الطاحونة
26-06-07, 01:13 am
(( الهيئة بين التقويم والتقويض..! ))
لا أحد من بيننا فوق المساءلة والنّقد، وليس لأحد ادعاء العصمة أو توقُّعها، ولا خلاف بين ذوي البصائر حول مشروعية النّقد وتوقُّع الإيقاف للمساءلة، وكيف لا والذِّكرُ الحكيم يقول: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}...
... فسؤال الدنيا لذوي السُّلطة وسؤال الآخرة لمالك يوم الدِّين، والمناصحة من الكافة (والدِّين النصيحة).
ومن وَلِيَ من أمر المسلين شيئاً فلْيُعِدَّ للسؤال جواباً وإنْ كان ثمة اختلافٌ فإنّما هو في التوقيت والتقدير والموضوعية والمصداقية والبرهنة والجدل بالتي هي أحسن.
ومن تصوَّر نفسه (بَدْرِيّاً) وترقّب أن يقال له: (اعْمل ما شئت فقد غفر الله لك) أو عدّ نَفْسه من رواة (البخاري) المتجاوزين للقنطرة، فقد أسْرف على نفسه وعلى الناس والله لا يحب المسْرفين.
وما من عاقل مجرِّب يتوقّع أنّه لا مُعقِّب لقوله أو فعله، وما كان لأحد من أولي العزم أن ينطق عن الهوى، ولا أن يكون مَعْصُوماً إلاّ في مجال التبليغ عن الله؛ إذْ كل اجتهاد شخصي عُرضة للخطأ والصواب.
وكيف تتأتّى العصمة المطلقة والقرآن الكريم استدرك على الرسول صلى الله عليه وسلم بعض اجتهاداته البشرية وعاتبه على بعضها، ولم يدَعْه يلحق بالرفيق الأعلى إلاّ بعد أن صحَّح قوله وفعله وإقراره فيما لم يكن من عند الله، وهو قد نَبَّه أصحابه وأكَّد بشرّيته عند مَسْألة (التأبير) و(لحن الخصوم) وما يأتي من أمور الدنيا. والقرآن الكريم راجعه في (أسرى بدر) و(الصلاة على راس المنافقين) و(متخلفي تبوك) و(زواجه من زينب) و(تحريمه ما أحلّ الله له) وفي (ابن أم مكتوم)، وأشياء أخرى ما كان له أن يُخْفيها وقد تبلَّغها من ربه.
ويقيني أنّ العلماء والمجرّبين من رجال الحسبة يعرفون فوق ما نعرف، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما يثار، ولكن الذين يجدون في أنفسهم على طائفة من المؤسسات المحققة لحضارة الانتماء ثم لا يوفّقون في قول ولا فعل يتصوّرون أنّ مبعث التصدِّي لهم مستمد من ادعاء الفوقية والعصمة، ومع احتمال كل شيء فإنّ الوقوف عند هذا التصوُّر لا يعصم من أمر الله، ولا نقول في ظل هذا الاضطراب في المواقف والتصوُّرات إلاّ ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنّك تَهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) وما قولنا في حق الفرقاء إلاّ عن محبّة في الله وطمع في الاستقامة على المأمور، وتوقُّع الفوقية والعصمة، وتصوُّر ارتباط التصدِّي بهما عند من يحاول التقويم في نقده أو التقويض يستدعيان توهّم كل متوسم في نفسه كمال الإيمان والتقوى والاستقامة وتحقيق الخيرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنّه لن يُفْتَنَ وأنّ الناس أجمعين سيأخذونه بالأحضان ويقيلون عثرته، ويسترون سوأته، ولا يفترون عليه الكذب، ولا يشيعون عنه قالة السوء.
وهل غاب عن هؤلاء أو غَيَّبَ الوهمُ عنهم قول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
والذين يتدبَّرون آيات الله وسننه في فتنة المؤمنين والفتنة على الإيمان وأثر الفتنة على المؤمنين، يهون عليهم ما يتعرّضون له من غمز ولمز وإزلاق.
إنّ حسيس التذمُّر والاستغراب والتساؤل ينبئ عن توقُّعات خاطئة وتصوُّرات موهنة، وكيف تكف الألسنة والجوارح عن إيذاء ذوي الخير والشيطان يقعد لبني الإنسان كل مرصد ويجري من ابن آدم مجرى الدم، وأين نحن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها صَفِيّة) وما كف الله ألسنة الناس عن نفسه حتى لقد قال قائلهم: {يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ}.
