تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : اخلاق العقيلات التى تغيب عن كثير من ...................


عسيب
04-07-07, 10:19 pm
الشجاعة. 2-الكرم. 3-الأمانة. 4-الصدق. 5-المروءة. 6-الإيثار. 7-حسن النية. 8-الثقة بالنفس. 9-الحذر. 10-حسن التعامل.


1-الشجاعة:
يتمتع العقيلات بقسط وافر من الشجاعة والجسارة عندما يصل الأمر إلى مجابهة الأعداء وجهاً لوجه، ذلك أنه بحكم احتكاكهم بالقبائل التي يمرون عبر أراضيها وحكم مواجهتهم للمشاكل التي تعترضهم أثناء هذه الرحلات المتكررة عبر السنوات الطويلة التي أكسبتهم القوة والصلابة وثبات الجأش والشجاعة والإقدام لمجابهة ما قد يعترضهم أو يعرض قوافلهم وأموالهم للخطر من الطامعين بتلك الأموال سواء أكانوا من الغزاة الطامعين أو قطاع الطرق المتربصين الذين يعترضون هذه القوافل، وتتفاوت درجة الشجاعة بين شخص وآخر من العقيلات كما قسمها الله سبحانه وتعالى، لكن بصفة عامة فإنهم يتصفون بالشجاعة والإقدام والجسارة، وليس أدل على ذلك من اختراقهم تلك الصحاري الشاسعة بما يوجد بها من المخاطر والمشاق والمتاعب والعوائق البشرية والطبيعية والحيوانية حيناً يقطعون هذه البيد الشاسعة المهلكة بالنهار تحت حرارة الشمس ولهيب السماء وغبار العواصف الرملية وحيناً آخر يقطعون تلك المفازات الموحشة التي لا تخلو من السباع والضواري تحت جنح الظلام الدامس في حالة تغييرهم الطريق فيما لو شعروا بخطر محدق يكتنف الطريق التي يسلكونها، فهم بذلك يقتحمون الأهوال في مجاهل الصحراء التي يخترقونها بقلوب ثابتة وخطوات راسخة ووثبات جادة، فالواحد منهم يسير في هذه الصحاري ثابت الجنان جاد الخطوات إلى الغاية التي يريد الوصول إليها، لا يتقيدون في وقت معين للمسير متى أحسوا بالخطر، يسيرون في أول الليل أو منتصفه أو آخره حتى يتجاوزوا منطقة الخطر الذي قد يعرض أنفسهم وقوافلهم ينفذون ذلك وقلوبهم ثابتة على شجاعتها إذا جد الجد وحصلت المواجهة لكن تداركهم للأخطار المحدقة خير من الوقوع فيها، وبقدر ما يجابهون الطامعين في قوافلهم فهم يجابهون العوامل الطبيعية بكل جرءة وإقدام، لا تحول العواصف الرملية دون اجتيازهم مجاهل الطريق، ولا تعوق السيول الجارفة مسيرتهم متى رأوا أن الوقت مناسب للعبور، ولا تؤثر العواصف الثلجية كثيراً على رحلاتهم وإن عاقتها بعض الوقت لكنهم يتغلبون عليها، يكابدون المشاق وينتصرون عليها ولم يقتصر الأمر على الشجاعة المعهودة بالفعل فإن لديهم كذلك الشجاعة الأدبية حيث يواجهون من يعارضهم بصراحة ووضوح وصدق عما يجب أن يقال حتى ولو كان هذا المعترض في طريقهم ذو سلطة أو جاه، وليس أدل على ذلك من سقوط بعضهم قتلى بغدر الولاة الأتراك أيام الحكم التركي حينما واجهوا هؤلاء الأتراك بعين الحقيقة التي لا يريدها أولئك الحكام الأتراك ويرغبون بدلاً عنها المجاملات والتزلف بالكلام الذي يدغدغ مشاعر أولئك الحكام وعندما واجههم العقيلات بشجاعتهم المعهودة ما كان منهم إلا أن قبضوا عليهم وقتلوهم صبراً كما حدث عام 1258هـ – 1842م حين قتل سليمان الغنام رئيس عقيل أهل العارض وقتل علي السليمان الخالدي رئيس عقيل أهل القصيم الذي قتله محمد نجيب باشا وإلى بغداد من أجل أنه قال كلمة الحق دون محاباة أو مجاملة أما الذين قتلوا وهم يدافعون عن قوافلهم فهم كثير جداً بما لا يمكن حصره كما أن لموقفهم عندما قطعوا الجسور وهم في حي الكرخ ببغداد عندما تسربت إليهم أخبار من أن رئيسهم قد قتله الوالي بدلاً من مقابلته فعمدوا إلى قطع الجسور بين الكرخ والرصافة وسيطروا على ما تحت أيديهم من المدينة حتى تأكد لهم أن رئيسهم لم يمس بأذى وقد أشير إلى ذلك آنفاً مما يدل شجاعتهم، وتنعكس شجاعة العقيلات وإقدامهم على استمرار قوافلهم عبر تلك المفازات الشاسعة عدة قرون رغم ما في هذه البيد المترامية من المخاطر التي مر ذكرها وبهذه الشجاعة الذاتية والمكتسبة من تجارب الحياة التي يتحلى بها العقيلي استمر تدفق قوافلهم في مختلف الاتجاهات داخل الجزيرة العربية وخارجها في الأقطار العربية المجاورة في الهلال الخصيب وما جاوره من أقطار.
