبالخيل . وأحمد الغراس وعلي الراشد وسليمان العضاض.
وهناك مجموعات ضغط دينية ورياضية وزراعية ، كما أن هناك مجموعات أخرى متخصصة تمارس هوايات إبداعية طريفة مثل هواة التطعيس بالسيارات وهواة الرحلات والقنص وهواة الحمام الزاجل وهواة تربية الأغنام .
إنها المدينة التي لاتتثاءب .
عبدالله الوابلي