وقيل عن رسوله الكريم ما لا يخفى على المتابعين لسيرته العطرة، فكيف والحالة تلك يستغرب البعض أن يكون لهذا المرفق الهام أعداء يحبون أن يشيعوا عنه قالة السوء، وتقديري أنّ المستغرب غارق إلى الأذقان في طيبة المؤمن وغفلته، وإلاّ كيف يتصوّر أنّ أمور منشأة لا تتحقق خيرية الأُمّة إلاّ بها ستكون مع كل الأطياف سمناً على عسل وأنّ كل شيء على ما يرام. وهل أحد سلم من الإيذاء بحيث يسلم زيدٌ من الناس.
ولولا ما تعانيه الهيئة من مجازفة في النّقد وتسرُّع في الشماتة لما اضطرت (أمارة الرياض) إلى إصدار بيانات توضيحية تناشد فيها التثبُّت والتبيُّن، وتصدِّي الإمارة لهذا الصنف من الكتبة والمخبرين يدلُّ على أنّ التصدِّي للهيئة من البعض ليس القصد منه ترشيد مسارها ولا تدارك أخطائها، إنّ المواجهة تنطوي على شبهات ما كان لها أن تكون في بلد يحمي حمى المقدسات وتهوي إليه أفئدة الناس، وهو مبعث النور ومثوى الجسد الطاهر، ودون ذلك فالدولة السعودية بأدوارها الثلاثة دولة الدعوة الإصلاحية إذ لم تقم إلاّ على الدِّين الخالص فلم تكن إقليمية ولا قبلية ولا طائفية، بل كانت سلفية مستنيرة متوازنة ترد إلى الله والرسول أو هكذا يجب أن تكون، وعزّها وتمكينها واستقرارها وثراؤها وسلامتها من أعاصير الفتن وضرباتها الاستباقية المسدّدة لكلِّ أفّاك أثيم إنْ هي إلاّ مقايضة من الأوفى الذي يعطي نقداً على النسيئة {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ }{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ومن أراد النصر بغير الإسلام خذله الله، لا نقول ذلك اتهاماً لأحد ولكنه تحذير لمن يحومون حول الحمى ويعرضون أنفسهم للغيبة بما يمارسونه من إيغال في النقد وتصديق للشائعات، وإشاعة ملحّة للأخطاء العارضة والمتوقّعة من مرفق يطارد المجاهرين بالمعاصي. وما نودّه من المتحسسين من عثرات تلك المؤسسة التي لا تتحقّق خيريّة الأُمّة إلاّ بقيامها أن يموضعوا مواقفهم فالحالة الانفعالية تحول دول تحوُّل الإحساس من الاهتياج العاطفي إلى الموضوعية المتلبسة بالواقعية ومتى ظلّ المتعقب مرتهناً لأهوائه حبيساً لعواطفه فَقَدَ التناجي مشروعيته، وكل الذين يأتون المؤسسة من قواعدها آثمون ومعتدون، والمصابون بداء الإطلاقات والنفخ في الشائعات ليسوا سواء مع الذين يضعون أيديهم على مكامن الخطأ بحيث يبادرون إلى إيقاف امتداده، ثم البدء بتقصِّي أسبابه والتماس البدائل التي ترشد المسار وتقي العثار، والمستغرب أنّ الخطأ يكبر في أعين البعض حين يقع من طرف بعينه، فيما تصغر العظائم عند وقوعها من آخرين وهذا مكمن الشك والتساؤل، والواجب ألاَّ يضار آمرٌ ولا ناهٍ وإن وجبت المناصحة والمحاسبة.
وإذ نتفق على أنّ لكلِّ عامل قدراً من الخطأ يكون في ظل المقبول والمتوقّع وغير المثير، فإنّ على المتعقّبين الذين ينقمون على المنشأة لأيِّ دافع أن يركزوا طاقاتهم العقلية لإبراز ما هو في نظرهم من الأخطاء المتجاوزة للحد المقبول، وإذا كانت ممارسات المنشأة مجال النقد تشكِّل مثيراً يستتبع ردّ الفعل، فإنّ من الإنصاف ألاّ ندع لعواطف الكره أن تطغى ولا للمنَبّهات الحسية أو المعنوية سبيلاً إلى افتراء الكذب والنفخ في الشائعات، والقارئ الواعي يفرِّق بين استباق الخيرات وداء الإسقاط، فالبعض من الكتبة يعانون مما في دواخلهم من ارتياب بحيث يستنزفون إمكانياتهم وطاقاتهم في تحميل الطرف الآخر جرائر ما يرتكبون،
وهذه النوعية تميل بطريقة لا شعورية إلى نفي مقترفاتها المتوقّع كشفها، أو هي تُبيِّتُ ما لا يرضي الله من القول أو الفعل ومن ثم تعرف سلفاً موقف هذه المنشأة، وهذه الهروبية تحت أي إحساس تتضاعف حتى تكون عقدة نفسية تصرف الكاتب.