2- الكرم:
لا غرو أن يشتهر العقيلات بالكرم، فهم أو غالبيتهم من نجد منبع الكرم فضلاً عن أنهم يجوبون مناطق يتمسك سكانها بسجية الكرم العربي ويكاد الكرم أن يتجسد في أنحاء الجزيرة العربية بصفة عامة لا يستثنى من ذلك جزء على جزء. كما تضفي شمولية الكرم العربي على أقطار الوطن العربي دون استثناء بنسب متفاوتة، لكن من عاش في الصحراء أو قريب منها يختلف عمن عاش على السواحل وقرب البحار والأنهار حيث الطبيعة بتلك الأماكن قد يجد الإنسان أي إنسان ما يأكله ويسد رمقه ويستبقي حياته من صيد البحر والأنهار وما ينمو حولها من أشجار وثمار أما من يعيش في كبد الصحراء وبطون البراري فإنه لا يجد ما يدفع عنه غائلة الجوع ويبقى على حياته إلا أن يطرق بيت شعر يجده في جوف هذه الصحراء ويستضيف أهله ولذلك تجد سكان هذه الصحاري قد انغرست في نفوسهم وسرت مع دمائهم سجية الكرم بطريقة لا إرادية حيث يتوقف على ذلك حياة أو موت الإنسان وتكاد أن تكون في بدايتها تبادل منفعة ومصلحة ثم أصبحت سجية جُبِلَ عليها العربي وعرف بها وعرفت به منذ قرون سحيقة وصارت عنده بمثابة أحد أركان شخصيته وأخلاقه المميزة تأسره بمثلها الإنسانية التي تجعل إكرام الضيف من السمات التي يتحلى بها العربي أينما حل وحيثما رحل، فهو بتقديم ما يملك من طعام وشراب لإنسان محتاج في جوف هذه البراري قد ساهم إنسانياً في إنقاذ حياة هذا الإنسان بالدرجة الأولى، وقدم له من الخدمات من المأوى والدفء ما خفف عنه تعب السفر ووعثائه وأمده بطاقة جديدة تدفعه إلى مواصلة رحلته لبلوغ هدفه وما دام الإنسان في هذه البقعة قد تعود على هذا العمل الإنساني ونشأ عليه وتخلق بهذه السجية فلا أقل بأن يسلك العقيلات هذا المسلك المشرف، كيف لا وهم أحفاد ذلك الجواد الكريم حامل لواء الكرم العربي حاتم بن عبدالله الطائي الذي يقوم لغلامه:
أوقد فإن الليل ليلٌ قر * * * والريح ياواقد ريحٌ صر
عسى يرى نارك من يمر * * * إن جلبت ضيفاً فأنت حر
هذا الخلق الفطري النبيل جبل عليه العقيلات في حلهم وترحالهم فبيوتهم في أماكن تجمعهم مقاصد الزوار والمحتاجين وطالبي الرفد والغرثى ومخيماتهم أثناء رحلات قوافلهم مآل من أخذ منه الجوع والعطش مأخذه حيث يجدون فيها الشبع والري، هذا فضلاً عما يصرفونه على مرافقيهم وما ينفحونهم به من الهبات والعطايا وما يبادلون به شيوخ القبائل من التحف والهدايا وبسبب هذه السجية قد أحبهم الناس كل على قدر استفادته منهم، ولا غرو في ذلك فالكرم قد يغسل الكثير من أوضار النفوس وينظف القلوب من الأوشاب ويمسح مواطن الضغائن ويسمح الخواطر ويستبدل الكره بالمحبة والحقد بالتسامح ويذيب ما في النفوس من رواسب الاحتاك، ولا شك أن هذه السجية قد خدمت العقيلات وسهلت الكثير من طرقهم وأزالت ما يعترض هذه الطرق من العوائق وليس الأمر مقتصراً على الكرم المادي من تقديم الطعام والشراب والنقود والملابس والهدايا وغيرها ولكن هناك ما هو أهم من ذلك ألا وهو كرم الأخلاق الذي يتمثل بالجانب الإنساني المهم حيث يجد الضيف أو القاصد الترحيب والابتسامة على الجبين التي سنتكلم عنها مفصلة في فقرات لاحقة.
3- الأمانة:
تعتبر الأمانة إحدى ركائز التجارة الرئيسة التي تقوم عليها التجارة الناجحة، وبدون الأمانة فمهما ازدهرت التجارة فإن مصيرها إلى الفشل، وليست الأمانة مقصورة على التجارة لوحدها ولكنها على جميع متطلبات الحياة بل ومجرى حياة الإنسان بكاملها لكنها بالنسبة للتجارة شيء أساسي، ذلك لأن التعاملات التجارية الصحيحة لا تقوم إلا عليها، فالعقيلي بحكم عمله في التجارة والنقل تمثل الأمانة لديه أحد عوامل نجاحه الرئيسة إذ أنه يتعامل مع مختلف الطبقات من التجار والمواطنين، ولما لم تكن الكتابة والتدوين منتشرة في ذلك الوقت بدرجة كافية فإن التعامل يتم بالأمانة، يعطي الرجل العقيلي مبلغاً من المال إما ليتاجر به مع تجارته أو ليحضر له شيئاً معيناً بما يسمى "سفر" فيقضي هذا حاجة رفيقة بكل أمانة ودقة، وقد يكون مع العقيلي في صندوقه الذي يحمل به نقوده أو مزادته أموالاً للعديد من الناس كل مال شخص موجود في صرة لوحده بعضهم يكتب عليه اسم صاحبه والبعض الآخر يعرفه بعلامة مميزة فيحضر له ما راد بكل أمانة، وقد شهد للعقيلات بالأمانة من رافقهم في رحلاتهم من مختلف الأمم والأديان رحالة كانوا أم تجاراً، وحكايات أمانة العقيلات كثيرة جداً وكنماذج حية لتكون شاهداً على ما أشرنا إليه في أحد الأيام جاء الشيخ إبراهيم بن ناصر الضبعان رحمه الله وهو أحد العقيلات المتعهدين لنقل الحجاج قاصداً رفيقه الشيخ فالح بن إبراهيم اليوسف رحمه الله ليقترض منه بعض النقود وذلك لشراء حاجته من الإبل لنقل الحجاج فوافى رفيقه فالح مصعداً الشارع يريد فتح دكانه وأخبره بحاجته، فما كان من فالح إلا أن أعطاه مفتاح خزنته وقال له: إنها داخل الغرفة وهذا مفتاح الخزنة فافتحها وخذ ما تريد من النقود وأعد إلي المفتاح، ذهب إبراهيم وأخذ حاجته ولم يسأله فالح كم أخذت وبعد بضعة أيام جاء إبراهيم ومعه المبلغ الذي أخذه فأعطاه فالح المفتاح مرة أخرى قائلاً له: من فضلك أعد المبلغ إلى مكانه لأنني مشغول الآن بمن عندي لم يكن هذا قصده، لكنه لم يرد أن يشعر رفيقه بأنه عرف المبلغ الذي أخذه، أخذ إبراهيم المفتاح وأعاد المبلغ إلى مكانه وأحضر المفتاح دون أن يسأله فالح كم أخذت وكم أعدت ودونما يفصح إبراهيم عن مقدار ما أخذ وما أعاد، وعندما انصرف سأله رفاقه عن الأمر فأخبرهم بالقصة فقال أحدهم: كيف تعطيه مفاتيح خزينتك وبها أموالك ولا تدري كم أخذ ولا كم أعاد فما زاد فالح أن قال: لقد أمنته أولاً وأمنته أخيراً ولا أشك أنه عند أمانتي له، وحادثة ثانية فقد كان الشيخ عيسى بن عبدالله القفاري رحمه الله وأخيه إبراهيم بن عبدالله القفاري مشتركين مع الشيخ عبدالكريم بن صالح السالم البنيان رحمه الله في تجارة فاشتروا ثمانين بعيراً وبقي عند عيسى مبلغ 2000ريال (فرانسي) في بيته وكان المبلغ كبيراً، وحملها ليودعها في دكان الشيخ عبدالكريم فوجده مغلقاً دكانه فأودعها عند الشيخ محسن بن خلف الغصاب رحمه الله لأنها ثقيلة الحمل على أساس أنه سيودعها من يوم غد عند الشيخ عبدالكريم وفي اليوم التالي نسي عيسى أنه وضع الدراهم عند محسن بن خلف الغصاب وجاء إلى الشيخ عبدالكريم فقال له أعطني الألفي ريال التي أتيتك بها أمس فلم يشأ الشيخ عبدالكريم أن يكذب رفيقه وأيقن أنه واهم في الأمر فلعله أن ينتبه ويتذكر أو أنه بنفسه قد نسي الموضوع فما كان منه إلا أن نقد عيسى مبلغ 2000ريال (فرانسي) خرج بها عيسى واشترى بها زيادة إبل وبعد مضي ثلاثة أيام مرَّ عيسى من عند دكان الشيخ محسن بن خلف الغصاب فناداه محسن وقال له: أما تريد دراهمك التي وضعتها عندي منذ ثلاثة أيام؟ عند ذلك ذكر عيسى الأمر فحمل المبلغ إلى رفيقه عبدالكريم واعتذر إليه وقال له: لماذا لم تنبهني على ذلك أو تعارضني فلعلي أفطن لمن أودعتها عنده؟ فقال له عبدالكريم: لو عارضتك وأنكرت عليك قد لا يدرك الناس ذلك وربما اتهموني بالتلاعب والخيانة لأن المال بيننا مشترك وكل يوم تأتي إلي بمبالغ مماثلة، وقصة ثالثة وهي أن زيد بن مبارك القريشي رحمه الله قد أعطى إبراهيم بن عبدالله القفاري ناقة يذهب بها مع قافلته ليحضر عليها كيل لبيته وأعطاه مبلغ عشرين ريالاً (فرانسياً) وبعد أن سارت القافلة بيومين طرأ على زيد أن يلحق بالقافلة بنفسه ومعه خمسة من الإبل وبالفعل لحق بالقافلة وأثناء استراحة القافلة أخرج زيد ستة جنيهات ذهب و100 ريال (فرانسي) يريد أن يعطيها إبراهيم ليضعها في "مقفلته" وهي المزادة التي توضع فيها النقود لكن زيداً وضع هذه النقود عند محط راحلته وسهى عنها وقام إلى المجموعة الذين كانوا عند النار وسمروا ثم نام القوم قليلاً ثم نهضوا مبكرين مع أذان الفجر تحت غلس الليل فأدوا الصلاة وساروا إلى هدفهم وعندما وصلوا إلى مدينة النجف "المشهد" بالعراق قال زيد لإبراهيم: أعطني المبلغ الذي أعطيتك فبحث إبراهيم عن المبلغ في صرائر النقود فلم يجد لزيد سوى 20 ريال مكتوب على صرتها اسمه، لكن زيداً قال إنني أعطيتك ستة جنيهات ذهب و 100 ريال بمراحنا بالمكان الفلاني، فما كان من إبراهيم الذي لا يملك مثل هذا المبلغ إلا أن اقترض من التاجر الذي يتعاملون معه في المشهد الذي يدعى "عبد شنون" المبلغ المطلوب وأعطاه لرفيقه زيد وكأن شيئاً لم يكن وفي طريق عودتهم بعد حوالي شهر مروا في طريقهم بكامل القافلة بما فيهم الشيخ زيد على مراحهم تلك الليلة المعلومة لأخذ حاجة قد نسوها هناك وجاءوا بقرب مبرك مطية زيد في تلك الليلة فوجدوا النقود في مكانها كما هي ستة جنيهات ذهب و 100 ريال فرانسي فأخذها زيد وسلمها لإبراهيم وهو يعتذر إليه وعندما قال له: لماذا وافقتني على إعطائي المبلغ فوراً قال له رفيقه إبراهيم: أنا أمين هذه القافلة كلها وأمانتي أعز علي وأغلى من أن يتفوه أحد بكلام يمس سمعتي وأمانتي وإلا فإنني متأكد من أنك لم تعطني شيئاً غير ما أعطيتني في حائل وهي 20 ريالاً، هذه النماذج الثلاثة من مئات بل آلاف القصص التي تحدث في مجال الأمانة مما قد لا يتسع المجال لذكره، فالأمانة كانت إحدى الركائز التي يعتز بها العقيلي وهي من مقومات شخصيته ومن أمانة العقيلي ترسخ الثقة فيه من التجار الذين يتعاملون معه في بلده الأم وفي الأقطار العربية التي يتاجر فيها وليس الأمر مقتصراً على تعامله مع التجار ولكن يتعداهم إلى المواطنين أنفسهم فهذه الأمانة هي رأس ماله الذي يتاجر به وموضع الثقة فيه أينما حل وحثما رحل.
4- الصدق :
الصدق والأمانة صنوان متلازمان لا ينفرد أحدهما عن الآخر، قال أحد المؤرخين: لم تعرف المنطقة العربية عن العقيلات إلا الصدق والإخلاص في العمل وقد شهد للعقيلات من رافقهم من النصارى واليهود رحالة كانوا أم تجاراً فضلاً عن المسلمين شهد هؤلاء للعقيلات بحسن الخلق وبالعقل الراجح والذكاء المتقد والشجاعة والأمانة والصدق وغير ذلك من صفات المسلم الحق والعربي الصميم، وتصف بلانت: العقيلي فرحان الذي رافقها وزوجها أثناء رحلتهم إلى نجد في مطلع القرن الرابع عشر ووصولهم إلى حائل فتقول: إنه أحسن العاملين معهم أخلاقاً وأعلاهم همة وأكثرهم أهلاً للثقة لصدقه وإخلاصه. ويصف زوجها: زايد بقوله: ذلك البدوي الذي دخل في خدمتنا بأنه رجل خيال أخلاق وذكاء دفاق وهو شأنه شأن بدو نجد شاعر بالسليقة صادق فيما يقول وهو مثلهم مغرم في رحلاتهم عبر الصحراء ، فلمسوا منهم أخلاق المسلم الحق الصادق في قوله وفعله المخلص لعمله وما التزم به الأمين على ما أتمن عليه من أموال الناس ولا غرابة في ذلك فتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحث على الالتزام بمثل هذه الأخلاق السامية وأخلاقنا العربية الأصيلة تعتبر منبعاً ثراً لمثل هذه الأخلاق الحميدة فالصدق في القول من صفات العربي منذ الأزل، يقول الحق ولو على نفسه ثم جاء الإسلام الحنيف وعزز هذه الفضيلة وأشاد بها ورفع من قدرها وجعلها إحدى ركائزه وامتدح الصدق والصادقين في آيات كريمات تفوق الحصر ولهذا فلا غرو من أن يصبح العقيلات وهم من العرب المسلمين أن يصبحوا صادقين وبهذا الصدق في القول والفعل كسبوا ثقة الناس، كسبوا ثقة من يتعاملون معهم تجارياً ومن يتعاملون معهم محاربين ومدافعين كما حصل لهم مع الولاة الأتراك وثقة من يستعينون بهم على حراسة قوافلهم التي تحمل الأموال الطائلة وثقة من يعبرون معهم أحشاء الصحراء من الرواد الأجانب من تجار ومكتشفين وثقة الحجاج الذين يحملونهم عبر تلك المسافات الشاسعة الجرداء دون حماية من أحد سواهم، وثقة المواطنين أنفسهم الذين يتعاملون معهم في التجارة وغيرها، كل هذا حصل بسبب الصدق الذي اتصف به العقيلات، فالواحد منهم إذا قال قولاً التزم به، لذلك فإنهم يأنفون من الكذب ويحاربونه ويستنقصون الرجل الذي يتصف بالكذب ويستبعدونه من قوافلهم ويتخلصون منه بأي وسيلة ولذلك فإن هذا الجانب وأعني الصدق مهم جداً يحرص العقيلي كل الحرص على ألا يصدر منه أي حديث كاذب حتى لو خسر الكثير من ماله حتى لا يؤثر عنه أنه كاذب فيضر ذلك بسمعته وهي أغلى ما لديه وتعتبر إحدى ركائز تجارته ورأس ماله الذي يتاجر به، فبدون الصدق والأمانة والإخلاص لا يمكن لأي إنسان أن ينجح في عمله أياً كان فم بالك بالعقيلي الذي تتنوع خدماته للآخرين من تجارة إلى حراسة إلى مناصرة وغير ذلك من الخدمات التي يكتسب العقيلي منها لقمة العيش أو ينمي بها تجارته ويزيد رأسماله فلا مناص والحال كذلك من التزام الصدق في القول والجد والإخلاص في العمل مما جعل حتى الأجانب يضعون كامل ثقتهم بالعقيلات لصدقهم وإخلاصهم ويروى أن القائد الإنجليزي "جلوب" أو "أبو حنيك" عندما كانت بريطانيا باسطة نفوذها على الأردن لا يتخذ حرسه الخاص وحرس المواقع الحساسة والمناطق المهمة إلا من العقيلات وذلك بسبب صدقهم وإخلاصهم وتفانيهم لدرجة الاستماتة في أداء واجباتهم على الوجه الأكمل، ومن قبل هذا الإنجليزي الحكام الأتراك للسبب نفسه ويتضح ذلك في الفصل الخاص بهذا الجانب من هذا الكتاب فالصدق ميزة من مميزات العقيلات وكان أحد أسباب نجاحهم في عملهم خلال بضعة قرون من الزمن.
