" ربما لا تجدون في مستقبل أمركم مكاناً تتنزهون فيه!"
هذا ما كان يقوله أبي - رحمه الله - حين همّ بشراء (مزرعة)...
إن هناك فئة كثيرة من الناس لا تستهويهم الحدائق بأزهارها , ولا الملاهي بضوضائها ,
ولكنهم يجدون أنفسهم حين يعيشون الطبيعة كما خلق الله, لم تغيرها يد المخلوقين , ولم تعبث بها حرفة الصناع.
بيد أنهم يجدون صعوبةً بالغة ً, ويسيرون مسافاتٍ شاسعة, لعلهم أن يجدوا مكاناً يتنزهون فيه, بعيداً عن زحام الناس وطرقاتهم!
بالطبع فهم يمرون على أماكن جميلة , صالحةٍ للتنزه , ولكنهم لا يستطيعون دخولها , تمنعهم أسلاكٌ شائكة , أو لوحات قائمة , عليها توقيع(أملاك خاصة)!.
لم يعد هذا سراً فنكتمه , ولكنه أصبح ظاهرةً جلية , يتحدث بها الناس في مجالسهم , غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً من تلك الجزيرة المباركة .
ما معنى أن تسير في طريقٍ جديد , أو أنه لم يزل بعد تحت الإنشاء, فتفاجأ بأن الأراضي ذات المساحات الشاسعة , والرمال المترامية - على جوانب ذلك الطريق - أصبحت أملاكاً خاصة بعد أن كانت أرضاً خلاء ليس فيها أثر حياة !!
كيف تحجز تلك الأراضي الواسعة - أودية كانت أو رمالاً - مع كونها لا تصلح لسكن أو زراعة؟ .. إنه الجشع والتفاخر, والأثرة والتكاثر..
استوقفني هنا كلام الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في تعليقه على حديث النبي صلى الله عليه وسلم 
من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طوقه في سبع أرضين يوم القيامة ) قال الشيخ رحمه الله :"الشح في الأراضي شديد , والاعتداء عليها عقابه شديد , حتى إن العلماء قالوا : لا يجوز للإنسان أن يزيد في تلييس الجدار أكثر مما جرت به العادة , لأنه يأخذ بهذه الزيادة من السوق (الطريق), وهو مشترك ... "اهـ
الله المستعان , فليست القضية اليوم زيادة في تلييس جدار أو حتى بضعة أمتار ، ولكنها فراسخ وأميال...!
إنني لأجزم أن كثيراً من أصحاب تلك الأراضي تمر عليه الأعوام تلو الأعوام ولم يأت لها مرة واحدة , إن كان يعلم بها أصلاً!!
زد على ذلك أن أولئك الطامعين يتملكون أو يمنحون أراض كبيرة قد تضيق على أهل المدن أو المحافظات طرقهم ومراعيهم ..
أما ذلك المواطن (العادي) الذي يروم أرضاً يسكنها ولو كمفحص قطاة ! فإنه إذا مُنح فقد يمنح أرضاً في أقصى الأرض الخالية , إلا من كان لديه جاه أو واسطة!!
إن الذي دفعني لهذا المقال وهذه الصراحة ما رأيته من مواقف مشرفة من خادم الحرمين الشريفين - وفقه الله لكل خير – الذي أوقف تلاعب الكثير بالمنح والأموال العامة , وما محاسبة المقصرين في كارثة جدة عنا ببعيد, أياً كانت مرتبتهم أو حجمهم!.
وآمل أن ينظروا لتلك القضية نظرة تأمل , بحيث لاتوضع أي حواجز أو نحوها إلا على أرض ذات زرع وبقدر زراعتها , فـ (المسلمون شركاء في ثلاث , في الماء والكلأ والنار)
قال الخطابي: " كان أهل الجاهلية إذا عزّ الرجل منهم حمى بقعةً من الأرض لماشيته ترعاها, يذود الناس عنها , فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك , وجعل الناس فيه شركاء يتعاورونه بينهم ..."اهـ
وما أكثر – في زماننا هذا – أن يحمي الرجل (إذا عزّ)!! الأرض ذات الكلأ والعشب , فيحميها لماشيته ويذود الناس عنها، وهي ليست ملكاً له!
ثم ما المانع وحتى لو فرضنا أن الأرض مملوكة أن تفتح لعابر سبيل أو قاصدٍ متنزه , ما دامت لم تزرع أو تسكن ؟!
إقرأ معي تلك اللوحة:
(( هذه الأرض مملوكة , ومرحباً بك متنزهاً فيها , ونأمل المحافظة على نظافتها))
رائعة ,, أليس كذلك؟
عفواً .. ليست تلك حقيقة , ولكنها حلم بريء , أو إن شئت فقل : أمنية ! .
أولى بأمثال هؤلاء (ملاّك الأراضي) أن يتنافسوا بمثل ذلك , وأن يجعلوا تلك الأراضي التي ورثوها عن آبائهم , أو منحوها من الدولة , أو اشتروها واقتطعوا ما حولها!, أليس من الأولى لهم أن يتركوها متنزها ومتنفساً للناس , ابتغاء الأجر والمثوبة ,أوطلباً لدعوة صادقة بأن يبارك الله لهم , أو حذراً من دعوة مظلوم قد ضُيِّق عليه ..
أمّا أن توضع حواجز وأسلاك شائكة على تلك القفار الشاسعة , لأجل بضعة غنيمات , أو ثلاث ناقات , أو خمس نخلات , فهذه أنانيةٌ مبغوضة , وأثرةٌ مستكرهة.
همسة/
قال صلى الله عليه وسلم: ( لو أن لابن آدم وادياً من ذهب , أحب أن يكون له واديان , ولن يملأ فاه إلا التراب , ويتوب الله على من تاب).
فهل أشبعهم التراب؟!
فارس بن محمد الكثيري
العرض العادي