وإذ نتفق على أنّ الإنسان مشروع خطأ، فإنّ الخطأ من حيث هو لا يبعث على الاستغراب، ولكن الدوافع والآثار والظروف والملابسات والحجم والتكرار والإصرار والتَّنَصُّل هي التي تحدد الموقف وأسلوب المواجهة، ومدار الأعمال على النوايا، ولسنا بقادرين على تحصيل ما في الصدور، ولكننا نقوِّمُ الأعمال من خلال ظواهرها، وقد نقع في الخطأ والرسول صلى الله عليه وسلم حذّر من ذلك في القضاء وشبَّه ما يقتطعه الألْحَنُ بقطعة من نار فليأخذ أو ليدع،
وما ندعو إليه من تحفُّظ وتحرٍّ وإقلال في اللوم لا يمنع من اقتفاء الأعمال والعاملين ومواجهة المخطئ بخطئه، ومن وَلِيَ أمراً من أمور المسلمين فعليه أن يتوقّع التقويم، ولا خير في أُمّة لا تواجه المسؤول بما هو عليه، وإن كان ثمة إشكالية فإنّها في أسلوب الأداء، فكم هو الفرق بين النصيحة والفضيحة، فالبعض منا لا يأتي البيوت من أبوابها وإنّما يتسلّق المحراب وينادي من وراء الحجرات، وما ضرّ لو تلطَّف الناقد وأخذ جانب اللِّين وتلك رحمة الله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ}، وكم من معاند أخذتْه العزّة بالإثم، ولعلّنا نذكر (جبلة بن الأيهم) وتنصُّره بعد إسلامه وندمه على فعلته: (تنصرت الأشراف من عار لطمة).
إنّ من مخايل النُّبل أن نمتلك الثقة ونتقبَّل النقد، ومن المصداقية والنزاهة ألاّ نشهد إلاّ بما علمنا، وأن يكون نقدنا بمقدار وبوثوقية.
وإذا كان المخطئ مجتهداً مستكملاً لآلية الاجتهاد وشروطه ثم لم يوفق، فإنّ تطهير النفس بتقبُّل المساءلة والجزاء أفضل من حمله إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، والنّافر من النقد الموضوعي والمفتري المحب لقالة السوء لن يتوفرا على القلب السليم، وعتبنا على الطرفين بمقدار، ودعوتنا للتوازن من المؤاخذ والثقة من المنقود، ومن حسنت نواياه وسلمت مقاصده من كلِّ الأطراف تستوي عنده كلمات الشكر وألفاظ العتاب، فهو لا ينتظر من عمله جزاءً ولا شكوراً، وله بصَفْوة الصَّفوة أسوة حسنة:- {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}. وما يُقدِّمُه المحتسب من قول أو فعل لا يدفعه إلى ذلك إلاّ حب الخير، وإذا حُرم التوفيق فلا أمل من أن لا يحرم الصبر والمصابرة والاحتساب.
لقد كثر الحديث عن الهيئة وارتاب الطيِّبون من هذا اللّغط ومن حقهم الارتياب وعرض ما يقال على كتاب الله وسنّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم فما كان منه حقاً وجب الإذعان له وما كان منه سوى ذلك وجب أن يُلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى به وجه صاحبه ولا كرامة، فثوابت الأُمّة ومحقّقات إيمانها ما هي إلاّ كحدقات العيون، ومع ذلك لا بدّ من التحرِّي وعدم اتهام أي ناقد فأخذ المقيم بالظاعن من عمل الظلمة.
والله المسؤول أن يعلي كلمته وأن يجعلنا خير أُمّة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ونقيم شعائر الدِّين.