5- المروءة:
المروءة هي المبادرة بالعطاء والبذل وصنع المعروف والنجدة قبل أن تسأل، والمروءة والنخوة توأمان تسند إحداهما الأخرى وتدعمها غير أن المروءة العطاء قبل السؤال والنخوة العطاء بعد السؤال أياً كان هذا العطاء والمروءة ليست مقتصرة على العقيلات التي زادها الإسلامي ترسيخاً بامتداحها والحث عليها والمروءة هي إحدى الركائز التي بنى العقيلات عليها مجدهم الجاري وعلاقتهم بالآخرين وتعتمد المروءة على عمق النظرة وشموليتها وسعة الأفق ورقة الإحساس وإنكار الذات والابتعاد عن الأنانية بحيث يتصور الإنسان نفسه بمكان هذا الإنسان الذي يجب مساعدته وإنقاذه فيبادر إلى مد يد المساعدة إليه فوراً قبل أن يطلب منه ذلك، يتخيل أن هذا الإنسان بحاجة إلى طعام أو شراب ونحوه فيبادر بتقديم ما يحتاج إليه بقدر استطاعته بقصد إنقاذ حياته أو فك أزمته وضائقته لا يريد من ذلك جزاء من أي نوع وإنما كان ذلك من وحي ضميره الحي وتلبية لنداء مروءته، حدثني الشيخ إبراهيم بن عبدالله القفاري أحد العقيلات المذكورين في هذا الكتاب يقول: في إحدى رحلاتنا من العراق إلى حائل ونحن نسير في يوم عاصف شديد الحرارة لمحت من بعيد بجانب أحد عروق الكثبان الرملية سمارة بدا لي أنها تتحرك أحياناً وتسكن أحياناً أخرى وظننت في بداية الأمر أنه خلق ثوب تحركه الرياح، لكني لمحت غير بعيد عنه سمارة أخرى فزاد شكي وأردت أن أقطع الشك باليقين فقصدت المكان على عجل وحذر وعندما اقتربت منه تبين لي أنه إنسان يرفع رأسه حيناً ويخفضه حيناً آخر فأسرعت إليه فوجدته رجلا قد ارتمى على الأرض وقد كاد أن يهلك من شدة العطش وهو في الرمق الأخير ينازع سكرات الموت يغيب في غيبوبة تارة ثم ينهض تارة أخرى وغير بعيد عنه مزادته فركضت بأقصى سرعتي نحو القافلة واستدعيت أحد رفاقي وأحضرنا الماء وعكة السمن وبدأت أقطر في حلق الرجل قطرات من الماء أتبعها قطرات من السمن حتى عادت إليه روحه وهكذا قطرات ماء ونقط سمن وشيئاً فشيئاً حتى عادت إليه الحياة فأعطيناه جرعة ماء وتلا ذلك جرعة أخرى عادت إليه الحياة تماماً وحملناه معنا إلى مورد في الطريق واتضح لنا أنه رجل قد ذهب خلف بعيره فنفذ ماؤه واسمه عبدالله الحواس من أهل القصيم وعلى المورد وجدنا رفاقه وتركناه عندهم وبعد مضي بضع سنين جاء يسأل عني وقد أحضر لي معه مكافأة مالية جزاء إنقاذي له فرفضتها، عند ذلك شكرني وعاد إلى أهله في القصيم وقصة أخرى رواها لي أحد العقيلات وهو الشيخ يوسف بن صالح السويطي الذي قال إنه في عهد السيارات كنت قد ذهبت إلى بلدة أم القلبان المعروفة في النفود إلى الشمال عن حائل وكان الطريق إليها صعب بسب رمال النفود وفي طريق العودة بعد المغرب في ذلك اليوم الصيفي الحار لمحت على نور السيارة سمارة ترتفع وتنخفض فاقتربت إليها وعلى الفور رأيت رجلاً قد أوشك على الهلاك من شدة العطش فنزلت إليه وبدات أقطر في حلقه حتى عادت إليه الحياة وإذا هو خليف الشمري الذي هربت زوجته منه تريد أهلها في مدينة موقق وجاء على أثرها ونفذ ما معه من الماء في الحال ركب يوسف سيارته وأمضيا تلك الليلة بطولها يبحثان عن الزوجة التي ربما لاقت نفس المصير لكنهما وجداها عند أحد أحياء العرب بالقرب من تلعة شوط وبعد إصلاح أمر الرجل وزوجته أعادهما يوسف إلى بيتهما ورفض أن يقبل أي أجرة أو جزاء عن ذلك. وأمثال هذه القصص كثير تملأ الصفحات من إنقاذ النفوس من الهلاك سواء أكان ذلك بفعل العطش أو بسبب الجوع أو بسبب الضيم والقهر في بعض المواقف تدفع الإنسان مروءته إلى إنقاذ هذا الإنسان والعقيلات يتصفون بالمروءة لكثرة تعاملهم مع غيرهم في رحلاتهم بقوافلهم التي تجوب تلك الصحاري والقفار والفيافي المهلكة وحالة كهذه لابد أن يكون لهم من المروءة النصيب الوافر وبسبب ما لديهم من هذا الجانب فقد نجحت مسيرتهم خلال تلك القرون.