((منقول من جريدة الجزيرة يوم الثلاثاء 5/6/1428هــ))
د. حسن بن فهد الهويمل
لا أحد من بيننا فوق المساءلة والنّقد، وليس لأحد ادعاء العصمة أو توقُّعها، ولا خلاف بين ذوي البصائر حول مشروعية النّقد وتوقُّع الإيقاف للمساءلة، وكيف لا والذِّكرُ الحكيم يقول: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}...
... فسؤال الدنيا لذوي السُّلطة وسؤال الآخرة لمالك يوم الدِّين، والمناصحة من الكافة (والدِّين النصيحة).
ومن وَلِيَ من أمر المسلين شيئاً فلْيُعِدَّ للسؤال جواباً وإنْ كان ثمة اختلافٌ فإنّما هو في التوقيت والتقدير والموضوعية والمصداقية والبرهنة والجدل بالتي هي أحسن.
ومن تصوَّر نفسه (بَدْرِيّاً) وترقّب أن يقال له: (اعْمل ما شئت فقد غفر الله لك) أو عدّ نَفْسه من رواة (البخاري) المتجاوزين للقنطرة، فقد أسْرف على نفسه وعلى الناس والله لا يحب المسْرفين.
وما من عاقل مجرِّب يتوقّع أنّه لا مُعقِّب لقوله أو فعله، وما كان لأحد من أولي العزم أن ينطق عن الهوى، ولا أن يكون مَعْصُوماً إلاّ في مجال التبليغ عن الله؛ إذْ كل اجتهاد شخصي عُرضة للخطأ والصواب.
وكيف تتأتّى العصمة المطلقة والقرآن الكريم استدرك على الرسول صلى الله عليه وسلم بعض اجتهاداته البشرية وعاتبه على بعضها، ولم يدَعْه يلحق بالرفيق الأعلى إلاّ بعد أن صحَّح قوله وفعله وإقراره فيما لم يكن من عند الله، وهو قد نَبَّه أصحابه وأكَّد بشرّيته عند مَسْألة (التأبير) و(لحن الخصوم) وما يأتي من أمور الدنيا. والقرآن الكريم راجعه في (أسرى بدر) و(الصلاة على راس المنافقين) و(متخلفي تبوك) و(زواجه من زينب) و(تحريمه ما أحلّ الله له) وفي (ابن أم مكتوم)، وأشياء أخرى ما كان له أن يُخْفيها وقد تبلَّغها من ربه.
ويقيني أنّ العلماء والمجرّبين من رجال الحسبة يعرفون فوق ما نعرف، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما يثار، ولكن الذين يجدون في أنفسهم على طائفة من المؤسسات المحققة لحضارة الانتماء ثم لا يوفّقون في قول ولا فعل يتصوّرون أنّ مبعث التصدِّي لهم مستمد من ادعاء الفوقية والعصمة، ومع احتمال كل شيء فإنّ الوقوف عند هذا التصوُّر لا يعصم من أمر الله، ولا نقول في ظل هذا الاضطراب في المواقف والتصوُّرات إلاّ ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنّك تَهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) وما قولنا في حق الفرقاء إلاّ عن محبّة في الله وطمع في الاستقامة على المأمور، وتوقُّع الفوقية والعصمة، وتصوُّر ارتباط التصدِّي بهما عند من يحاول التقويم في نقده أو التقويض يستدعيان توهّم كل متوسم في نفسه كمال الإيمان والتقوى والاستقامة وتحقيق الخيرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنّه لن يُفْتَنَ وأنّ الناس أجمعين سيأخذونه بالأحضان ويقيلون عثرته، ويسترون سوأته، ولا يفترون عليه الكذب، ولا يشيعون عنه قالة السوء.
وهل غاب عن هؤلاء أو غَيَّبَ الوهمُ عنهم قول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
والذين يتدبَّرون آيات الله وسننه في فتنة المؤمنين والفتنة على الإيمان وأثر الفتنة على المؤمنين، يهون عليهم ما يتعرّضون له من غمز ولمز وإزلاق.
إنّ حسيس التذمُّر والاستغراب والتساؤل ينبئ عن توقُّعات خاطئة وتصوُّرات موهنة، وكيف تكف الألسنة والجوارح عن إيذاء ذوي الخير والشيطان يقعد لبني الإنسان كل مرصد ويجري من ابن آدم مجرى الدم، وأين نحن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها صَفِيّة) وما كف الله ألسنة الناس عن نفسه حتى لقد قال قائلهم: {يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ}.
وقيل عن رسوله الكريم ما لا يخفى على المتابعين لسيرته العطرة، فكيف والحالة تلك يستغرب البعض أن يكون لهذا المرفق الهام أعداء يحبون أن يشيعوا عنه قالة السوء، وتقديري أنّ المستغرب غارق إلى الأذقان في طيبة المؤمن وغفلته، وإلاّ كيف يتصوّر أنّ أمور منشأة لا تتحقق خيرية الأُمّة إلاّ بها ستكون مع كل الأطياف سمناً على عسل وأنّ كل شيء على ما يرام. وهل أحد سلم من الإيذاء بحيث يسلم زيدٌ من الناس.
ولولا ما تعانيه الهيئة من مجازفة في النّقد وتسرُّع في الشماتة لما اضطرت (أمارة الرياض) إلى إصدار بيانات توضيحية تناشد فيها التثبُّت والتبيُّن، وتصدِّي الإمارة لهذا الصنف من الكتبة والمخبرين يدلُّ على أنّ التصدِّي للهيئة من البعض ليس القصد منه ترشيد مسارها ولا تدارك أخطائها، إنّ المواجهة تنطوي على شبهات ما كان لها أن تكون في بلد يحمي حمى المقدسات وتهوي إليه أفئدة الناس، وهو مبعث النور ومثوى الجسد الطاهر، ودون ذلك فالدولة السعودية بأدوارها الثلاثة دولة الدعوة الإصلاحية إذ لم تقم إلاّ على الدِّين الخالص فلم تكن إقليمية ولا قبلية ولا طائفية، بل كانت سلفية مستنيرة متوازنة ترد إلى الله والرسول أو هكذا يجب أن تكون، وعزّها وتمكينها واستقرارها وثراؤها وسلامتها من أعاصير الفتن وضرباتها الاستباقية المسدّدة لكلِّ أفّاك أثيم إنْ هي إلاّ مقايضة من الأوفى الذي يعطي نقداً على النسيئة {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ }{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ومن أراد النصر بغير الإسلام خذله الله، لا نقول ذلك اتهاماً لأحد ولكنه تحذير لمن يحومون حول الحمى ويعرضون أنفسهم للغيبة بما يمارسونه من إيغال في النقد وتصديق للشائعات، وإشاعة ملحّة للأخطاء العارضة والمتوقّعة من مرفق يطارد المجاهرين بالمعاصي. وما نودّه من المتحسسين من عثرات تلك المؤسسة التي لا تتحقّق خيريّة الأُمّة إلاّ بقيامها أن يموضعوا مواقفهم فالحالة الانفعالية تحول دول تحوُّل الإحساس من الاهتياج العاطفي إلى الموضوعية المتلبسة بالواقعية ومتى ظلّ المتعقب مرتهناً لأهوائه حبيساً لعواطفه فَقَدَ التناجي مشروعيته، وكل الذين يأتون المؤسسة من قواعدها آثمون ومعتدون، والمصابون بداء الإطلاقات والنفخ في الشائعات ليسوا سواء مع الذين يضعون أيديهم على مكامن الخطأ بحيث يبادرون إلى إيقاف امتداده، ثم البدء بتقصِّي أسبابه والتماس البدائل التي ترشد المسار وتقي العثار، والمستغرب أنّ الخطأ يكبر في أعين البعض حين يقع من طرف بعينه، فيما تصغر العظائم عند وقوعها من آخرين وهذا مكمن الشك والتساؤل، والواجب ألاَّ يضار آمرٌ ولا ناهٍ وإن وجبت المناصحة والمحاسبة.
وإذ نتفق على أنّ لكلِّ عامل قدراً من الخطأ يكون في ظل المقبول والمتوقّع وغير المثير، فإنّ على المتعقّبين الذين ينقمون على المنشأة لأيِّ دافع أن يركزوا طاقاتهم العقلية لإبراز ما هو في نظرهم من الأخطاء المتجاوزة للحد المقبول، وإذا كانت ممارسات المنشأة مجال النقد تشكِّل مثيراً يستتبع ردّ الفعل، فإنّ من الإنصاف ألاّ ندع لعواطف الكره أن تطغى ولا للمنَبّهات الحسية أو المعنوية سبيلاً إلى افتراء الكذب والنفخ في الشائعات، والقارئ الواعي يفرِّق بين استباق الخيرات وداء الإسقاط، فالبعض من الكتبة يعانون مما في دواخلهم من ارتياب بحيث يستنزفون إمكانياتهم وطاقاتهم في تحميل الطرف الآخر جرائر ما يرتكبون،
وهذه النوعية تميل بطريقة لا شعورية إلى نفي مقترفاتها المتوقّع كشفها، أو هي تُبيِّتُ ما لا يرضي الله من القول أو الفعل ومن ثم تعرف سلفاً موقف هذه المنشأة، وهذه الهروبية تحت أي إحساس تتضاعف حتى تكون عقدة نفسية تصرف الكاتب.