6- الإيثار:
الإيثار على النفس أمر اشتهر به العرب منذ زمن بعيد وما قصة كعب بن أمامة الأيادي الذي أعطى حصته من الماء لرفيقه النمري ومات هو عطشاً هذه القصة ليست غائبة عن الأذهان، وغيرها آلاف القصص المشابهة لها ولكنها للأسف الشديد لم تدون، والعقيلات الذين يجوبون تلك الفيافي الشاسعة لابد وأنهم قد واجهوا الكثير من المواقف المشابهة لقصة كعب ورفيقه النمري فقد كانوا يدفنون قرب الماء تحت الكثبان الرملية ويضعون حولها علامات يعرفونها من باب الاحتياط لمثل تلك المواقف التي تصبح قطرة الماء لا تقدر بثمن ويكون شرب الماء في مثل هذه الحالة بالحصة وبمقدار معين يضعون حصاة في الإناء ويصبون الماء حتى تنغمر هذه الحصاة ويشرب كل واحد منهم هذا المقدار بالسوية، وهنا تبرز سجية الإيثار على النفس حين يمنح الواحد منهم حصته لرفيقه إذا كان شيخاً كبيراً أو له وضع خاص وينطبق هذا الأمر على الطعام لكن الطعام أقل خطراً من الماء سيما في تلك المهالك والمظامئ ويتصف العقيلات بهذه الصفة الإيثار على النفس من شيخ القافلة أو رئيسها إلى أدنى واحد في تنظيمها يقول أحد الرواد الأوربيين الذين رافقوا العقيلات في أسفارهم: الفقراء من العقيلات قانعون والأثرياء غير مبذرين فلا يظهر الثراء في لباسهم ولا في أية ناحية من نواحي حياتهم يسير المرافقون منهم للإبل حفاة دون سراويل وصدورهم عارية يقطعون الطريق كله مشياً على الأقدام ويمد شيخ القافلة عقيلاته طول فترة الرحلة. يتحف الشيخ هذه المجموعة بـ"البلاو" وهو الأرز المطبوخ مع السمن مرة في اليوم كما يمدهم الشيخ بكسر الخبز الجاف (يقصد الكليجا) والبصل بجعلونه في جيوب ثيابهم يأكلون منه خلال مسيرتهم الشاقة الطويلة كلما عنَّ لهم ذلك فالرفاهية أمر غريب على الصحراء وساكنيها الذين لا يدينون برزقهم إلا لخالقهم وليس هناك فرق كبير في السلوك والمظهر بين شيخ القافلة وأدنى الجمالين المرافقين لهم وكلهم فخور بهويته العربية، هذا الكلام من رجل أوربي يدل على بساطة حياة العقيلات فلا شيخ القافلة يتميز عن غيره من رجالها بشيء ظاهر فكلهم متساوون مظهرياً في عين ذلك الأوربي وما خفي عنه أعظم من درجة الإيثار، كل واحد منهم قد يؤثر رفاقه على نفسه في الأكل والشرب والمنفعة، ومن هذا المنطلق تتساوى النفوس ومن قصص الإيثار أن الشيخ عبدالعزيز بن سليمان العريفي كان أول ما تصل قافلته القادمة من العراق إلى حائل تحمل الأطعمة وكان صاع الأرز العراقي "التمن" يساوي الشيء الكثير كان هذا العقيلي يعمد رأساً إلى حمل بعير كامل من أجود أنواع التمن الذي أحضرته قافلته ويوزعه على جيرانه وعلى المحتاجين ممن يعرف من أقاربه وغيرهم كل بقدر حجم عائلته وصادف ذات مرة أن وصلت القافلة وهو غائب فتم توزيع حمل بعير ولكن من نوع أقل جودة فلما حضر وعلم بذلك بكى، وعاد فوزع حملاً آخر من النوع الجيد الذي اعتاد توزيعه، هذا من باب الإيثار والإحسان إلى الفقراء الساغبين الذين هم بحاجة ماسة إلى لقمة العيش وغيره كثير ممن هم على شاكلته وإنما أوردت ذلك على سبيل الاستشهاد، هذه النماذج التي سقت شيئاً منها وبقي الكثير الكثير لم يدون مما يمتاز به العقيلات من الإيثار على النفس مثل مراعاة أن يركب الكبير أو الصغير أو المريض أو المرأة والشاب أو الفتى يسير على قدميه، ومنها تقديم الطعام أو الشراب للأكبر سناً وإيجاد الراحة له وغير ذلك من الأمور التي تحكمها وتنظمها عادات العقيلات وتقاليدهم وترتكز على محور الإيثار على النفس في المأكل والمشرب والمركب والمجلس وغيرها وبذلك كانت لهم مكانتهم التي احتلوها بفضل هذه الميزة.
7- حسن النية:
حسن النية هي منافات الشك واستبعاد حدوثه وأخذ الأمور حسب النية التي يقطع عليها القلب، وقد جاء في الأثر "على قدر نياتكم ترزقون" أو ما معناه ويقول المثل" "النية مطية" وقال الشاعر الشعبي إبراهيم الداوودي:
النون نيتك الذي في ضامرك * * * تسري وهي تضرب لك المصباح
من هذا المنطلق اتصف العقيلات بحسن النية وصفاء الطوية لم يذكر في تاريخ العقيلات الطويل أن واحداً منهم نقض اتفاقاً أو حل بيعاً حتى لو كلفه ذلك خسارة كبيرة في الوقت والجهد والمال، هذه صفة من صفاتهم فهم رجال يسيرون على نياتهم يحترمون كلمتهم لا يتراجع الواحد منهم عن موقفه البناء، يعتبر الكلمة التي قالها أقوى من أي ميثاق وألزم من أية اتفاقية يوقع عليها، ولذلك فإن الكلمة الواحدة من أحدهم تعد بمثابة الاتفاق يلتزم بها اشد الالتزام يحترمها غاية الاحترام يشتري الواحد منهم الصفقة الكبيرة من التجارة أو يقوم بتسيير قافلة كبيرة تحتوي على آلاف الأفراد بكلمة من تاجر دونما أية مكاتبة أو تدوين، يبيعون ويشترون بمئات الآلاف من الجنيهات الذهبية والريالات الفضية يحصلون على أرباح مجزية ويتحملون خسائر فادحة بمجرد كلام غير مكتوب يسهل التراجع عنه والروغان والزوغان منه لكنهم لا يفعلون ذلك استناداً إلى نياتهم المتينة الصادقة من كل غش ويراقبون ربهم ويخشون سطوته لمن أخلف النية أو خان، فالنفس البشرية لا أحد يزكيها من الزلل، فقد يوجد من بين العقيلات من لديه بعض الانحراف لكن سرعان ما ينكشف أمره ويصبح منبوذاً بين رفاقه في هذا الوسط الذي يمتاز بهذه الظاهرة الجيدة وبسبب حسن نياتهم أمكنهم التعامل مع مختلف المستويات في مجتمع البادية الذي تسود فيه روح القبلية والأمية وهي عدم القراءة والكتابة، وإنما وثائق الكتابة بينهم هي تلك الكلمة التي ينطق بها اللسان وترسخ جذورها في القلب، كما أن بإمكانهم التعامل مع من يجيد القراءة والكتابة وهذا أحد الرواد الغربيين الذي سافر أكثر من مرة مع العقيلات يقول "دزني": كنت متخوفاً عندما سافرت مع العقيلات لأول مرة فلم أسر معهم إلا بعد أن دونت اتفاقاً مترجماً دونته بنفسي ووقع عليه رئيس القافلة دون اكتراث وعاملوني معاملة أحسن مما جاء في الاتفاق وصار الاتفاق لا قيمة له وصرت في المرات التالية أسافر معهم دون اتفاق فأجد بنفسي منهم المعاملة الحسنة والاحترام المتوقع وفوق ما أتوقع وهذا عائد إلى طبيعتهم وحسن نيتهم، وقال غربي آخر: ما كان أشد عجبي عندما رأيت رئيس قافلة ضخمة تعدادها حوالي ثلاثة آلاف بعير وهو لا يقرأ ولا يكتب ومع هذا يجيد ضبط أموالها ويعطي كل ذي حق حقه غير منقوص. وحسن النية يرتكز على مراقبة الله عز وجل والخوف من العقوبة لمن غير نيته أو حاد عن طريق الصواب فالمسلم الحق دائماً يجعل الله نصب عينيه يراقبه في جميع أعماله وأقواله وهؤلاء نشأوا على فطرة الإسلام ولم يتعلموا طرق المراوغة والاحتيال أو قلب النية والتراجع عما قطع عليه قلب الواحد منهم وذلك بفضل الله ثم بفضل الفطرة التي جبلوا عليها وبفضل البيئة التي نشأوا فيها والمجال الذي تعاملوا فيه وبهذه الصفة شقوا طريقهم ونجحوا في تجارتهم وتعاملهم مع الآخرين في مختلف الأقطار العربية التي عملوا فيها حتى اشتهروا بهذه الصفة وهذا نموذج مما حصلت فيه حسن النية حينما كان العقيلي سليمان بن إبراهيم العميم رحمه الله في مدينة حائل إبان الحرب العالمية الأولى عام 1333- 1337هـ-1914- 1918م قبيل اندلاع الحرب بيوم أو يومين مر عليه في دكانه أحد العراقيين المقيمين في مدينة حائل آنذاك "المشاهدة" واحدهم "مشهدي" نسبة إلى مدينة النجف أو "المشهد" مر هذا المشهدي على سليمان وسام منه عدة أصناف من لفافات القماش "طاقات" بسعر كذا واستمرت المساومة بينهما حتى دفع المشهدي سعراً نوى سليمان أن يبيعه به عليه لكنه لم ينطق بكلمة البيع غادر المشهدي دكان سليمان وبعد ثلاثة أيام أو أربعة بعد اندلاع الحرب ارتفعت أسعار السلع كلها بما في ذلك القماش أضعافاً مضاعفة ومر المشهدي من عند دكان رفيقه فناداه وقال له: لقد نويت بيعك القماش بالسعر الذي سمته فيه فقال المشهدي: صحيح أنني سمت منك ذلك قبل أربعة أيام والآن قامت الحرب وارتفعت أقيام السلع وزاد سعره إلى أضعاف ما كان عليه يقول ذلك وهو يحسب رفيقه لا يعرف هذا، لكن رفيقه قال: أعلم ذلك ولكني نويت البيع عليك حين كنت بدكاني ولذلك لم أتصرف بالقماش والمال مالك إن أردته وإن لم ترده فهذا أمر آخر فأخذ المشهدي القماش بسعره الذي سامه فيه قبل ارتفاع قيمة السلع وهكذا نرى ثبات العقيلات على حسن النية غير أنهم لم يسلموا من بعض المقالب ولكن نادراً ما يحصل لهم مثل هذه المقالب لأن من يتعاملون معهم يخشون عاقبة ذلك لاستمرار تعاملهم معهم اللهم إذا حصل مثل هذا الفخ لمرة واحدة من رجل لا يتعامل مع العقيلات الذين يتمسكون بصفة حسن النية في تعاملاتهم.
8- الثقة بالنفس:
الثقة بالنفس عماد نجاح الإنسان في أموره الحياتية وثقته بالآخرين سر نجاحه في التعامل معهم وثقته بالله وهي أساس كل أعماله، فإذا كان الإنسان واثقاً بربه عز وجل فإن الله سيوفقه في أعماله كما جاء في الحديث الشريف: "أنا عند حسن ظن عبدي بي" أو ما في معناه، وإذا وثق بالآخرين من منطلق ثقته بنفسه مع توفيق الله له جزاء حسن ظنه فيه فإن النجاح سيكون حليفه بإذن الله من هذه الأمور التي جعلها العقيلات نصب أعينهم في تعاملاتهم التجارية والخدمات التي قاموا بها طيلة فترة تواجدهم على الساحة لبضعة قرون فكان الواحد منهم يتكلم عن ثقة وصدق ويأخذ كلام رفيقه عن ثقة بأن ما قاله هو عين الحقيقة التي لا ينافيها شيء آخر فكانت المبادلات التجارية تدل على الثقة يقول أحدهم الكلمة الصادقة المليئة بالثقة والاعتزاز بالنفس يبيع الصفقة الكبيرة أو يشتريها بكلمة ثقة حتى لو ترتب على هذه الكلمة الخسارة الفادحة أو قاصمة الظهر لا يزوغ عنها ولا يروغ بل يتحمل ما يترتب على كلامه، يذكر أحدهم عشرات أو مئات الإبل لبيع ويصفها بألوانها وأحوالها وأسنانها وسمنها وهزلها فيشتريها منه رفيقه دون أن يراها وغنما يأخذها حسب الثقة بكلام رفيقه وعند معاينتها يجدها كما وصفها رفيقه إن لم تكن أحسن مما وصف يأخذ النصح من رفيقه بشراء حاجة أو سلوك طريق أو تجنبه واثقاً من كلام رفيقه الذي يؤمن إيماناً تاماً أنه لن يخدعه إلا ما ندر وهذا لا حكم له، أما الغالبية منهم فإن كلام الواحد منهم يمثل الثقة بعينها التي لا يحيد عنها أحد، يأخذ أحدهم من رفيقه المبلغ من المال ويسأل رفيقه عن مقداره فإن قال له إنه كذا أخذه دون أن يعده واعتبر كلام رفيقه صحيحاً، وإن قال لا أعلم كم هي وعليك أن تعدها فعدها اعتبر صاحب المال الأول كلام رفيقه لا شائبة فيه، وما مر علينا من القصص التي جرت على العقيلات في حوادث سابقة تعطي البرهان القاطع على صحة ما نقول، فلو أن الشيخ فالح بن إبراهيم اليوسف لم يثق برفيقه إبراهيم بن ناصر الضبعان رحمهما الله لما أعطاه مفتاح خزنته التي يوجد بها الكثير من النقود وقال له: خذ حاجتك دون أن يسأله عن مقدار حاجته أو أن يكتب عليه كتابة أو وثيقة وعندما أعاد المبلغ أعطاه ذات المفتاح وقال له: أعد ما أخذت إلى