وإذ نتفق على أنّ الإنسان مشروع خطأ، فإنّ الخطأ من حيث هو لا يبعث على الاستغراب، ولكن الدوافع والآثار والظروف والملابسات والحجم والتكرار والإصرار والتَّنَصُّل هي التي تحدد الموقف وأسلوب المواجهة، ومدار الأعمال على النوايا، ولسنا بقادرين على تحصيل ما في الصدور، ولكننا نقوِّمُ الأعمال من خلال ظواهرها، وقد نقع في الخطأ والرسول صلى الله عليه وسلم حذّر من ذلك في القضاء وشبَّه ما يقتطعه الألْحَنُ بقطعة من نار فليأخذ أو ليدع،
وما ندعو إليه من تحفُّظ وتحرٍّ وإقلال في اللوم لا يمنع من اقتفاء الأعمال والعاملين ومواجهة المخطئ بخطئه، ومن وَلِيَ أمراً من أمور المسلمين فعليه أن يتوقّع التقويم، ولا خير في أُمّة لا تواجه المسؤول بما هو عليه، وإن كان ثمة إشكالية فإنّها في أسلوب الأداء، فكم هو الفرق بين النصيحة والفضيحة، فالبعض منا لا يأتي البيوت من أبوابها وإنّما يتسلّق المحراب وينادي من وراء الحجرات، وما ضرّ لو تلطَّف الناقد وأخذ جانب اللِّين وتلك رحمة الله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ}، وكم من معاند أخذتْه العزّة بالإثم، ولعلّنا نذكر (جبلة بن الأيهم) وتنصُّره بعد إسلامه وندمه على فعلته: (تنصرت الأشراف من عار لطمة).
إنّ من مخايل النُّبل أن نمتلك الثقة ونتقبَّل النقد، ومن المصداقية والنزاهة ألاّ نشهد إلاّ بما علمنا، وأن يكون نقدنا بمقدار وبوثوقية.
وإذا كان المخطئ مجتهداً مستكملاً لآلية الاجتهاد وشروطه ثم لم يوفق، فإنّ تطهير النفس بتقبُّل المساءلة والجزاء أفضل من حمله إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، والنّافر من النقد الموضوعي والمفتري المحب لقالة السوء لن يتوفرا على القلب السليم، وعتبنا على الطرفين بمقدار، ودعوتنا للتوازن من المؤاخذ والثقة من المنقود، ومن حسنت نواياه وسلمت مقاصده من كلِّ الأطراف تستوي عنده كلمات الشكر وألفاظ العتاب، فهو لا ينتظر من عمله جزاءً ولا شكوراً، وله بصَفْوة الصَّفوة أسوة حسنة:- {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}. وما يُقدِّمُه المحتسب من قول أو فعل لا يدفعه إلى ذلك إلاّ حب الخير، وإذا حُرم التوفيق فلا أمل من أن لا يحرم الصبر والمصابرة والاحتساب.
لقد كثر الحديث عن الهيئة وارتاب الطيِّبون من هذا اللّغط ومن حقهم الارتياب وعرض ما يقال على كتاب الله وسنّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم فما كان منه حقاً وجب الإذعان له وما كان منه سوى ذلك وجب أن يُلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى به وجه صاحبه ولا كرامة، فثوابت الأُمّة ومحقّقات إيمانها ما هي إلاّ كحدقات العيون، ومع ذلك لا بدّ من التحرِّي وعدم اتهام أي ناقد فأخذ المقيم بالظاعن من عمل الظلمة.
والله المسؤول أن يعلي كلمته وأن يجعلنا خير أُمّة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ونقيم شعائر الدِّين.
((منقول من جريدة الجزيرة يوم الثلاثاء 5/6/1428هــ))
د. حسن بن فهد الهويمل