مكانه دون أن يسأله عن مقدار ما أخذ ومقدار ما أعاد ولم يكن تعلله بالانشغال هو الانشغال فعلاَ ولكن تجنباً لإحراج رفيقه وحتى يكون فعلاً عند محل ثقته فيه، ولو لم يكن الشيخ عبدالكريم بن صالح السالم رحمه الله واثقاً من كلام رفيقه عيسى بن عبدالله القفاري رحمه الله لما أعطاه مبلغ الـ2000 ريال فرانسي لمجرد أنه طلب منه هذا المبلغ ولولا ثقة الشيخ إبراهيم بن عبدالله القفاري بكلام رفيقه زيد بن مبارك القريشي رحمه الله لما أعطاه الجنيهات الذهبية والريالات الفضية كما مر بنا في قصص سابقة في فقرة الأمانة وهذه القصص تعتبر نماذج لتلك الثقة التي كان يتصف بها أولئك الرجال وهناك مئات بل آلاف القصص من هذا القبيل التي لا يتسع المجال لذكرها وربما كان هناك ما هو أعمق منها وأكثر غرابة، فقلما يكتب العقيلات بين بعضهم البعض اتفاقيات أو تعهدات تجارية أو ما بينهم وبين من يتعاملون معهم وإنما يأخذون معظم أمورهم حسب الثقة المتبادلة سواء أكان ذلك في التجارة أو النقل أو الخدمات، حتى أن الرواد الغربيين من مستشرقين وتجار وغيرهم حينما عرفوا هذه الصفة عندهم لم يعودا يهتمون بكتابة مثل تلك الاتفاقيات والتعهدات إلا إذا كان ذلك لأول مرة قبل أن يتعاملوا معهم وحينما عرفوا حقيقة أمرهم صاروا يذهبون معهم ويعودون دون تعهدات ويكاد ينطبق هذا الأمر على الحجاج فقد كانت ثقتهم بناقليهم كبيرة اشتهر عدد كبير منهم بهذا الجانب وتعالم به الحجاج فكانوا يأتون إلى أولئك الأشخاص من باب الثقة بهم وهكذا نجد العقيلات قد نجحوا في مجالات عملهم بالثقة وحسن النية وهذا لا ينفي وجود بعض الشواذ ولكنها قليلة لدرجة تصل إلى الندرة.
9- الحذر:
الحذر من متطلبات الإنسان وخاصة من يعبرون الصحاري والقفار، ليس الحذر من الوحوش المفترسة بقدر الحذر من الإنسان ذي النفس المتوحشة الذي يتسم بالأخلاق الشريرة فيغتصب حقوق الآخرين وربما استباح دماءهم، ولهذا فالحذر من أهم متطلبات الإنسان عامة والعقيلات بصفة خاصة ولهذا نجدهم رغم أخلاقهم الطيبة بينهم وبين من يعرفون إلا أنهم حذرين أشد الحذر من الغرباء وذلك للمحافظة على أرواحهم وأموالهم وممتلكاتهم وأموال من اتمنوهم على أموالهم، ورغم أنهم يتحركون بقوافل كبيرة أو متوسطة أو صغيرة إلا أنهم يضعون الحذر نصب أينهم سواء في الطريق الذي يسلكونه أو الأشخاص الذين يرافقونهم أو الأفراد الذين يسيرون بمحاذاتهم، فإنه من تكوين رجال القافلة الأساسي كما مر بنا عناصر الحذر وهم رجال الطلائع أو السبور أو "القلوط" وهم الذين يسبرون الطريق الذي ستسلكه القافلة ليروا ما إذا كان آمناً وخالياً من قطاع الطرق أو غزوات السلب والنهب، هؤلاء الرجال يمثلون عن القافلة الحذرة التي تحرص أشد الحرص على أمان مسير القافلة وسلامة رفاقهم وضمان أموالهم وما دام في القافلة تلك العيون التي تراقب طريق القافلة أثناء سيرها وتكون أمامها مسافة كافية لاتقاء أي خطر يكمن في الطريق فيتخذ رئيس القافلة حذره قبل الوقوع فيه فيعمد إلى الإجراءات الكفيلة بتفاديه، سواء بتجنب الطريق كله إن كان هذا الخطر غزواً كبيراً من قبيلة معادية غير القبائل التي يوجد لها معرفين مع القافلة، أو إذا كان الخطر مجموعة أفراد من قطاع الطرق يمكن التغلب عليهم أو إقناعهم ولم تقتصر حراسة القوافل على هؤلاء الفئة، بل إن الحراسة تكون عن يمين القافلة ويسارها وأمامها وخلفها كما مر بنا وتستمر الحراسة في الليل عند مبيت القافلة أو راحتها، هذا الحذر فيما يتعلق بالقافلة، أما الحذر عن تعامل العقيلات مع من يتخذونهم حراساً ومرافقين فإنهم يختبرونهم ليعرفوا درجة حذرهم وحذقهم ونباهتهم قبل أن يتخذوا منهم رجالاً لحراستهم أو مرافقتهم، ومتى عرفوهم ووثقوا بهم أصبحوا من رجالهم تحت التجربة لعدة سفرات حتى يثقوا بهم تماماً ومن ثم يصبحوا من حراسهم ومرافقيهم على الدوام ويدفعون لهم أجوراً طيبة وقد حدثني الشيخ يوسف بن صالح السويطي عن مثل هذا الاختبار، قال في أول عملي مع العقيلات كنت شاباً في مقتبل العمر لم يطر شاربي فعرض علي عقيلي أن أصاحبه ضمن رجال قافلته إلى عمان وذهبنا إلى منزله وكانت إبله مناخة ومعقلة في ساحة أمام منزله منها الخلفات المعدة للحليب ومنها الركاب المعدة للركوب ومنها "الزمَّل" المعدة لحمل الأثقال، وبعد أن تناولنا طعام العشاء قال لي عليك أن تنام عند الإبل في الساحة حتى الصباح، فاضطجعت بمكان مرتفع أستطيع منه مراقبة الإبل كلها وهجعت الناس وبعد منتصف الليل، رأيت شخصاً يتسلل إلى الإبل تحت جنح الظلام فمكثت قليلاً لأتحقق ماذا سيفعل، وبعد لحظات عمد إلى إحدى النياق وحل عقالها وأثارها من مبركها فأسرعت إليه وإذا معه إناء يريد أن يحلب فيه الناقة وهو يحاول أن يحل صرارها فقلت له: مكانك ماذا تفعل، وتقدمت منه على حذر، عند ذلك قال: "عفيت ولدي" أي عافاك الله، وإذا هو العقيلي نفسه صاحب الإبل يريد أن يختبر حذري ومدى انتباهي لإبله، وعند ذلك أناخ الناقة وتوليت عقلها ومن ثم قفل عائداً إلى منزله وعدت إلى مكاني بقيت فيه يقظان نائم، بمثل هذا الاختبار المبدئي للفرد والأفراد العاملين مع العقيلات فما بالك بالتجار وأصحاب الخدمات الذين يتعاملون معهم فإذا اطمأن إليه حاز على ثقته وتقديره، وعلى هذا فإن العقيلات يأخذون بالحذر في طريقهم التي يسلكونها بما أعدوا لها من عدة وفي من يتعاملون معه باختبارهم أثناء التعامل معهم.
10- حسن التعامل:
حسن التعامل إحدى الركائز الأساسية لنجاح التجارة وغيرها من شئون الحياة ولذلك نرى العقيلات اتخذوها مقصدهم بدافع ديني وأخلاقي فقد ورد في الحديث الشريف عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "المسلم سمح إذا باع سمح إذا اشترى سمح إذا قضى سمح إذا اقتضى" ومن منطوق هذا الحديث كانت السماحة تمثل معظم تعاملاتهم التجارية والخدمات التي يقومون بها، فالسماحة والصدق من سمات حسن التعامل الذي نجح بسببه العقيلات إضافة إلى المزايا الأخرى، كان الواحد منهم إذا باع على رفيقه وهو يثق به لا يطالبه أن يسدد له ماله حاضراً إن لم يكن عنده ما يكفي وإن سدده شيئاً من حقه وبقي عليه شيء فإنه لا يضيق عليه من أجل تسديده في الحال بل يمهله فترة حتى تتيسر أموره ولو بعد حين، وإذا حصل لرفيقه خسارة ما، في نائبة من نوائب الدهر فإنه يمهله حتى يستعيد عافيته ويعوض عن خسارته وربما سامحه عن جزء من حقه وربما عن حقه كاملاً، وإذا كان هذا العقيلي متاجراً بمال رفيقه العقيلي الآخر على الطريقة المعروفة عندهم "بالبضاعة" وهي أن يأخذ العقيلي المبتدئ من العقيلي التاجر الكبير شيئاً من المال ويتاجر له بنفسه وعلى مسئوليته على أن يكون الربح مقاسمة بالنصف فيما بينهما وراس المال لصاحبه، فمن التاجر الكبير المال ومن العقيلي الصغير الجهد والحركة فإذا حصل أن العقيلي المبتدئ تعثر في طريقه ووثق التاجر الكبير إنما حصل ليس بسوء تصرف رفيقه أو إضاعة ماله أو التفريط به وإنما حصل بسبب تقلبات السوق رغماً عن التاجر المبتدئ، فإن رفيقه الكبير يعطيه مالاً آخر ينجح ويرد عليه ماله الأول ويستمر في المال الثاني في طريق نجاحه حتى يصبح في عداد التجار الكبار ومثال على ذلك ما فعل عبيد بن عبدالله المسلماني برفيقه علي بن سعد الزرقا عندما كان هذا الأخير بالشام ومرض وخسر جل ما معه في العلاج فأرسل لرفيقه قصيدته التي يجد القارئ منها أبياتاً في مكان آخر من هذا الكتاب ومطلعها:
سار القلم بالحبر وابديت الأمثال * * * قلته وأنا عند الطبيب المداوي
فأمده عبيد بمال آخر يتاجر به حتى استعاد وضعه ونجح في تجارته ورد المال لصاحبه، ذلك قليل من كثير وإنما أوردت هذا المثل كنموذج لإثبات صحة ما أشرت إليه آنفاً، هذا فيما يتعلق بتعاملهم مع بعضهم البعض أما ما يتعلق بتعاملهم مع الآخرين من غير العقيلات فلا يقل تسامحاً عن تعاملهم مع بعضهم، ذلك أنهم يتعاملون مع تجار كبار مقيمين في عواصم الأقطار العربية ومع قبائل مختلفة يشترون منهم الإبل بأعداد كبيرة والخيل بأعداد طيبة كما يتعاملون مع أولئك التجار الكبار بنقل تجارتهم من مكان إلى آخر ويقومون بنقل أعداد كثيرة من الحجاج من مكان انطلاقهم في العراق والشام إلى الأماكن المقدسة لأداء فريضة الحج ثم العودة بهم إلى بلدانهم وينقلون التجار والرواد والمستشرقين كما مر بنا إلى أنحاء متعددة من أقطار الوطن العربي ويقومون بخدمة السلطات التي تستعين بهم لأداء خدمة لها سواء في المجال الحربي أو غيره فيؤدون هذه الخدمات بإخلاص وتفاني جاعلين نصب أعينهم المعاملة الحسنة من تلك الأطراف ما أمكن، ولهذا فإن نجاحهم يعزى إلى ما يتمتعون به من أخلاق سامية سبق تفصيلها في الفقرات السابقة وكان آخرها هذه الفقرة وهي مسك الختام المتمثلة في حسن التعامل مع الآخرين سواء أكانوا من العقيلات أو من غيرهم خلال فترة تواجدهم على الساحة، ولا تزال بقايا بصماتهم الأخلاقية منطبقة على من كان لهم احتكاك بهم أو ساروا على نهجهم في الجزيرة العربية أو خارجها وقد وجدت مرة تاجراً في حي الحسين بالقاهرة وعندما تجاذبنا الحديث وعرف أني من نجد قفزت من عينية دمعتان وهو يجر زفرة عميقة ويقول: أنت يا بني من بلد العقيلات الذين يتصفون بالأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة، فقد كنت مع أبي ألذي يتعامل معهم وكان الرجل في العقد الثامن من عمره، هكذا ترك العقيلات بصماتهم الأخلاقية ومضوا وكانوا زهرة من زهرات وقتهم.
منفول

راشد الصليحان
04-07-07, 11:16 pm
ماشاء الله عليهم وعلى اخلاقهم العــالية وعصاميتهم المتميزة لقــد جعلوا لأبناء القصيم تاريخ يتميزون به ..!
هم اهل التجارة والترحال بين البلدان والقبائل والشعوب ..!

لكنهم اخي العزيز ليسوا معصومين من الأخطاء وليسوا صحابة او فاتحين ...!
يجب ان لا نكون عطافيين ومداحين فقط ..!

شكرا لنقلك ...عن العقيلات اهل الجســارة والأمانة ..!

جيل2
04-07-07, 11:39 pm
ايه هذي العادات والتقاليد التي نفتخر و نعتز بها




راشد يازين صورك

مهب الريح
05-07-07, 12:44 am
شكرا لنقلك عزيزي

محبك,,:)

عبدالله30
05-07-07, 06:37 am
أهلا أخي عسيب0

الشجاعة. 2-الكرم. 3-الأمانة. 4-الصدق. 5-المروءة. 6-الإيثار. 7-حسن النية. 8-الثقة بالنفس. 9-الحذر. 10-حسن التعامل.

هذه الأخلاق الكل يعرفها فهي أخلاق العرب 0 وليست خاصة بفيئة دون أخرى0

تحياتي لك0